قوله تعالى : { قال } ، الله تعالى يا إبليس : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } ، أي : ما منعك أن تسجد و( لا ) زائدة كقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء :95 ] .
قوله تعالى : { قال } ، إبليس مجيباً له .
قوله تعالى : { أنا خير منه } لأنك .
قوله تعالى : { خلقتني من نار وخلقته من طين } ، والنار خير وأنور من الطين ، قال ابن عباس : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس . قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس ، قال محمد بن جرير : ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل ، وقد فضل الله الطين على النار ، وقالت الحكماء : للطين فضل على النار ، من وجوه منها : أن من جوهر الطين الرزانة والوقار ، والحلم والصبر ، وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبق له إلى التوبة والتواضع والتضرع ، فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش ، والجرأة والارتفاع ، وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ، فأورثه اللعنة والشقاوة ، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ، ولأن التراب سبب الحياة ، فإن حياة الأشجار والنبات به ، والنار سبب الهلاك .
فوبخه اللّه على ذلك وقال : { مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ } لما خلقت بيديَّ ، أي : شرفته وفضلته بهذه الفضيلة ، التي لم تكن لغيره ، فعصيت أمري وتهاونت بي ؟
{ قَالَ } إبليس معارضا لربه : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله : { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }
وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين وصعودها ، وهذا القياس من أفسد الأقيسة ، فإنه باطل من عدة أوجه :
منها : أنه في مقابلة أمر اللّه له بالسجود ، والقياس إذا عارض النص ، فإنه قياس باطل ، لأن المقصود بالقياس ، أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص ، يقارب الأمور المنصوص عليها ، ويكون تابعا لها .
فأما قياس يعارضها ، ويلزم من اعتباره إلغاءُ النصوص ، فهذا القياس من أشنع الأقيسة .
ومنها : أن قوله : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث . فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه وتكبره ، والقول على اللّه بلا علم . وأي نقص أعظم من هذا ؟ "
ومنها : أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب ، فإن مادة الطين فيها الخشوع والسكون والرزانة ، ومنها تظهر بركات الأرض من الأشجار وأنواع النبات ، على اختلاف أجناسه وأنواعه ، وأما النار ففيها الخفة والطيش والإحراق .
ثم حكى القرآن الكريم الأسباب التي حملت إبليس على عدم السجود لآدم فقال : { قَالَ مَا مَنَعَكَ . . . . } .
أى : قال الله - تعالى - لإبليس : ما ألزمك واضطرك إلى أن لا تسجد لآدم ؟ فالنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار . أو ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد ؟ فالمنع مجاز عن الحمل . والاستفهام للتوبيخ والتقريع .
و ( لا ) في قوله : { أَلاَّ تَسْجُدَ } مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود . وتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كأنه قيل : ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك .
وقد حكى القرآن ما أجاب به إبليس فقال : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } أى : قال إبليس أنا خير من آدم ، لأنى مخلوق من عنصر النار الذي هو أشرف من عنصر الطين ، والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه .
قال ابن كثير : " وقول إبليس - لعنة الله - { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } . . . إلخ . من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، إذ بين بأنه خير من آدم لأنه خلق من النار وآدم خلق من الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ول ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله - تعالى - خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص ، وهو قوله - تعالى - : { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } فشذ من بين الملائكة لترك السجود فأبعده الله عن رحمته ، وكان قياسه فاسداً لأن النار ليست أشرف من الطين ، فإن الطين من شأنه الرزانة والأناة والتثبت ، وهو محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح ، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ، ولهذا خان إبليس عنصره ، ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله . وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم ما وصف لكم " .
قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى : { مَا [ مَنَعَكَ ]{[11580]} أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } لا هاهنا زائدة .
وقال بعضهم : زيدت لتأكيد الجحد ، كقول الشاعر :
فأدخل " إن " وهي للنفي ، على " ما " النافية ؛ لتأكيد النفي ، قالوا : وكذلك هاهنا : { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ } مع تقدم قوله : { لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ }
حكاهما ابن جرير{[11581]} وردهما ، واختار أن " منعك " تضمن معنى فعل آخر تقديره : ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك ، ونحو ذلك . وهذا القول قوي حسن ، والله أعلم .
وقول إبليس لعنه الله : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول ، يعني لعنه الله : وأنا خير منه ، فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه ، بأنه خلق من نار ، والنار أشرف مما خلقته منه ، وهو الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ، ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى : { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 72 ] فشذ من بين الملائكة بتَرْك السجود ؛ فلهذا{[11582]} أبلس من الرحمة ، أي : أيس من الرحمة ، فأخطأ قَبَّحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا ، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت ، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح . والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ؛ ولهذا خان إبليس عنصره ، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة .
وفي صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُلِقَت الملائكة من نور ، وخُلقَ إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم " هكذا رواه مسلم{[11583]} .
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إسماعيل ، عن عبد الله بن مسعود ، حدثنا نُعَيم ابن حماد ، حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله الملائكة من نور العرش ، وخلق الجان من [ مارج من ]{[11584]} نار ، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم " . قلت لنعيم بن حماد : أين سمعت هذا من عبد الرزاق ؟ قال : باليمن{[11585]} وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح : " وخلقت الحور العين من الزعفران " {[11586]} .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كثير ، عن ابن شَوْذَب ، عن مطر الوَرَّاق ، عن الحسن في قوله : { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال : قاس إبليس ، وهو أول من قاس . إسناده صحيح .
وقال : حدثني عمرو بن مالك ، حدثني يحيى بن سليم الطائفي{[11587]} عن هشام ، عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس{[11588]} إسناد صحيح أيضا .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس إذ عصاه ، فلم يسجد لاَدم إذ أمره بالسجود له ، يقول : قالَ الله لإبليس : ما مَنَعَكَ أيّ شيء منعك ألاّ تَسْجُدَ : أن تدع السجود لاَدم ، إذْ أمَرْتُكَ أن تسجد . قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ يقول : قال إبليس : أنا خير من آدم ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ .
فإن قال قائل : أخبرنا عن إبليس ، ألحقته الملامة على السجود أم على ترك السجود ؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود ، فكيف قيل له : ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ إذْ أمرْتُكَ ؟ وإن كان النكير على السجود ، فذلك خلاف ما جاء به التنزيل في سائر القرآن ، وخلاف ما يعرفه المسلمون . قيل : إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود لاَدم إذ أمره بالسجود له ، غير أن في تأويل قوله : ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافا أبدأ بذكر ما قالوا ، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : ما منعك أن تسجد ، و«لا » ههنا زائدة ، كما قال الشاعر :
أبَى جُودُه لا البُخْلَ واستَعْجَلَتْ بِهِ ***نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ قَاتِلَهْ
وقال : فسرته العرب : أبي جودة البخل ، وجعلوا «لا » زائدة حشوا ههنا وصلوا بها الكلام . قال : وزعم يونس أن أبا عمرو كانَ يجرّ «البخل » ، ويجعل «لا » مضافة إليه ، أراد : أبي جوده «لا » التي هي للبخل ، ويجعل «لا » مضافة ، لأن «لا » قد تكون للجود والبخل ، لأنه لو قال له : امنع الحقّ ولا تعط المسكين ، فقال «لا » كان هذا جودا منه .
وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله ، غير أنه زعم أن العلة في دخول «لا » في قوله : أنْ لا تَسْجُدَ أن في أوّل الكلام جحدا ، يعني بذلك قوله : لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد الجحد ، كالاستيثاق والتوكيد له قال : وذلك كقولهم :
ما إنْ رأيْنا مِثْلَهُنّ لِمَعْشَرٍ ***سُودِ الرّءُوسِ فَوَالِجٌ وَفُيُولُ
فأعاد على الجحد الذي هو «ما » جحدا ، وهو قوله «إن » فجمعهما للتوكيد .
وقال آخر منهم : ليست «لا » بحشو في هذا الموضع ، ولا صلة ، ولكن المنع ههنا بمعنى القول . إنما تأويل الكلام : من قال لك لا تسجد إذا أمرتك بالسجود ؟ ولكن دخل في الكلام «أنْ » إذا كان المنع بمعنى القول لا في لفظه ، كما يفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول ، وهو له في اللفظ مخالف كقولهم : ناديت أن لا تقم ، وحلفت أن لا تجلس ، وما أشبه ذلك من الكلام .
وقال بعض من روى : «أبي جوده لا البخل » بمعنى : كلمة البخل ، لأن «لا » هي كلمة البخل ، فكأنه قال : كلمة البخل .
وقال بعضهم : معنى المنع : الحول بين المرء وما يريده ، قال : والممنوع مضطّر به إلى خلاف ما منع منه ، كالممنوع من القيام وهو يريده ، فهو مضطّر من الفعل إلى ما كان خلافا للقيام ، إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه ، فيؤثر أحدهما على الاَخر فيفعله قال : فلما كانت صفة المنع ذلك ، فخوطب إبليس بالمنع ، فقيل له : ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ كان معناه : كأنه قيل له : أيّ شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد .
قال أبو جعفر : والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال : إن في الكلام محذوفا قد كفى دليل الظاهر منه ، وهو أن معناه : ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد ؟ فترك ذكر أحوجك استغناء بمعرفة السامعين . قوله : إلاّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ أن ذلك معنى الكلام من ذكره ، ثم عمل قولهما مَنَعَكَ في أن ما كان عاملاً فيه قبل أحوجك لو ظهر إذ كان قد ناب عنه .
وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له ، وأن لكلّ كلمة معنى صحيحا ، فتبين بذلك فساد قول من قال «لا » في الكلام حشو لا معنى لها . وأما قول من قال : معنى المنع ههنا : القول ، فلذلك دخلت «لا » مع «أن ، فإن المنع وإن كان قد يكون قولاً وفعلاً ، فليس المعروف في الناس استعمال المنع في الأمر بترك الشيء ، لأن المأمور بترك الفعل إذا كان قادرا على فعله وتركه ففَعَله لا يقال فعله وهو ممنوع من فعله إلا على استكراه للكلام وذلك أن المنع من الفعل حوّل بينه وبينه ، فغير جائز أن يكن وهو محُول بينه وبينه فاعلاً له ، لأنه إن جاز ذلك وجب أن يكون محولاً بينه وبينه لا محولاً وممنوعا لا ممنوعا وبعد ، فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى بالسجود لاَدم كِبرا ، فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود لاَدم ، فيجوز أن يقال له : أيّ شيء قال لك لا تسجد لاَدم إذ أمرتك بالسجود له ؟ ولكن معناه إن شاء الله ما قلت : ما منعك من السجود له ، فأحوجك ، أو فأخرجك ، أو فاضطّرك إلى أن لا تسجد له على ما بيّنت .
وأما قوله : أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فإنه خبر من الله جلّ ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله : ما الذي منعه من السجود لاَدم ، فأحوجه إلى أن لا يسجد له ، واضطرّه إلى خلافه أمره به وتركه طاعته أن المانع كان له من السجود والداعي له إلى خلافه أمر ربه في ذلك أنه أشدّ منه أيدا وأقوى منه قوّة وأفضل منه فضلاً ، لفضل الجنس الذي منه خلق وهو النار ، من الذي خلق منه آدم وهو الطين فجهل عدوّ الله وجه الحقّ ، وأخطأ سبيل الصواب ، إذ كان معلوما أن من جوهر النار : الخفة والطيش والاضطراب والارتفاع علوّا ، والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حمل الخبيثَ بعد الشقاء الذي سبق له من الله في الكتاب السابق على الاستكبار عن السجود لاَدم والاستخفاف بأمر ربه ، فأورثه العطب والهلاك ، وكان معلوما أن من جوهر الطين : الرزانة والأناة والحلم والحياء والتثبت ، وذلك الذي في جوهره من ذلك كان الداعي لاَدم بعد السعادة التي كانت سبقت له من ربه في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ، ومسئلته ربه العفو عنه والمغفرة ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان : «أوّل من قاس إبليس » ، يعنيان بذلك : القياس الخطأ ، وهو هذا الذي ذكرنا من خطأ قوله وبُعده من إصابة الحقّ في الفضل الذي خصّ الله به آدم على سائر خلقه من خلقه إياه بيده ، ونفخه فيه من روحه ، وإسجاده له الملائكة ، وتعليمه أسماء كلّ شيء مع سائر ما خصه به من كرامته فضرب عن ذلك كله الجاهل صفحا ، وقصد إلى الاحتجاج بأنه خلقه من نار وخلق آدم من طين ، وهو في ذلك أيضا له غير كفء ، لو لم يكن لاَدم من الله جلّ ذكره تكرمة شيء غيره ، فكيف والذي خصّ به من كرامته يكثر تعداده ويُمِلّ إحصاؤه ؟ .
حدثني عمرو بن مالك ، قال : حدثنا يحيى بن سليم الطائفي ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : أوّل من قاس إبليس ، وما عُبِدَتِ الشمس والقمر إلا بالمقاييس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن ابن شوذب ، عن مطر الورّاق ، عن الحسن ، قوله : خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قال : قاس إبليس وهو أوّل من قاس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما خلق الله آدم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات : اسجدوا لاَدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر ، لما كان حدّث نفسه من كبره واغتراره ، فقال : لا أسجد له ، وأنا خير منه ، وأكبر سنّا ، وأقوى خلقا ، خلقتني من نار وخلقته من طين . يقول : إن النار أقوى من الطين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : خَلقْتَني منْ نارٍ قال : ثم جعل ذرّيته من ماء .
قال أبو جعفر : وهذ الذي قاله عدوّ الله ليس لما سأله عنه بجواب ، وذلك أن الله تعالى ذكره قال له : ما منعك من السجود ؟ فلم يجب بأن الذي منعه من السجود : أنه خلقه من نار ، وخلق آدم من طين ، ولكنه ابتدأ خبرا عن نفسه ، فيه دليل على موضع الجواب ، فقال : أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي منْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ .
{ قال ما منعك ألا تسجد } أي أن تسجد ولا صلة مثلها في لئلا يعلم ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود . وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافة فكأنه قيل : ما اضطرك إلى ألا تسجد . { إذ أمرتك } دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور . { قال أنا خير منه } جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله كأنه قال : المانع أني خير منه ، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر به . فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولا . { خلقتني من نار وخلقته من طين } تعليل لفضله عليه ، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليها بقوله تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } أي بغير واسطة ، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله : { ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم ، وأن له خواص ليست لغيره ، والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة ، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب .
قوله : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } ابتداء المحاورة ، لأنّ ترك إبليس السّجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله : { أسجدوا لآدم } ، فكان بحيث يتوجّه إليه استفسار عن سبب تركه السّجود ، وضمير : { قال } عائد إلى معلوم من المقام أي قال اللَّهُ تعالى بقرينة قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا } ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قُلنا ، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتاً ، نكتته تحويل مقام الكلام ، إذ كان المقامُ مقام أمرٍ للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة .
و { مَا } للاستفهام ، وهو استفهام ظاهره حقيقي ، ومشوب بتوبيخ ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة .
و { منعك } معناه صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] ، فلذلك كان ذكر ( لا ) هنا على خلاف مقتضى الظاهر ، فقيل هي مزيدة للتّأكيد ، ولا تفيد نفياً ، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غيرَ التّأكيد . و ( لاَ ) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } [ البلد : 1 ] وقوله { لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم أهل الكتاب علماً محقّقاً . وقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعاً محقّقاً ، وهذا تأويل الكسائي ، والفراء ، والزّجاج ، والزّمخشري ، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كوننِ السّجود غير واقععٍ فلا ينبغي تأكيده خفاءٌ لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد ، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل .
وقيل ( لا ) نافية ، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه { منعك } لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه ، فكأنّه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد ، فإمّا أن يكون { منعك } مستعملاً في معنى دعَاك ، على سبيل المجاز ، و ( لا ) هي قرينة المجاز ، وهذا تأويل السكاكي في « المفتاح » في فصل المجاز اللّغوي ، وقريبٌ منه لعبد الجبّار فيما نقله الفخر عنه ، وهو أحسن تأويلاً ، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان ، فذُكر أحدهما وحذف الآخر ، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف ، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه .
وانظر ما قلتُه عند قوله تعالى : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني } في سورة طه ( 92 ، 93 ) .
وقوله : { إذ أمرتك } ظرف ل { تسجد } ، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له ، إمّا لأنّه صنف من الملائكة ، فخلق الله إبليس أصلاً للجنّ ليجعل منه صنفاً مُتَمِّيزاً عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية ، وهذا هو ظاهر القرآن ، وإليه ذهب كثير من الفقهاء ، وقد قال الله تعالى : { إلا إبليس كانَ من الجنّ } [ الكهف : 50 ] الآية ، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات ، وإبليس أصل ذلك النّوع ، جعله الله في عداد الملائكة ، فكان أمرهم شاملاً له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار ، وفي « صحيح مسلم » ، عن عائشة رضي الله عنها : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار " وإلى هذا ذهب المعتزلة وبعض الأشاعرة ، وقد يكون المراد من النّار نوراً مخلوطاً بالمادة ، ويكون المراد بالنّور نوراً مجرداً ، فيكون الجنّ نوعاً من جنس الملائكة أحطّ ، كما كان الإنسان نوعاً من جنس الحيوان أرقى .
وفُصِل : { قال أنا خير منه } لوقوعه على طريقة المحاورات .
وبَيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيراً من آدم ، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم ، وهذا معصية صريحة ، وقوله : { أنا خير منه } مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام .
وجملة : { خلقتني من نار } بيان لجملة : { أنا خير منه } فلذلك فصلت ، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن .
وحصَل لإبليس العلم بكونه مخلوقاً من نار ، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقَه ، أو بإخبار من الله تعالى .
وكونه مخلوقاً من النّار ثابت قال تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار } [ الرحمن : 14 ، 15 ] وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف ( 50 ) : { فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه } واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم .
والنّار هي الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة ، كالنّار التي في الشّمس ، وإذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد .
والنار أفضل من التّراب لقوّة تأثيرها وتسلّطها على الأجسام التي تلاقيها ، ولأنّها تضيء ، ولأنّها زكيّة لا تلصق بها الأقذار ، والتّراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكوّن منه الأجسام الحيّة كلّها .
وأمّا النّور الذي خُلق منه الملَكُ فهو أخلَص من الشّعاع الذي يبيّن من النّار مجرّدا عن ما في النّار من الأخلاط الجثمانيّه .
والطّينُ التّراب المختلط بالماء ، والماءُ عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار والتّراب ، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلّها أنّ شرف النّار على التّراب مقرّر ، وأنّ إبليس أُوخذ بعصيان أمر الله عصياناً باتّاً ، والله تعالى لمّا أمر الملائكه بالسّجود لآدم قد عَلِم استحقاق آدمَ ذلك بما أوْدع الله فيه من القوّة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزّكاء والتّقديس ، فأمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره وذلك ليس كافياً في التّفضيل وحده ، ما لم يَكن كِيَانُه من ذلك العنصر مهيّئاً إياه لبلوغ الكمالات ، لأنّ العبرة بكيفيّة التّركيب ، واعتبار خصائص المادة المركّب منها بعد التّركيب ، بحسب مقصد الخالق عند التّركيب ، ولا عبرة بحالة المادة المجرّدة ، فاللَّه تعالى ركب إبليس من عنصر النّار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الفساد والاندفاع إليه بالطّبع دون نظر ، بحسب خصائص المادة المركّب هو منها ، وركّب آدم من عنصر التّراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الخبر والصّلاح والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنّظر ، بحسب ما تسمح به خصائص المادّة المركّب هو منها ، وكلّ ذلك منوط بحكمة الخالق للتّركيب ، وركّب الملائكة من عنصر النّور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة ، والاندفاع إلى ذلك بالطّبع دون اختيار ولا نظر ، بحسب خصايص عنصرهم ، ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكيّة أعلى وأعجب ، وكان مبلغه إلى الرّذائل الشّيطانيّة أحطّ وأسهل ، ومن أجل ذلك خوطب بالتّكليف .
ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم أصل النّوع البشري لأنّه سجود اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة ، وأمر إبليس بالسّجود له كذلك ، فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته ، وانتظروا البيان ، كما حكى عنهم بقوله : { قالوا سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] فجاءهم البيان مجملاً بقوله : { إنّي أعلَمُ ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] ثمّ مفصّلا بقصّة قوله : { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } [ البقرة : 31 ] إلى قوله { وما كنتم تكتمون } في سورة البقرة ( 33 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس إذ عصاه، فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له، يقول: قالَ الله لإبليس:"ما مَنَعَكَ" أيّ شيء منعك "ألاّ تَسْجُدَ": أن تدع السجود لاَدم، "إذْ أمَرْتُكَ "أن تسجد. "قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ" يقول: قال إبليس: أنا خير من آدم، "خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"...
وأما قوله: "أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" فإنه خبر من الله جلّ ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله: ما الذي منعه من السجود لآدم، فأحوجه إلى أن لا يسجد له، واضطرّه إلى خلافه أمره به وتركه طاعته، أن المانع كان له من السجود والداعي له إلى خلافه أمر ربه في ذلك أنه أشدّ منه أيدا وأقوى منه قوّة وأفضل منه فضلاً، لفضل الجنس الذي منه خلق وهو النار، من الذي خلق منه آدم وهو الطين، فجهل عدوّ الله وجه الحقّ، وأخطأ سبيل الصواب... وهذ الذي قاله عدوّ الله ليس لما سأله عنه بجواب، وذلك أن الله تعالى ذكره قال له: ما منعك من السجود؟ فلم يجب بأن الذي منعه من السجود: أنه خلقه من نار، وخلق آدم من طين، ولكنه ابتدأ خبرا عن نفسه، فيه دليل على موضع الجواب، فقال: "أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي منْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ".
{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب بنفس وروده غير محتاج إلى قرينة في إيجابه؛ لأنه علق الذم بتركه الأمر المطلق.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قال: {أنا خير منه} ادَّعى الخيرية، وكان الواجب عليه -لولا الشقوة- أَنْ يؤثِرَ التذلَّلَ على التكبُّر، لا سيما والخطاب الوارد عليه من الحقِّ. ثم إنه وإنْ سَلَكَ طريق القياس فلا وجه له مع النَّفس لأنه بِحَظٍّ، فلم يزِدْه قياسُه إلا في استحقاق نفيه إذ ادَّعى الخيرية بجوهره، ولم يعلم أن الخيرية بحكمه -سبحانه- وقسمته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَلاَّ تَسْجُدَ} «لا» في {أَن لا تَسْجُدَ} صلة بدليل قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} [ص: 75] ومثلها {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] بمعنى ليعلم: فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب. وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك؟ {إِذْ أَمَرْتُكَ} لأن أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً وأحتمه عليك حتماً لا بدّ منه، فإن قلت: لم سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه؟ قلت: للتوبيخ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم، وأنه خالف أمر ربه معتقداً أنه غير واجب عليه، لما رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب. فإن قلت: كيف يكون قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} جواباً لما منعك، وإنما الجواب أن يقول: منعني كذا؟ قلت: قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم، وبعلة فضله عليه، وهو أنّ أصله من نار وأصل آدم من طين، فعلم منه الجواب وزيادة عليه، وهي إنكار للأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله، كأنه يقول: من كان على هذه الصفة كان مستبعداً أن يؤمر بما أُمر به.
لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء، لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة. ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، والنور من الظلمة والظلمة من النور، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر. وأيضا التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل، فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه، وأيضا فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة. ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
وينبغي أن تعلم أن إبليس إنما كفر بنسبة الله تعالى إلى الجور والتصرف الذي ليس بمرضي، ظهر ذلك من فحوى قوله: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}. ومراده: أن إلزام العظيم الجليل بالسجود للحقير من التصرف الرديء والجور والظلم، فهذا وجه كفره. وقد أجمع المسلمون على أن من نسب الله تعالى لذلك فقد كفر لأنه من الجرأة العظيمة. (الفروق: 4/134- 135)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم"
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك} أي قال تعالى له ما منعك من امتثال الأمر فحملك على أن لا تسجد لآدم مع الساجدين في الوقت الذي أمرتك فيه بالسجود؟...
{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} أي منعني من ذلك أنني أنا خير منه لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين، والنار خير من الطين وأشرف، ولا ينبغي للأشرف أن يكرم من دونه ويعظمه، أي وإن أمره بذلك ربه، وهذا الجواب يتضمن ضروبا من الجهل الفاضح، ما أوقع اللعين فيها إلا حسده وكبره فإنهما يعميان البصائر.
الأول: الاعتراض على ربه وخالقه كما تضمنه جوابه، ومثله في هذا كل من يعترض على كلام الله تعالى فيما لا يوافق هواه، وهذا كفر لا يقع مثله من مؤمن بالله وبكتابه، فإن المؤمن إذا خفيت عليه حقيقة أو حكمة لله في شيء من كلامه بحث عنها بالتفكر والبحث وسؤال العلماء وصبر إلى أن يهتدي إلى ما يطمئن به قلبه مكتفيا قبل ذلك بأن الله تعالى يعلم ما لا يعلم من حقائق خلقه وحكم شرعه وفوائد أمره ونهيه.
الثاني: الاحتجاج عليه بما يؤيد به اعتراضه والمؤمن المذعن لا يحتج على ربه بل يعلم أن لله الحجة البالغة.
الثالث: جعل امتثال أمر الرب تعالى مشروطا باستحسان العبد له وموافقته لرأيه وهواه، وهو رفض لطاعة الرب، وترفع عن مرتبة العبد، وتعال منه إلى وضع نفسه موضع الند، وهو في حكم الدين كفر، وفي العقل حماقة وجهل. فإن الرئيس لأية حكومة أو جيش أو جمعية أو شركة إذا كان لا يطيعه المرؤوسون له إلا فيما يوافق أهواءهم لا يلبث أمرهم أن يفسد بأن تختل الحكومة وتسقط وينكسر الجيش ويهلك وتنحل الشركة وتفلس، وهكذا يقال في كل مصلحة يقوم بإدارتها كثرة، يرجع نظامها إلى جهة واحدة، كبوارج الحرب وسفن التجارة ومعامل الصناعة، فإذا كان الصلاح والنظام في كل أمر يتوقف على طاعة الرئيس وهو ليس ربا تجب طاعته لذاته ولا لنعمه، ولا معصوما من الخطأ فيما يأمر به، فما القول في وجوب طاعة رب العالمين على عبيده؟ ويشارك إبليس في هذا الجهل وما قبله كثيرون ممن يسمون أنفسهم مؤمنين: يتركون طاعة الله تعالى فيما أمر به مما يخالف أهواءهم ويحتجون على ترك الصيام مثلا بأن لا فائدة في الجوع والعطش، أو بأن الله غني عن صيامهم على أن حكم الصيام كثيرة جلية كما بيناها مرارا في التفسير (ج 2) و في المنار...
الرابع: الاستدلال على الخيرية بالمادة التي كان منها التكوين، وهذا جهل ظاهر من وجوه: الأول: أن خيرية المواد بعضها على بعض ليس من الحقائق التي يمكن إثباتها بالبرهان، وإنما هي أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء والأهواء. وأصول المخلوقات المختلفة التركيب عناصر بسيطة قليلة... ثانيها: أن بعض الأشياء النفيسة أصلها خسيس، فالمسك من الدم، وجوهر الألماس من الكربون الذي هو أصل الفحم، والأقذار التي تعاف من مادة الطعام الذي يشتهي ويحب، ثالثها: أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من مارج من نار وهو اللهب المختلط بالدخان فما فوقه دخان وما تحته لهب صاف فإن مادة المرج معناها الخلط والاضطراب. ولا شك في أن النور خير من النار والنار الصافية خير من اللهب المختلط بالدخان. وقد سجد الملائكة المخلوقون من النور امتثالا لأمر الله تعالى فكان هو أولى، بل أولى بأن يقال له: أولى لك فأولى.
الخامس: إذا سلمنا جدلا أن خيرية الشيء ليست في ذاته وصفاته الخاصة التي تفصلها عن غيرها من مقومات نوعه ومشخصات نفسه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره، وإنما هي تابعة للمادة التي هي أصل جنسه فلا نسلم أن النار خير من الطين فإن جميع الأحياء النباتية والحيوانية في هذه الأرض مخلوقة من الطين بالذات أو بالواسطة وهي خير ما فيها بكل نوع من أنواع الاعتبارات التي تعرفها العقول، وليس للنار أو لمارجها مثل هذه المزايا ولا ما يقرب منها.
السادس: أن اللعين غفل عما خص الله به آدم من خلقه بيده، والنفخ فيه من روحه، وجعل استعداده العلمي والعملي فوق استعداد غيره من خلقه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، وجعله بتلك المزايا أفضل من أولئك الملائكة، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة.
فهذه أصول الجهل والغباوة التي أوقع إبليس فيها حسده لآدم واستكباره عن طاعة الله بالسجود له. وأنت ترى أن أولياءه ونظراءه من شياطين الإنس مرتكسون فيها كلها والعياذ بالله تعالى. قال قتادة: حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة وقال أنا ناري وهذا طيني فكان بدء الذنوب الكبر، واستكبر عدو الله أن يسجد لآدم فأهلكه بكبره وحسده. وسيأتي تفسير الكبر والتكبر.
وهذا التفصيل مبني على كون الأمر بالسجود للتكليف وأنه وقع حوار فيه بين الرب سبحانه وبين إبليس. وأما على القول بأن الأمر للتكوين (كما سيأتي عن ابن كثير) وأن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، فالمعنى أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها كما قال تعالى: {فالمدبرات أمرا} (النازعات 5) مسخرة لآدم وذريته إذ خلق الله هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها بعلمه بسنن الله تعالى فيها، وبعمله بمقتضى هذه السنن كخواص الماء والهواء والكهرباء والنور والأرض ومعادنها ونباتها وحيوانها، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها، ومستعدا لاصطفاء الله بعض أفراده واختصاصهم بوحيه ورسالته وإقامة من اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه. وقد أشير إلى ذلك في سورة البقرة بقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة 31) إلا أنه جعل الشيطان عاتيا متمردا على الإنسان بل عدوا له من حيث إن الإنسان بروحه وسط بين روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سننه في صلاح الخلق وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم وهم الشياطين التمرد والعصيان وقد أعطي الإنسان إرادة واختيارا من ربه في ترجيح ما به يصعد إلى أفق الملائكة وما به يهبط إلى أفق الشياطين وسيأتي تفصيل ذلك في هذا السياق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} ابتداء المحاورة، لأنّ ترك إبليس السّجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله: {أسجدوا لآدم}، فكان بحيث يتوجّه إليه استفسار عن سبب تركه السّجود، وضمير: {قال} عائد إلى معلوم من المقام أي قال اللَّهُ تعالى بقرينة قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا}، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: قُلنا، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتاً، نكتته تحويل مقام الكلام، إذ كان المقامُ مقام أمرٍ للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة.
و {مَا} للاستفهام، وهو استفهام ظاهره حقيقي، ومشوب بتوبيخ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة.
و {منعك} معناه: صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]، فلذلك كان ذكر (لا) هنا على خلاف مقتضى الظاهر، فقيل هي مزيدة للتّأكيد، ولا تفيد نفياً، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غيرَ التّأكيد. و (لاَ) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1] وقوله {لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله} [الحديد: 29] أي ليعلم أهل الكتاب علماً محقّقاً. وقوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعاً محقّقاً، وهذا تأويل الكسائي، والفراء، والزّجاج، والزّمخشري، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كونن السّجود غير واقع فلا ينبغي تأكيده خفاءٌ لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل.
...وقوله: {إذ أمرتك} ظرف ل {تسجد}، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له، إمّا لأنّه صنف من الملائكة، فخلق الله إبليس أصلاً للجنّ ليجعل منه صنفاً مُتَمِّيزاً عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية، وهذا هو ظاهر القرآن، وإليه ذهب كثير من الفقهاء، وقد قال الله تعالى: {إلا إبليس كانَ من الجنّ} [الكهف: 50] الآية، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات، وإبليس أصل ذلك النّوع، جعله الله في عداد الملائكة، فكان أمرهم شاملاً له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار...
وفُصِل: {قال أنا خير منه} لوقوعه على طريقة المحاورات.
وبَيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيراً من آدم، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم، وهذا معصية صريحة، وقوله: {أنا خير منه} مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام.
وجملة: {خلقتني من نار} بيان لجملة: {أنا خير منه} فلذلك فصلت، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن...
والنّار هي: الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة، كالنّار التي في الشّمس، وإذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد...
والطّينُ: التّراب المختلط بالماء، والماءُ عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار والتّراب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وخاطبه الله بلهجة الإنكار، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}؟! هل هناك غموض في طبيعة الأمر، أو هناك تصور بعدم شمول الخطاب له؟ لا شيء من هذا وذاك، لأن الأمر واضح في شموله للمجتمع كله، ولكن إبليس كان يعيش في وادٍ آخر، فقد كانت عنصريته تمنعه من أن يتنازل لعنصر آخر، وكان هاجسه ذاته لا ربه، فهي كل شيء بالنسبة إليه؛ أما علاقته بالله، فإنها تخضع لعلاقته بأنانية نفسه، فإذا ابتعدت عن تأكيد ذلك منه، ابتعد عنه؛ وهكذا كان جوابه: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ}، فكيف يسجد الأعلى للأسفل، والأفضل للمفضول، فعنصري أقوى من عنصره وأرفع درجة؛ {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فأنا مخلوق من النار وهو مخلوق من الطين، والنار تفني الطين، فكيف أتواضع له؟!...