قوله تعالى : { فتلقى } . والتلقي : هو قبول عن فطنة وفهم ، وقيل : هو التعلم .
قوله تعالى : { آدم من ربه كلمات } . قراءة العامة : آدم برفع الميم ، وكلمات بخفض التاء . قرأ ابن كثير : آدم بالنصب ، كلمات برفع التاء يعني جاءت الكلمات آدم من ربه ، وكانت سبب توبته . واختلفوا في تلك الكلمات قال سعيد بن جبير و مجاهد و الحسن : هي قوله " ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية . وقال مجاهد و محمد ابن كعب القرظي : هي قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين . وقال عبيد بن عمير : هي أن آدم قال يا رب أرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني ؟ قال الله تعالى : لا بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك . قال يا رب فكما قدرته قبل أن تخلقني فاغفر لي . وقيل : هي ثلاثة أشياء الحياء والدعاء والبكاء ، قال ابن عباس : بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً ، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة ، وروى المسعودي عن يونس بن خباب وعلقمة ابن مرثد قالوا : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة . قال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما هبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى .
قوله تعالى : { فتاب عليه } . فتجاوز عنه .
{ فَتَلَقَّى آدَمُ } أي : تلقف وتلقن ، وألهمه الله { مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } وهي قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } الآية ، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته { فَتَابَ } الله { عَلَيْهِ } ورحمه { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } لمن تاب إليه وأناب .
وتوبته نوعان : توفيقه أولا ، ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا .
{ الرَّحِيمِ } بعباده ، ومن رحمته بهم ، أن وفقهم للتوبة ، وعفا عنهم وصفح .
ثم حكى القرآن أن آدم قد بادر بطلب العفو والمغفرة من ربه فقال : { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } .
التلقي في الأصل : التعرض للقاء ، ثم استعمل بمعنى أخذ الشيء وقبوله ، تقول : تلقيت رسالة من فلان . أي أخذتها منه وقبلتها .
والكلمات : جمع كلمة ، وهي اللفظة الموضوعة لمعنى ، وأرجح ما قيل في تعيين هذه الكلمات ، ما أشار إليه القرآن في سورة الأعراف بقوله :
{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } والتوبة في أصل اللغة معناها : الرجوع ، وإذا عديت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية إلى الطاعة ، وإذا عديت بعلى - كما في هذه الآية - كان معناها قبول التوبة ، فالعبد يتوب عن المعصية ، والله يتوب على العبد أي : يقبل توبته .
وجملة { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } واردة مورد التعليل لقوله : { فَتَابَ عَلَيْهِ } .
والتواب وصف له - تعالى - من تاب ، أي : قبل التوبة ، وجاء التعبير بصيغة فعّال : للإِشعار بأنه كثير القبول للتوبة من عباده ، وليدل على أنه يقبل توبة العبد وإن وقعت بعد ذنب يرتكبه ويتوب منه ثم يعود إليه بعد التوبة ثم يتوب بعد العودة إليه توبة صادقة نصوحاً .
قيل : إن هذه{[1607]} الكلمات مفسرة بقوله تعالى : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] روي هذا عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب القُرَظي ، وخالد بن مَعْدان ، وعطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن رجل من بني تميم ، قال : أتيت ابن عباس ، فسألته : [ قلت ]{[1608]} : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال : عُلم [ آدم ]{[1609]} شَأنَ الحج .
وقال سفيان الثوري ، عن عبد العزيز بن{[1610]} رُفَيع ، أخبرني من سمع عبيد بن عُمَير ، وفي رواية : [ قال ]{[1611]} : أخبرني مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، أنه قال : قال آدم : يا رب ، خطيئتي التي أخطأت شيء كتبتُه علي قبل أن تخلقني ، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك . قال : فكما كتبته علي فاغفر{[1612]} لي . قال : فذلك قوله تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ }
وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : فتلقى آدم من ربه كلمات ، قال : قال آدم ، عليه السلام : يا رب ، ألم تخلقني بيدك ؟ قيل{[1613]} له : بلى . ونفخت في من روحك ؟ قيل{[1614]} له : بلى . وعَطستُ فقلتَ : يرحمك الله ، وسبقت رحمتُك غَضبَك ؟ قيل{[1615]} له : بلى ، وكتبت عليّ أن أعمل هذا ؟ قيل{[1616]} له : بلى . قال : أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال : نعم .
وهكذا رواه العوفي ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن مَعْبَد ، عن ابن عباس ، بنحوه . ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[1617]} وهكذا فسره السدي وعطية العَوْفي .
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيهًا بهذا فقال : حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال آدم ، عليه السلام : أرأيت يا رب إن تبتُ ورجعتُ ، أعائدي إلى الجنة ؟ قال : نعم . فذلك قوله : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ }{[1618]} .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال : إن آدم لما أصاب الخطيئة قال : يا رب ، أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ قال الله : إذن أرجعك إلى الجنة فهي من الكلمات . ومن الكلمات أيضا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال : الكلمات : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فارحمني ، إنك{[1619]} خير الراحمين . اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي : إنه يتوب على من تاب إليه وأناب ، كقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 11 ] ، وقوله : { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [ الفرقان : 71 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده ، لا إله إلا هو التواب الرحيم .
وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم قال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي ، أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي . قال فأوحى الله إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به ، وفرجت همومه وغمومه ، ونزعت فقره من بين عينيه ، وأجرت له من وراء كل تاجر زينة الدنيا وهي كلمات عهد وإن لم يزدها " رواه الطبراني في معجمه الكبير{[1620]} .