قوله تعالى : { يوم نطوي السماء } قرأ أبو جعفر : تطوى السماء بالتاء ، وضمها وفتح الواو والسماء رفع على المجهول ، وقرأ العامة بالنون وفتحها وكسر الواو ، والسماء نصب ، { كطي السجل للكتب } قرأ حمزة و الكسائي وحفص عن عاصم : للكتب على الجمع ، وقرأ الآخرون : للكتاب على الواحد ، واختلفوا في السجل ، فقال السدي : السجل ملك يكتب أعمال العباد ، واللام زائدة ، أي كطي السجل الكتب كقوله ( ردف لكم ) اللام فيه زائدة ، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون : السجل الصحيفة للكتب أي لأجل ما كتب معناه : كطي الصحيفة على مكتوبها ، والسجل اسم مشتق من المساجلة وهي المكاتبة ، والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر ، { كما بدأنا أول خلق نعيده } أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة ، نظيره قوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنكم محشورون حفاة عراة غرلا } ثم قرأ : { كما بدأنا أول خلق نعيده } . { وعدا علينا إنا كنا فاعلين } يعني الإعادة والبعث .
{ 104 - 105 } { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات - على عظمها واتساعها - كما يطوي الكاتب للسجل أي : الورقة المكتوب فيها ، فتنثر نجومها ، ويكور شمسها وقمرها ، وتزول عن أماكنها { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } أي : إعادتنا للخلق ، مثل ابتدائنا لخلقهم ، فكما ابتدأنا خلقهم ، ولم يكونوا شيئا ، كذلك نعيدهم بعد موتهم .
{ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } ننفذ ما وعدنا ، لكمال قدرته ، وأنه لا تمتنع منه الأشياء .
ثم ختم - سبحانه - سورة الأنبياء ببيان جانب من أحوال هذا الكون يوم القيامة ، وببيان سننه فى خلقه ، وببيان نعمه على عباده ، وببيان ما أمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { يَوْمَ نَطْوِي . . . } .
قوله - سبحانه - : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ . . } الظرف فيه منصوب بقوله - تعالى - قبل ذلك { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } أو بقوله - سحبانه - : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة } وقوله : { نَطْوِي } من الطى وهو ضد النشر . والسجل : الصحيفة التى يكتب فيها .
والمراد بالكتب : ما كتب فيها من الألفاظ والمعانى ، فالكتب بمعنى المكتوبات . واللام بمعنى على .
والمعنى : إن الملائكة تتلقى هؤلاء الأخيار الذين سبقت لهم من الله - تعالى - الحسنى بالفرح والسرور ، يوم يطوى - سبحانه - السماء طيا مثل طى الصحيفة على ما فيها من كتابات .
وفى هذا التشبيه إشعار بأن هذا الطى بالنسبة لقدرته - تعالى - فى منتهى السهولة واليسر ، حيث شبه طيه السماء بطى الصحيفة على ما فيها .
وقيل : إن لفظ { السجل } اسم لملك من الملائكة ، وهو الذى يطوى كتب أعمال الناس بعد موتهم .
والإضافة فى قوله { كَطَيِّ السجل } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والجار والمجرور صفة لمصدر مقدر . أى : نطوى السماء طيا كطى الرجل أو الملك الصحيفة على ما كتب فيها .
وقرأ أكثر القراء السبعة : ( للكتاب ) بالإفراد . ومعنى القراءتين واحد لأن المراد به الجنس فيشمل كل الكتب .
وقوله - تعالى - : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } بيان لصحة الإعادة قياسا على البدء ، إذ الكل داخل تحت قدرته - عز وجل - .
أى : نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا إياه ، دون أن ينالنا تعب أو يمسنا لغوب ، لأن قدرتنا لا يعجزها شىء : قال - تعالى - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } قال صاحب الكشاف : " وما أول الخلق حت يعيده كما بدأه ؟ قلت : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولا عن عدم . يعيده ثانيا عن عدم " .
وقوله - تالى - : { وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } تأكيد للإعادة . ولفظ " وعدا " منصوب بفعل محذوف . و " علينا " فى موضع الصفة له .
أى : هذه الإعادة وعدنا بها وعدا كائنا علينا باختيارنا وإرادتنا ، إنا كنا محققين هذا الوعد ، وقادرين عليه ، والعاقل من يقدم فى دنياه العلم الصالح الذى ينفعه عند بعثه للحساب .
ويختم المشهد بمنظر الكون الذي آل إليه . وهو يشارك في تصوير الهول الآخذ بزمام القلوب ، وبزمام الكائنات كلها في ذلك اليوم العصيب :
( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) . .
فإذا السماء مطوية كما يطوي خازن الصحائف صحائفه ؛ وقد قضي الأمر ، وانتهى العرض ، وطوي الكون الذي كان يألفه الإنسان . . وإذا عالم جديد وكون جديد :
( كما بدأنا أول خلق نعيده ) . . ( وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) . .
جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانِه إبطالاً لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيم { وقالوا أإذا كنا تراباً وعظاماً أإنا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى { لهم فيها زفير } [ الأنبياء : 100 ] وقوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] الآية .
وقد رُتّب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة . وأصل الجملة : نعيد الخلق كما بدأنا أولَ خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعْداً علينا . فحُوّل النظم فقدم الظرف بادىء ذي بَدء للتشويق إلى متعلقه ، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباققِ إذ جعل ابتداءُ خلق جديد وهو البعث مؤقتاً بوقت نقض خَلق قديم وهو طي السماء .
وقدم { كما بدأنا أول خلق } وهو حال من الضمير المنصوب في { نعيده } للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضلَ تمكّن . وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث ، فليس قوله { يوم نطوي السماء } متعلقاً بما قبله من قوله تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] .
وعقب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعداً على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب ، فعدي بحرف ( على ) في قوله تعالى : { وعداً علينا } أي حقاً واجباً .
وجملة { إنا كنا فاعلين } مؤكّدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نَفَوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله .
والمراد بقوله { فاعلين } أنه الفاعل لِما وُعد به ، أي القادر . والمعنى : إنا كنا قادرين على ذلك .
وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله { كما بدأنا أول خلق نعيده } .
والطّيُّ : رَدُّ بعض أجزاء الجسم الليِّن المطلوق على بعْضه الآخر ، وضدّه النشر .
والسجل : بكسر السين وكسر الجيم هنا ، وفيه لغات . يطلق على الورقة التي يكتب فيها ، ويُطلق على كاتب الصحيفة ، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف ، أي صاحب السجل ، وقيل سجل : اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها .
ولا يحسن حملهُ هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطيّ إليه ولا إردافه لقوله { للكتاب } أو { للكتب ، } ولا حملهُ على معنى المَلَك الموكَل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهوراً فكيف يشبه بفعله . فالوجه : أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها ، وذلك عمل معروف . فالتشبيه بعمله رشيق .
وقرأ الجمهور { للكتاب } بصيغة الإفراد ، وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف { للكُتب } بضم الكاف وضم التاء بصيغة الجمع . ولما كان تعريف السجل وتعريفُ الكتاب تعريفَ جنس استوى في المعرّف الإفرادُ والجمعُ . فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة ، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السِجل مفرداً ففيها حسن التفنن بالتضاد .
ورسمُها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يُحذف في مثله .
واللام في قوله { للكتاب } لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول { طَيّ } .
ومعنى طي السماء تغييرُ أجرامها من موقع إلى موقع أو اقترابُ بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليَكتب الكاتب في إحدى صفحتيها ، وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي ، وهو انقراض له أحوال كثيرة وُصف بعضها في سُور من القرآن .
وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها ، وفي [ سورة الزمر : 67 ] { والسماوات مطويات بيمينه } ومسألة دثور السماوات ( أي اضمحلالها ) فَرَضَها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر ( انكسمائس ) المَلْطي و ( فيثاغورس ) و ( أفلاطون ) .
وقرأ الجمهور { نطوي } بنون العظمة وكسر الواو ونصب { السماء } . وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنياً للنائب وبرفع { السماء } .
والبَدء : الفعل الذي لم يُسبق مماثله بالنسبة إلى فاعللٍ أو إلى زماننٍ أو نحو ذلك . وبَدْء الخلق كونه لم يكن قبل ، أي كما جعلنا خلْقاً مبدوءاً غير مسبوق في نوعه .
ومعنى إعادة الخلق : إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق باعتبار أنه فرد من جنس إذَا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى : { سنعيدها سيرتها الأولى } أي مثل سيرتها في جنسها ، أي في أنها عصا من العصيّ .
وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده } أن إعادة خلق الأجسام شبّهت بابتداء خلقها . ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام على أن التشبيه صالح للمماثلة في غير ذلك . روى مسلم عن ابن عباس قال : « قام فينا رسول الله بموعظة فقال : يا أيها الناس إنكم تُحشرون إلى الله حُفاة عراة غُرْلاً { كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } » الحديث . فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق . وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا .
وانتصب { وعداً } على أنه مفعول مطلق ل { نعيده } لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة . ويجوز كونه مفعولاً مطلقاً مؤكداً لمضمون جملة { كما بدأنا أول خلق نعيده } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} يعني: كطي الصحيفة فيها الكتاب. ثم قال سبحانه: {كما بدأنا أول خلق نعيده} وذلك أن كفار مكة أقسموا بالله جهد أيمانهم... {لا يبعث الله من يموت} [النحل:38] فأكذبهم الله، عز وجل، فقال سبحانه بلى وعدا عليه حقا: {كما بدأنا أول خلق نعيده} يقول: هكذا نعيد خلقهم في الآخرة، كما خلقناهم في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا يحزنهم الفزع الأكبر، يوم نطوي السماء...
["كطي السجل للكتب"]... السجلّ في هذا الموضع: الصحيفة، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب...
فإن قال قائل: وكيف تَطْوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجلّ صحيفة؟ قيل: ليس المعنى كذلك، وإنما معناه: يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ على ما فيه من الكتاب ثم جعل «نطوِي» مصدرا، فقيل: كَطَيّ السّجِلّ لِلْكِتابِ واللام في قوله «للكتاب» بمعنى «على»...
وعند قوله: "كَطَيّ السّجِلّ "انقضاء الخبر عن صلة قوله: "لا يَحْزُنهُمُ الْفَزَعُ الأْكْبَرُ"، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره: "كمَا بَدَأْنا أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ "فالكاف التي في قوله: «كمَا» من صلة «نعيد»، تقدّمت قبلها، ومعنى الكلام: نعيد الخلق عُراة حُفاة غُرْلاً يوم القيامة، كما بدأناهم أوّل مرّة في حال خلقناهم في بطون أمهَاتهم، على اختلاف من أهل التأويل في تأويل ذلك.
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل، وبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك اخترت القول به على غيره...
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: ثني المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ النّاسُ حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً، فَأوّلَ مَنْ يُكْسَى إبراهِيمُ» ثم قرأ: "كمَا بَدأْنا أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ"...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كما كنا ولا شيء غيرنا قبل أن نخلق شيئا، كذلك نهلك الأشياء فنعيدها فانية، حتى لا يكون شيء سوانا...
وقوله: "وَعْدا عَلَيْنا" يقول: وعدناكم ذلك وعدا حقّا علينا أن نوفي بما وعدنا، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس، لأنه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله، على يقين بأن ذلك كائن، واستعدوا وتأهبوا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
والسجلّ: اسم مشتقّ من المساجلة وهي المكاتبة، وأصلها من السجل وهو الدلو، يقال: سجلت الرجل إذا نزعت دلواً ونزع دلواً ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة،...
والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضدّ النشر، قال الله سبحانه {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو والطمس؛ لأنّ الله سبحانه يمحو رسومها ويكدر نجومها، قال الله سبحانه وتعالى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير: 1-2] تقول العرب: اطو عن فلان هذا الحديث أي استره وأخفه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(كما بدأنا أول خلق نعيده) أي: قدرتنا على إعادة الخلق كقدرتنا على إنشائه. وقوله: (إنا كنا فاعلين) أي: قادرين عليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم، يعيده ثانياً عن عدم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال، تتشوف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه، قال تعالى شافياً لعيّ هذا السؤال، زيادة في تهويل ذلك اليوم لمن له وعي: {يوم} أي تكون هذه الأشياء يوم {نطوي} أي بما لنا من العظمة الباهرة {السماء} طياً فتكون كأنها لم تكن؛ ثم صور طيّها بما يعرفون فقال مشبهاً للمصدر الذي دل عليه الفعل: {كطيّ السجل} أي الكتاب [لعل الأصوب: الكاتب] الذي له العلو والقدرة على مكتوبه {للكتب} أي القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وإنما قلت ذلك لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب -قاله في القاموس، واختير للفاعل لفظ السجل لما مضى في سورة هود من أن هذه المادة تدور على العلو، وللمطوي لفظ الكتاب الدال على الجمع، لكونه لازماً للطي، مع أن ذلك أنسب لما جعل كل منهما مثالاً له، وقراءة المفرد لمقابلة لفظ السماء، والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السماوات تطوى...
ولما كان هذا عند من لا يعلم أعظم استبعاداً من استبعادهم إعادة الموتى، قال دالاًّ عليه مقرباً له إلى العقول بتشبيه الإعادة بالإبداء، في تناول القدرة لهما على السواء، فإنه كما أخرجه بعلم من خزائن قدرته كذلك يرده بعلمه في خزائن قدرته، كما يصنع في نور السراج ونحوه إذا أطفئ، فكذا في غيره من جميع الأشياء {كما} أي مثل ما {بدأنا} أي بما عُلم لنا من العظمة {أول خلق} أي تقدير أيّ تقدير كان، نكره ليفيد التفصيل واحداً واحداً، بمعنى أن كل خلق جل أو قل سواء في هذا الحكم، وهو أنا {نعيده} أي بتلك العظمة بعينها، غير ناسين له ولا غافلين ولا عاجزين عنه، فما كان متضامّ الأجزاء فمددناه نضمه بعد امتداده، وما كان ميتاً فأحييناه نميته بعد حياته، وما كان حياً فأمتناه نحييه بعد موته، ونعيد منهم من التراب من بدأناه منه، والحاصل أن من أوجد شيئاً لا يبعد عليه التصرف فيه كيفما كان...
ثم أعلم أن ذلك أمر لابد منه بالتعبير بالمصدر تأكيداً لما أنكروه وبالغوا في إنكاره فقال: {وعداً} وأكد بقوله: {علينا} وزاده بقوله: {إنا كنا} أي أزلاً وأبداً، على حالة لا تحول {فاعلين} أي شأننا أن نفعل ما نريد، لا كلفة علينا في شيء من ذلك بوجه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانِه إبطالاً لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيم، {وقالوا أإذا كنا تراباً وعظاماً أإنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى {لهم فيها زفير} [الأنبياء: 100] وقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] الآية...
وأصل الجملة: نعيد الخلق كما بدأنا أولَ خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعْداً علينا...
فليس قوله {يوم نطوي السماء} متعلقاً بما قبله من قوله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة} [الأنبياء: 103].
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
والمتبادر أن طي السماء وتمثيلها بالورقة التي تطوى للكتابة إنما قصد به توكيد قدرة الله، فالناس يستعظمون ما يرونه من مشاهد الكون، وبخاصة السماء ويستعظمون البعث بعد الموت، فكأنما أريد أن يقال لهم بمثل: إن ما تستعظمونه ليس هو بالنسبة إلى قدرة الله إلا شيئا تافها وإن يمثل لهم بمثل يستطيعون فهمه. وهذا المعنى قد تكرر في مواضع كثيرة في صدد القيامة وأحداثها بأساليب متنوعة. والتنويع دليل على صحة ما نقرره إن شاء الله، وقصد تقرير قدرة الله على ذلك بارز في آية في سورة الزمر فيها عبارة مماثلة وهي: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون 67}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ} فتغيب وتختفي حتى لا يراها أحد، وتبقى في علم الغيب عند الله، {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} وهو الصحيفة التي تشتمل على الكتب من خلال ما تعبر عنه من الألفاظ والمعاني التي تسجل فيها فتغيب عندما يغلق السجل، فلا يراها أحد. وذلك هو المظهر الحيّ لقدرة الله، في ما يوحي به من سيطرته المطلقة على الكون كله، فيتصرف به كما يشاء، فلا ينتقص من قدرته شيء، في ما يألفه الناس وما لا يألفونه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند انتهاء الدنيا، ففي الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح، وتقرأ كلّ رسومه وخطوطه، وكلّ منها في مكان معيّن، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكلّ رسومه وخطوطه. طبعاً، لا يعني طي العالم الفناء كما يتصوّر البعض، بل يعني تحطّمه وجمعه، وبتعبير آخر: فإنّ شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض، لكن لا تفنى مواده، وهذه الحقيقة تستفاد من العبيرات المختلفة في آيات المعاد، وخاصةً من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة،... ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأُولى، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة أُخرى كما كانوا في بداية الخلق. ولكن لا شكّ أنّ هذا لا يعني انحصار معنى الآية في ذلك واقتصاره عليه، بل إنّه أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الأُولى...