41- أيها المؤمنون ، إذا دعا داعي الجهاد فلبوا النداء أفراداً وجماعات - كل على قدر حاله - ناشطين بالقوة والسلامة والسلاح ، وجاهدوا بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله . ففي ذلك العز والخير لكم . . إن كنتم من أهل العلم الصحيح والمعرفة الحقة{[83]} .
قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } ، قال الحسن والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة : شبانا وشيوخا . وعن ابن عباس : نشاطا وغير نشاط . وقال عطية العوفي : ركبانا ومشاة . وقال أبو صالح : خفافا من المال ، أي فقراء ، وثقالا أي : أغنياء . وقال ابن زيد : الثقيل الذي له الضيعة ، فهو ثقيل يكره أن يدع ضيعته ، والخفيف لا ضيعة له . ويروى عن ابن عباس قال : خفافا أهل المسيرة من المال ، وثقالا أهل العسرة . وقيل : خفافا من السلاح ، أي : مقلين منه ، وثقالا أي : مستكثرين منه . وقال الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل . وقال مرة الهمذاني : أصحاء ومرضى . وقال يمان بن رباب : عزابا ومتأهلين . وقيل : خفافا من حاشيتكم وأتباعكم ، وثقالا مستكثرين بهم . وقيل : خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير ، وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له . " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ، قال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليل صاحب ضر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع . وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : نسخت هذه الآية بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } . وقال السدي : لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } الآية .
{ 41 - 42 } { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
يقول تعالى لعباده المؤمنين -مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } أي : في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والحر والبرد ، وفي جميع الأحوال .
{ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : ابذلوا جهدكم في ذلك ، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس ، وفي هذا دليل على أنه -كما يجب الجهاد في النفس- يجب الجهاد في المال ، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك .
ثم قال : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : الجهاد في النفس والمال ، خير لكم من التقاعد عن ذلك ، لأن فيه رضا اللّه تعالى ، والفوز بالدرجات العاليات عنده ، والنصر لدين اللّه ، والدخول في جملة جنده وحزبه .
وبعد هذا التذكير للمؤمنين بما كان منه - سبحانه - من تأييد لرسوله عند هجرته ، أمرهم - جل شأنه - بالنفير في كل حال فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أنه - تعالى - لما توعد من لا ينفر مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وضرب له من الأمثال ما وصفنا ، ابتعه بهذا الأمر الجازم فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } .
والمراد : انفروا سواء أكنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها ، أو على الصفة التي يثقل . وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة .
منها : { خِفَافاً } في النفور لنشاطكم له ، و { وَثِقَالاً } عنه لمشقته عليكم .
ومنها : { خِفَافاً } لقلة عيالكم ، و { وَثِقَالاً } لكثرتها .
ومنها : { خِفَافاً } من السلاح ، و { وَثِقَالاً } منه .
والصحيح ما ذكرنا ، إذ الكل داخل فيه ، لأن الوصف المذكور وصف كلى يدخل فيه كل هذه الجزئيات .
والمعنى : { انفروا } - أيها المؤمنون - { خِفَافاً وَثِقَالاً } أى : في حال سهولة النفر عليكم ، وفى حال صعوبته ومشقته .
{ وَجَاهِدُواْ } أعداءكم ببذل أموالكم . وببذل أنفسكم { فِي سَبِيلِ الله } أى : في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فمن استطاع منكم الجهاد بالمال والنفس وجب عليه الجهاد بها . ومن قدر على أحدهما دون الآخر ، وجب عليه ما كان في قدرته منهما .
قال القرطبى روى أبو داود عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم " .
وهذا وصف لأكمل ما يكون الجهاد وأنفعه عند الله - تعالى - فقد حض - سبحانه - على كمال الأوصاف .
وقدم الأموال في الذكر ، إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، فرتب الأمر كما هو في نفسه .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعود إلى المذكور من الأمرين السابقين وهما : النفور والجهاد .
أى : ذلكم الذي أمرتم به من النفور والجهاد في سبيل الله ، خير لكم في دنياكم وفى آخرتكم من التثاقل عنهما ، إن كنتم من أهلا لعلم بحقيقة ما بين لكم خالقكم ومربيكم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد أدرك المؤمنون الصادقون هذا الخير فامتثلوا أمر ربهم ، ونفروا للجهاد في سبيله خفاقاً وثقالاً ، بدون تباطؤ أو تقاعس .
وقد ساق المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية كثيراً من الأمثة التي تدل على محبة السلف الصالح للجهاد في سبيل الله ، ومن ذلك .
ما جاء عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة ، فأتى على هذه الآية : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } فقال : أى بنى ، جهزونى جهزونى . فقال بنوه . يرحمك الله ! ! لقد غزوت مع النبى - صلى الله عليه وسلم - تحتى مات ، ومع أبى بكر حتى مات . ومع عمر حتى مات . فنحن نغزو عنك . فقال : لا ، جهزونى . فغزا في البحر فمات في البحر ، فلما يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها ، ولم يتغير - رضى الله عنه .
وقال الزهرى : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل : فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لتم يمكنى الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع .
وأخرج ابن جرير عن حيان بن زيد الشرعبى قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو : وكان والياً على حمص ، فلقيت شيخاً كبيراً هرما ، لى راحلته فيمن نفر ، فأقبلت عليه فقلت : يا عماه لقد أعذر الله إليك .
قال : فرفع حاجبيه فقال . يا ابن أخى ، استنفرنا الله خفافا وثقالا ، من يحبه الله يتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلى الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، لوم يعبد إلا الله .
وعن أبى راشد الحبرانى قال . وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وهو يريد الغزو - وقد تقدمت به السن - فقلت : له لقد أعذر الله إليك .
فقال : أبت علينا سورة البعوث ذلك . يعنى هذه الآية : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } .
هذا ، ومن العلماء من يرى أن هذه الآية تجعل الجهاد على الجميع حتى المريض والزمن والفقير . . وليس الأمر كذلك ، فما معنى هذا الأمر ؟
قلت . من العلماء من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ بقوله - تعالى - { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } ومنهم من حمل هذا الأمر الندب .
والصحيح أنها منسوخة ، لأن الجهاد من فروض الكفاية ، ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال ، فدل ذلك على أن الجهد من فروض الكفايات ، وأنه ليس على الأعيان .
ويرى بعض العلماء أن الاية ليست منسوخة ، فقد قال الإِمام القرطبى - ما ملخصه - واختلف في هذه الآية ، فقيل إنها منسوخة بقوله - تعالى - { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى }
روى ابن عباس عن أبى طلحة في قوله - تعالى - { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } قال : شباناً وكهولا . ما سمع الله عذر أحد . فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات .
ثم قال - بعد أن ساق نماذج متعددة لمن خرجوا للجهاد خفافاً وثقالا - فلهذا وما كان مثله مما روى عن الصحابة والتابعين قلنا . إن النسخ لا يصح .
فقد تكون هناك حالة يجب فيها نفير الكل ، وذلك إذا تعين الجهاد لغلبة العدو على قطر من الأقطار الإِسلامية ، أو بحلوله في العقر . ففى هذه الحالة يجب على جميع أهل الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً ؛ شباباً وشيوخاً ، كل على قدر طافته . ولا يتخلف أنحد يقدر على الخروج .
فإن عجز أهل تلك البلدة عن صد عدوهم ؛ كان على من قاربهم أن يخرجوا معهم لصد العدو ، وكذلك الشأن بالنسبة لكل من علم بضعفهم عن عدوهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم .
حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها ، سقط الفرض على الآخرين .
ثم قال - رحمه الله - ومن الجهاد أيضاً ما هو نافلة ، وهو إخراج الإِمام طائفة . . لإِظهار القوة ، وإعزاز دين الله .
ثم قال : وقال ابن العربى ، ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله . سنة سبع وعشرين وخمسمائة : فجاس ديارنا ، وأسر خيرتنا ، وتوسط بلادنا . . فقلت للوالى والمولى عليه : عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة ، فلتكن عندكم بركة ، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المعينة عليكم حركة ، فليخرج إليه جميع الناس . . فيحاط به فيهلك .
فغلبت الذنوب ، ورجفت القلوب بالمعاصى ، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوى إلى وجاره ، وإن رأى المكيدة بجاره .
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والذى نراه . أن ما ذهب إليه الإِمام القرطبى ، من أن الآية الكريمة ليست منسوخة ، أولى بالاتباع .
لأن الجهاد قد يكون فرض كفاية في بعض الحالات ، وقد يكون فرض عين في حالات أخرى والآية الكريمة التي معنا تدعو المؤمنين إلى النفي العام في تلك الحالات الأخرى التي يكون الجهد فيها فرض عين وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التي تدعو إلى النفير العام . والآيات التي تعفى بعض الن عاسن مشاقه ومتاعبه .
ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن هذه الآيات الأربع قد عاتبت المؤمنين الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك عتاباً شديداً ؛ وأنذرتهم بالعذاب الأليم إن لم ينفروا . . وذكرتهم بما كان من نصر الله لنبيه حين أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين . . وأمرتهم بالنفور إلى الجهاد خفافاً وثقالا . وبمجاهدة المشركين بأموالهم وأنفهسم ، فذلك هو الخير لهم في عاجلتهم وآجلتهم .
وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة ، لا يعوقهم معوق . ولا يقعد بهم طارئ ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الاخرة :
( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .
انفروا في كل حال ، وجاهدوا بالنفوس والأموال ، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير ، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات .
( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) .
وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير ، فنفروا والعوائق في طريقهم ، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار . ففتح اللّه عليهم القلوب والأرضين ، وأعز بهم كلمة اللّه ، وأعزهم بكلمة اللّه ، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح .
قرأ أبو طلحة - رضي اللّه عنه - سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزوني يا بني . فقال بنوه : يرحمك اللّه قد غزوت مع رسول اللّه [ ص ] وعلى آله وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك . فأبى فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها .
وروى ابن جرير بإسناده - عن أبي راشد الحراني قال : " وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه - [ ص ] - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة ، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو ؛ فقلت له قد قد أعذر اللّه إليك . فقال : أتت علينا سورة البعوث . "
وروى كذلك بإسناده - عن حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هما ، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر اللّه إليك . قال : فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا اللّه ، خفافاً وثقالاً . ألا إنه من يحبه اللّه يبتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا اللّه عز وجل .
وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات اللّه انطلق الإسلام في الأرض ، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة .
هذا أمر من الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفر إلى الغزو فقال بعض الناس هذا أمر عام لجميع المؤمنون تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخه الله عز وجل ، بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة }{[5662]} ، روي ذلك عن الحسن وعكرمة ، وقال جل الناس : بل هذا حض والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان ، وأما قوله { خفافاً وثقالاً } فنصب على الحال من الضمير في قوله { انفروا } ، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر{[5663]} بسهولة ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا .
وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعليَّ أن أنفر ؟ فقال له نعم ، حتى نزلت { ليس على الأعمى حرج }{[5664]} ، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض ، بل هي وجوه متفقة ، فقيل «الخفيف » الغني «والثقيل » الفقير : قاله مجاهد ، وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ قاله الحسن وجماعة ، وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكاسل ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقيل المشغول ومن لا شغل له قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي ، وقيل الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف قاله ابن زيد : وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل حكاه النقاش ، وقيل الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف قاله الأوزاعي .
قال القاضي أبو محمد : وهذان الوجهان الآخران ينعكسان ، وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو فالشجاع هو الثقيل وكذلك الفارس والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل وكذلك ينعكس الفقير والغني فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة .
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ، وقال أبو طلحة : ما أسمع الله عذراً أحداً وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات .
وقال أبو أيوب : ما أجدني أبداً إلا ثقيلاً أو خفيفاً ، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلاً سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له يا عم إن الله قد عذرك ، فقال يا ابن أخي إنَّا قد أمرنا بالنفر خفافاً وثقالاً ، وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقال له لقد عذرك الله ، فقال أتت علينا سورة البعوث { انفروا خفافاً وثقالاً } ، وروي سورة البحوث ، وقوله تعالى : { بأموالكم وأنفسكم } وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى : فحض على كمال الأوصاف ، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه ، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض ، وفي قوله : { إن كنتم تعلمون } تنبيه وهز للنفوس .
الخطاب للمؤمنين الذين سبق لومهم بقوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذ قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ، فالنفير المأمور به ما يستقبل من الجهاد . وقد قدّمنا أنّ الاستنفار إلى غزوة تبوك كان عامَّاً لكلّ قادر على الغزو : لأنّها كانت في زمن مشقّة ، وكان المغزُوُّ عدوّاً عظيماً ، فالضمير في { انفروا } عام للذين استُنفروا فتثاقلوا ، وإنّما استُنفِر القادرون ، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو ، فلا يقتضي هذا الأمر توجّه وجوب النفير على كلّ مسلم في كلّ غزوة ، ولا على المسلم العاجز لعمىً أو زَمانة أو مرض ، وإنّما يجري العمل في كلّ غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير . وفي الحديث : " وإذا استنفرتم فانْفِروا " .
و { خفافا } جمع خفيف وهو صفة مشبّهة من الخفّة ، وهي حالة للجسم تقتضي قلّة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة ، فيكون سهْلَ التنقّل سهل الحمل . والثقال ضدّ ذلك . وتقدّم الثقل آنفاً عند قوله : { اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] .
والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم ، فالخفّة تستعار للإسراع إلى الحرب ، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدةِ ، قال قُريط بن أنيف العنبري :
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم *** طَاروا إليه زَرَافَات ووُحدانا
فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب :
ثِقال إذا لاقَوْا خِفاف إذا دُعوا
وتستعار الخفّة لقلّة العدد ، والثقلُ لكثرة عدد الجيش كما في قول قُريط : « زَرافات ووُحدانا » .
وتستعار الخفّة لتكرير الهجوم على الأعداء ، والثقل للتثبّت في الهجوم . وتستعار الخفّة لقلّة الأزوَاد أو قلّة السلاح ، والثقل لضدّ ذلك . وتستعار الخفّة لقلّة العيال ، والثقل لضدّ ذلك وتستعار الخفّة للركوب لأنّ الراكب أخفّ سيراً ، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال . قال النابغة :
على عارفاتٍ للطِّعان عوابِــسٍ *** بهِنَّ كلوم بين دامٍ وجـــــالب{[246]}
إذ استُنزلوا عنهنّ للضَّرب ارقلوا *** إلى الموت ارْقالَ الجمال المصَاعب
وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولمّا وقع { خفافاً وثقالاً } حالاً من فاعل { انفروا } ، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدّرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم ، فهي بمعنى ( أو ) ، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال .
والمجاهدة : المغالبة للعدوّ ، وهي مشتقّة من الجُهد بضمّ الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة ، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح ، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاقٍ على الجيش واشتراءِ الكراع والسلاح ، مجاز بعلاقة السببية .
وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معاً وجبا عليه ، ومن لم يستطع إلاّ واحداً منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما .
وتقديم الأموال على الأنفس هنا : لأنّ الجهاد بالأموال أقلّ حُضوراً بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد ، فكان ذكره أهمّ بعد ذكر الجهاد مجملاً .
والإشارة ب { ذلكم } إلى الجهاد المستفاد من { وجاهدوا } .
وإبهام { خير } لقصد توقّع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عُقب بقوله : { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه . وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلاً للإشارة إلى أنّ من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلّب تعيين شعبه إلى إعمال النظر والعلم .