قوله تعالى : { ويوم يقول } قرأ حمزة بالنون والآخرون بالياء ، أي : يقول الله لهم يوم القيامة : { نادوا شركائي } يعني الأوثان { الذين زعمتم } أنهم شركائي { فدعوهم } ، فاستغاثوا بهم { فلم يستجيبوا لهم } أي : لم يجيبوهم ولم ينصروهم ، { وجعلنا بينهم } يعني : بين الأوثان وعبدتها . وقيل : بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، { موبقاً } مهلكاً ، قاله عطاء والضحاك . وقال ابن عباس : هو واد في النار . وقال مجاهد : واد في جهنم . وقال عكرمة : هو نهر في النار ، يسيل ناراً ، على حافته حيات مثل البغال الدهم . قال ابن الأعرابي : وكل حاجز بين شيئين فهو موبق ، وأصله الهلاك يقال : أوبقه أي : أهلكه . قال الفراء : وجعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة ، والبين على هذا القول التواصل كقوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام – 94 ] . على قراءة من قرأ بالرفع .
ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا ، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال ، وحكم بجهل صاحبه وسفهه ، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة ، وأن الله يقول لهم : { نَادُوا شُرَكَائِيَ } بزعمكم أي : على موجب زعمكم الفاسد ، وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض ، ولا في السماء ، أي : نادوهم ، لينفعوكم ، ويخلصوكم من الشدائد ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } لأن الحكم والملك يومئذ لله ، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي : بين المشركين وشركائهم { مَوْبِقًا } أي ، مهلكا ، يفرق بينهم وبينهم ، ويبعد بعضهم من بعض ، ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم ، وكفرهم بهم ، وتبريهم منهم ، كما قال تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
ثم ساقت السورة الكريمة مشهدا من مشاهد القيامة - يكشف عن سوء المصير الذى ينتظر الشركاء وينتظر المجرمين . فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ . . . } .
أى : واذكر - أيها العاقل - يوم يقول الله - تعالى - للمجرمين والكافرين على سبيل التوبيخ والتقريع : أيها الكافرون ، نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم فى هذا الموقف العصيب { فدعوهم } أى : فأطاعوا أمر خالقهم ، ودعوا شركاءهم لكى يستغيثوا بهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } أى : فلم يجدوا منهم أدنى استجابة فضلا عن النفع أو العون .
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أى : وجعلنا بين الداعين والمدعوين مهلكا يشتركون فيه جميعا وهو جهنم .
فالموبق : اسم مكان من وبق وبوقا - كوثب وثوبا - أو وبق وبقا كفرح فرحا - إذا هلك . ويقال فلان أوبقته ذنوبه : أى أهلكته . ومنه قوله - تعالى - : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أى يهلكهن . ومنه الحديث الشريف : " كل يغدو فموبق نفسه " - أى ملهكها - ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " أى : المهلكات .
وقيل : الموبق اسم واد فى جهنم فرق الله به بينهم ، أى بين الداعين والمدعوين .
وقيل : كل حاجز بين شيئين فهو موبق .
قال ابن جرير - رحمه الله - بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى ذلك : " وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب ، القول الذى ذكرناه من أن الموبق بمعنى المهلك وذلك أن العرب تقول فى كلامها : قد أوبقت فلانا إذا أهلكته . . " .
ثم يعرض مشهد من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين :
( ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم . وجعلنا بينهم موبقا . ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ، ولم يجدوا عنها مصرفا ) . .
إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان . والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا ، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا . . وإنهم لفي ذهول ينسون أنها الآخرة ، فينادون . لكن الشركاء لا يجيبون !
وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا في الموقف المرهوب . وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء . . إنها النار ( وجعلنا بينهم موبقا ) .
يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا : { نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أي : في دار الدنيا ، ادعوهم اليوم ، ينقذونكم مما{[18271]} أنتم فيه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] .
وقوله : { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } ] كما قال : { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ{[18272]} [ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } [ القصص : 64 ] ، وقال { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] ، قال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 82 ، 81 ]
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } قال ابن عباس ، وقتادة وغير واحد : مَهْلكًا{[18273]} .
وقال قتادة : ذكر لنا أن عمرا البكالي{[18274]} حدث عن عبد الله بن عمرو قال : هو واد عميق ، فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة .
وقال قتادة : { مَوْبِقًا } واديًا في جهنم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سِنان القزاز ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } قال : واد في جهنم ، من قيح ودم .
وقال الحسن البصري : { مَوْبِقًا } : عداوة .
والظاهر من السياق هاهنا : أنه المهلك ، ويجوز أن يكون واديًا في جهنم أو غيره ، إلا أن الله تعالى أخبر{[18275]} أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا ، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة ، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر ، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير .
وأما إن جعل الضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ }{[18276]} عائدًا إلى المؤمنين والكافرين ، كما قال عبد الله بن عمرو : إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به ، فهو كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وقال { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] ، وقال تعالى : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ يونس : 28 - 30 ] .
وقوله { ويوم يقول } الآية وعيد ، المعنى واذكر يوم ، وقرأ طلحة ويحيى والأعمش وحمزة «نقول » بنون العظمة ، وقرأ الجمهور بالياء أي «يقول » الله تعالى للكفار الذين أشركوا به من الدنيا سواه : { نادوا شركائي } أي على وجه الاستغاثة بهم ، وقوله { شركائي } أي على دعواكم أيها المشركون وقد بين هذا بقوله { الذين زعمتم } وقرأ ابن كثير وأهل مكة «شركاي » بياء مفتوحة ، وقرأ الجمهور : «شركائي » بهمزة . فمنهم من حققها ، ومنهم من خففها ، و «الزعم » إنما هو مستعمل أبداً في غير اليقين ، بل أغلبه في الكذب ، ومنه هذه الآية ، وأرفع موضعه أن يستعمل «زعم » بمعنى أخبر ، حيث تبقى عهدة الخبر على المخبر ، كما يقول سيبويه رحمه الله : زعم الخليل . وقوله { فدعوهم } فلم يستجيبوا لهم ظاهره أن ذلك يقع حقيقة ، ويحتمل أن يكون استعارة ، كأن فكرة الكفار ونظرهم في أن تلك الجمادات ، لا تغني شيئاً ولا تنفع ، هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة ، والأول أبين ، واختلف المتأولون في قوله { موبقاً } قال عبد الله ابن عمرو وأنس بن مالك ومجاهد : هو واد في جهنم يجري بدم وصديد ، قال أنس : يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين ، فقوله على هذا { بينهم } ظرف ، وقال الحسن { موبقاً } معناه عداوة و { بينهم } على هذا ظرف ، وبعض هذه الفرقة ، يرى أن الضمير في قوله { بينهم } يعود على المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يعود على المشركين ومعبوداتهم ، وقال ابن عباس { موبقاً } معناه مهلكاً بمنزلة موضع وهو من قولك وبق الرجل وأوبقه غيره إذا أهلكه ، فقوله { بينهم } على هذا التأويل ، يصح أن يكون ظرفاً ، والأظهر فيه أن يكون اسماً ، بمعنى جعلنا تواصلهم أمراً مهلكاً لهم ، ويكون { بينهم } مفعولاً أولاً ل { جعلنا } ، وعبر بعضهم عن الموبق بالموعد وهذا ضعيف .
عطف على جملة { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الكهف : 50 ] فيقدر : واذكر يوم يقول نادوا شركائي ، أو على جملة { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } [ الكهف : 51 ] ، فالتقدير : ولا أشهدت شركاءهم جميعاً ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر ، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذٍ . وقد سلك في إبطال إلهيتها طريق المذهب الكلامي وهو الاستدلال على انتفاء الماهية بانتفاء لوازمها ، فإنه إذا انتفى نفعها للذين يعبدونها استلزم ذلك انتفاء إلهيتها ، وحصل بذلك تشخيص خيبتهم ويأسهم من النجاة .
وقرأة الجمهور { يقول } بياء الغيبة وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى لدلالة المقام عليه ، وقرأ حمزة { نقول } بنون العظمة .
واليوم الذي يقع فيه هذا القول هو يوم الحشر . والمعنى : يقول للمشركين ، كما دل عليه قوله : { الذين زعمتم } ، أي زعمتموهم شركائي . وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكماً بالمخاطبين وتوبيخاً لهم ، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الزعم الدال على اعتقاد باطل .
والنداء : طلب الإقبال للنصرة والشفاعة .
والاستجابة : الكلام الدال على سماع النداء والأخذُ في الإقبال على المنادي بنحو قول : لبيكم .
وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمه وهو إظهار باطلهم بقرينة فعل الزعم . ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال { فدعوهم } لطمعهم ، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم . ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب . وأتي به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذٍ حتى كأنه قد انقضى .
والموبق : مكان الوُبوق ، أي الهلاككِ . يقال : وبَق مثل وَعَد ووجل وورِث . والموبق هنا أريد به جهنم ، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كوَّن الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فَوهات جهنم ، ويجوز أن تكون جملة { وجعلنا بينهم موبقاً } جملة حال أي وقد جعلنا بينهم موبقاً تمهيداً لما بعده من قوله : { ورأى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] .