ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك ، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون{[46571]} عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييباً لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، فقال تعالى عاطفاً على { إذ قلنا } عادلاً إلى مقام الغيبة ، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى{ وعرضوا على ربك صفاً{[46572]} لقد جئتمونا }[ الكهف : 48 ] في حجب الجلال والكبرياء ، {[46573]}وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة{[46574]} : { ويوم } {[46575]}أي واذكر يوم{[46576]} { يقول } الله لهم تهكماً بهم : { نادوا شركاءي } {[46577]}وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها ، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى{[46578]} : { الذين زعمتم } أنهم شركاء { فدعوهم } تمادياً في الجهل والضلال { فلم يستجيبوا لهم{[46579]} } أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم{[46580]} إعراضاً عنهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم .
ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم ، قال في مظهر العظمة : { وجعلنا بينهم } أي المشركين والشركاء { موبقاً * } أي{[46581]} هلاكاً أو{[46582]} موضع هلاك ، فاصلاً حائلاً بينهم ، مهلكاً قوياً ثابتاً حفيظاً ، لا يشذ عنه منهم أحد ، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى{ فزيلنا بينهم }[ يونس : 28 ] أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة ، ومثل قوله تعالى{ ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار }[ الأعراف : 38 ] { هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك }[ النحل : 86 ] ونحوه ، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى{[46583]}{ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً{[46584]} }[ العنكبوت : 25 ] وأن كل فريق يطلب للآخر{[46585]} الهلاك ، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه ، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب ، ونقل ابن كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما{[46586]} أنه قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، وقال الحسن البصري : عداوة{[46587]} .
وأما أخذه من اللفظ فلأن مادة وبق{[46588]} - يائية وواوية{[46589]} مهموزة وغير مهموزة ، ولها{[46590]} أحد عشر تركيباً : واحد{[46591]} يائي : بقي ، وستة واوية : قبو ، قوب ، بقو ، بوق ، وقب ، وبق ، وأربعة مهموزة : قبأ ، قأب ، بأق ، أبق - كلها تدور على الجمع ، وخصوصاً ترتيب وبق يدور على الحائل بين شيئين ، ويلزمه القوة والثبات والحفظ والهلاك قوة أو فعلاً ، لأن {[46592]}من حيل{[46593]} بينه وبين شيء فقد هلك بفقد ذلك الشيء بالفعل إن كان الحائل موتاً ، وبالقوة إن كان غيره ، يقال : قبأ الشيء : جمعه{[46594]} بأصابعه ، والبناء : رفعه ، والزعفران : جناه ، والقبا - بالقصر : نبت - لأنه سبب الاجتماع لرعيه والانتفاع به وهو يجمع أيضاً ، والقبا : تقويس{[46595]} الشيء - لأنه أقرب إلى اجتماع بعض أجزائه ببعض ، والقبوة : انضمام ما بين الشفتين ، ومنه القباء من الثياب ، وقباه تقبية : عباه ، أي جمعه حتى صار كأنه في مكان مقبو ، وقبى عليه{[46596]} تقبية : عدا عليه في أمره - لأنه كان{[46597]} كأنه أوقعه في حفرة ، والثوب : جعل منه قباء ، وتقبى القباء : لبسه ، وزيداً : أتاه من قفاه - لأن من يريد رمي أحد في حفرة كذلك يأتيه مخاتلة ، وتقبى الشيء : صار كالقبة ، وامرأة قابية{[46598]} : تلقط العصفر وتجمعه ، و{[46599]}القابياء : اللئيم - لأنه بناء مبالغة ، فيدل على كثرة الجمع والحرص اللازمين للؤم{[46600]} ، وبنو قابياء : المجتمعون لشرب الخمر - لأنها حالة تظهر لؤم اللئام ، وقباء - بالضم ويذكر ويقصر - موضع قرب المدينة الشريفة ، وموضع بين مكة والبصرة ، وانقبى : استخفى ، وقبى قوسين وقباء قوسين - ككساء : قاب قوسين{[46601]} ، والمقبي : الكثير الشحم - كأنه جمع لنفسه منه بالراحة ما صار كالبناء ، والقباية : المفازة - لأنها تجمع ما فيها كما تجمع القبة والقباء والوقبة ما فيها . ومن مهموزه : قبأ الطعام - كجمع{[46602]} : أكله ، ومن الشراب : امتلأ ، والقباءة{[46603]} : حشيشة ترعى{[46604]} - لأن المال يجتمع على رعيها .
ومن الواوي : قاب الأرض يقوبها وقوّبها{[46605]} : حفر فيها شبه التقوير - لأن الدائرة أجمع ما يكون لغيرها وفي نفسها ، لأنه لا زوايا فيها فاصلة ، وقوبت الأرض : آثرت فيها ، والقوبة : ما يظهر في الجسد ويخرج عليه - لأنه {[46606]}يكون غالباً{[46607]} على هيئة الدائرة ، وتقوب جلده : تقلع عنه الجرب ، وانحلق عنه الشعر - إما من الإزالة ، وإما لأن{[46608]} آثاره تكون كالدوائر ، وقوب الشيء : قلعه من أصله - لأن أثره{[46609]} إذا انقلع يكون حفراً مستديراً ، وتقوب هو : تقلع ، والقائبة والقابة : البيضة - لأنها لتدويرها{[46610]} تشبه ذلك الحفر ، والقوب - بالفتح : فلق الطير بيضه ، وبالضم : الفرخ - لأنه{[46611]} منها ، وفي المثل : تخلصت قائبة من قوب - يضرب لمن انفصل من صاحبه ، والقوبيّ : المولع بأكل الأقواب أي الفراخ ، والقوب - كصرد : قشور البيض ، وتقوبت البيضه : انقابت أي انحفرت ، وأم قوب : الداهية - لجمعها ما تأتي عليه كأنه ابتلعه حفر ، وقاب : قرب - لأن القرب مبدأ الجمع ، وقاب : هرب ، أي{[46612]} سلب القرب - ضد ، وقاب : فلق ، أي شق{[46613]} الجمع فهو من الإزالة أيضاً ، وقاب قوس وقيبه ، أي قدره - لأن القوس شبه نصف دائرة من ذلك الحفر ، والقاب : ما بين المقبض والسية - لأنه بعض ذلك ، ولكل قوس قابان ، والأسود المتقوب : الذي انسلخ جلده من الحيات - لتدوّر ذلك الجلد وشبهه بالحفرة ، واقتاب الشيء : اختاره ، أي جمعه إليه ، ورجل مليء {[46614]}قوبة - كهمزة : ثابت الدار مقيم - من الثبات الذي هو لازم الجمع ، وقوب من الغبار : اغبر - إما لأن من يحفر ذلك يغبر ، وإما لأن الغبار كثر عليه حتى غطاه فصار له مثل تلك الحفرة .
ومن مهموزه : قأب الطعام - كمنع : أكله ، والماء : شربه كقئبه - كفرح ، أو شرب كل ما في الإناء ، وقئب من الشراب : تملأ ، وهو مقأب{[46615]} - كمنبر : كثير الشرب{[46616]} للماء ، وإناء قَوأب : كثير الأخذ للماء - فهو كما ترى جمع مخصوص بالأكل والشرب ، أو أنه جمعه في وقبة{[46617]} بطنه .
ومن الواوي : بقاه بعينه : نظر إليه - فهو من الحفظ اللازم للجمع ، وابقُه بَقْوَتَك مالَك ، وبقاوتك مالك أي احفظه حفظك{[46618]} مالك ، وبقوته : انتظرته - وهو يرجع إلى الثبات والمراقبة التي ترجع إلى الحفظ ، ويلزم الحفظ الثبات . ومن اليائي : بقي الشيء بقاء : ثبت ودام ضد فني ، والاسم البقوى - كدعوى ، ويضم ، والبقيا - بالضم والبقية ، وقد توضع الباقية موضع المصدر .
ومن واويّه : البوقة : الجمع{[46619]} والدفعة من المطر الشديدة أو المنكرة تنباق - لأنها{[46620]} نزلت من وقبة لشدتها ، والبوائق : العوائد - لأنها جامعة لمن اعتادها ، والبوائق : الشر - لأنه مهلك ، فكأنه موقع في المهالك ، والبوق - بالضم : شبه منقاب{[46621]} ينفخ فيه الطحان ، أو{[46622]} الذي ينفخ فيه مطلقاً ويرمز - لأنه لتجويفه يشبه الوقبة ، والبوق أيضاً : الباطل والزور - لأن صوته أشبع شيء بذلك ، والمبوق{[46623]} - كمعظم : الكلام الباطل ، والبوق - بالفتح : من لا يكتم السر - لأن البوق متى نفخ فيه صوّت ، والبوقة : شجرة دقيقة - لأنها لدقتها يسرع إليها الهلاك كمن{[46624]} وقع فيه وقبة ، والبائقة{[46625]} : الداهية - كأنها تدفع من أتته{[46626]} في الوقبة ، وانباقت عليه بائقة : انفتقت ، وباق : جاء بالشر والخصومات - من ذلك{[46627]} ، وكذا باق ، أي {[46628]}تعدى على{[46629]} إنسان ، وانباق به : ظلمه ، والبائقةُ القومَ : أصابتهم ، كانباقت عليهم ، أي خرجت لشدتها من وقبة ، والباقة : الحزمة{[46630]} من بقل - لاجتماعها ، وباق بك : طلع عليك من غيبة{[46631]} - كأنه كان في حفرة فخرج ، ومنه باق فلان : هجم على قوم بغير إذنهم ، وباق القوم : سرقهم ، وباق به : حاق به{[46632]} ، أي - أحاط كما تحيط الوقبة ، وباق القوم عليه : اجتمعوا فقتلوه ظلماً ، وباق المال : فسد وبار - كحال{[46633]} من وقع في حفرة ، ومنه متاع بائق : لا ثمن له ، وتبوّق في الماشية : وقع فيها الموت وفشا ، والحاق باق : صوت الفرج عند الجماع - لأنه من الجمع ، ولأن الفرج وقبة ، ومن مهموزه : بأقتهم الداهية بؤوقاً : أصابتهم ، وانبأق عليهم الدهر : هجم عليهم بالداهية .
ومن الواوي ، الوقبة : كوة عظيمة فيها ظل ، والوقب والوقبة : نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء ، وقيل : هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء ، وكل نقر في الجسد وقب كنقر العين والكتف{[46634]} ، والوقبان من الفرس : هزمتان{[46635]} فوق عينيه ، ووقب المحالة : الثقب الذي يدخل فيه المحور ، ووقبة {[46636]}الدهن : أنقوعته ، وكذا وقبة الثريد ، ووقب الشيء : دخل في الوقب ، وأوقب الشيء : أدخله{[46637]} فيه ، وركية وقباء : غامرة الماء ، وامرأة ميقاب : واسعة الفرج وبنو الميقاب نسبوا إلى أمهم ، يريدون سبهم{[46638]} بذلك ، والميقاب : الرجل الكثير الشرب للماء ، والحمقاء أو{[46639]} المحمقة ، وسير الميقاب : أن تواصل سير يوم وليلة - كأن ذلك سير الأحمق الذي لا يبقى على ظهره ، ووقب القمر وقوباً : دخل في الظل الذي يكسفه{[46640]} - كأنه{[46641]} حفرة ابتلعته ، ووقبت الشمس وقوباً : غابت كذلك ، وقيل : كل ما غاب{[46642]} فقد وقب ، ووقب{[46643]} الظلام ، أقبل . أي فصار كالوقبة ، فابتلع الضياء أو ابتلع ما في الكون فحجبه عن الضياء ، ورجل وقب{[46644]} : أحمق - كأنه وعاء لكل ما يسمع ، لا أهلية له في تمييز جيده من رديئه ، والأنثى : وقبة ، وقال ثعلب : الوقب : الدنيء ، أي لأنه{[46645]} يتبع نفسه هواها فيصير كأنه الوقبة لا ترد شيئاً مما يلقى فيها ، ووقب الفرس وقباً وهو صوت قنبه ، أي وعاء قضيبه ، وقيل : صوت تقلقل جردان الفرس في قنبه - لأن وعاء جردانه كالوقبة ، فهو من اطلاق اسم المحل على ما فيه ، والقبة - كعدة{[46646]} : الإنفحة إذا عظمت من الشاة{[46647]} ، قال ابن الأعرابي : ولا يكون ذلك في غير الشاء - لأن شبه الإنفحة بالوقبة ظاهر ، والوقباء : موضع يمد ويقصر ، والوقبى : ماء لبني مازن - لأنه يجمعهم كما تجمع الوقبة ما{[46648]} فيها ، والأوقاب : قماش البيت كالبرمة والرحيين والعمد - لأن البيت لها كالوقبة لجمعها{[46649]} أو لأنها جامعة{[46650]} لشمل من فيه ، والميقب : الودعة ، وأوقب القوم : جاعوا ، أي تهيؤوا لإدخال الطعام في وقبة الجوف ، وذكر أوقب : ولاّج في الهنات - لأنها كالأوقاب أي الحفر ، والوقب : الإقبال والمجيء ، وهو سبب الجمع .
ووبق{[46651]} - كوعد ووجل وورث وبوقاً {[46652]}وموبقاً{[46653]} : هلك ، أي وقع في وقبة ، أي حفرة{[46654]} كاستوبق ، وكمجلس : المهلك والمحبس ، وواد في جهنم ، وكل شيء حال بين شيئين - لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره .
ومنه قيل للموعد : موبق ، وأوبقه : حبسه أو أهلكه{[46655]} .
ومن مهموزه : أبق العبد - كسمع وضرب ومنع{[46656]} - أبقاً ويحرك - وإباقاً - ككتاب : ذهب بلا خوف ولا كد عمل ، أو{[46657]} استخفى ثم ذهب - وكل ذلك يرجع إلى جعله كأنه نزل{[46658]} في وقبة ، ومن شأنه حينئذ أن يخفى ، ومنه تأبق : استتر أو احتبس ، وتأبق الشيء : أنكره - لأن سبب الإنكار الخفاء ، وتأبق : تأثم ، أي جانب الإثم{[46659]} ، فهو لسلب الجمع أو لسلب الهلاك في الوقبة ، والأبق - محركة : القنب - لشبهه لتجويفه بالوقبة ، والأبق : قشره - لقوته اللازمة للجمع أو لأنه خيوط مجتمعة .