{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } لك ، مما يحزنك ، من الأذى ، وإذا كنا أعلم بذلك ، فقد علمت كيف اعتناؤنا بك ، وتيسيرنا لأمورك ، ونصرنا لك على أعدائك ، فليفرح قلبك ، ولتطمئن نفسك ، ولتعلم أننا أرحم بك وأرأف ، من نفسك ، فلم يبق لك إلا انتظار وعد الله ، والتأسي بأولي العزم ، من رسل الله ، { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي : مسلط عليهم { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } ولهذا قال : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } والتذكير ، [ هو ] تذكير ما تقرر في العقول والفطر ، من محبة الخير وإيثاره ، وفعله ، ومن بغض الشر ومجانبته ، وإنما يتذكر بالتذكير ، من يخاف وعيد الله ، وأما من لم يخف الوعيد ، ولم يؤمن به ، فهذا فائدة تذكيره ، إقامة الحجة عليه ، لئلا يقول : { ما جاءنا من بشير ولا نذير }
آخر تفسير سورة ( ق ) والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها من التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن التحديد الدقيق لوظيفته ، فقال - تعالى - : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .
أى : نحن - أيها الرسول الكريم - أعلم بما يقوله هؤلاء المشركون فى شأنك وفى شأن دعوتك ، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقاب ، فاصبر على أقوالهم ، وبلغ رسالة ربك دون أن تخشى أحدا سواه .
وأنت لست بمسلط عليهم لتجبرهم على اتباعك ، وتقهرهم على الدخول فى الإِسلام ، وإنما وظيفتك التذكير بهذا القرآن لمن يخشى عذابى ، ويخاف وعيدى .
كما قال - سبحانه - : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } وكما قال - تعالى - : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } وبعد فهذا تفسير محرر لسورة " ق " التى حفظها بعض الصحابة من فم النبى - صلى الله عليه وسلم - خلال تكراره لها فى خطب الجمعة .
نسأل الله - تعالى - أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا .
وفي ظلال هذا المشهد كذلك يتوجه بالتثبيت للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] تجاه جدلهم وتكذيبهم في هذه الحقيقة الواضحة المشهودة بعين الضمير :
( نحن أعلم بما يقولون . وما أنت عليهم بجبار . فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . .
( نحن أعلم بما يقولون ) . . وهذا حسبك . فللعلم عواقبه عليهم . . وهو تهديد مخيف ملفوف .
( وما أنت عليهم بجبار ) . . فترغمهم على الإيمان والتصديق . فالأمر في هذا ليس إليك . إنما هو لنا نحن ، ونحن عليهم رقباء وبهم موكلون . .
( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . . والقرآن يهز القلوب ويزلزلها فلا يثبت له قلب يعي ويخاف ما يواجهه به من حقائق ترجف لها القلوب . على ذلك النحو العجيب .
وحين تعرض مثل هذه السورة ، فإنها لا تحتاج إلى جبار يلوي الأعناق على الإيمان . ففيها من القوة والسلطان ما لا يملكه الجبارون . وفيها من الإيقاعات على القلب البشري ما هو أشد من سياط الجبارين ! وصدق الله العظيم . .
وقوله : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } أي : نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهيدنك ذلك ، كقوله [ تعالى ] {[27386]} : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 97 - 99 ] .
وقوله : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي : ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ، وليس ذلك ما كلفت به .
وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي : لا تتجبر عليهم .
والقول الأول أولى ، ولو أراد ما قالوه لقال : ولا تكن جبارًا عليهم ، وإنما قال : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } بمعنى : وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ .
قال الفراء : سمعت العرب تقول : جبر فلان فلانا على كذا{[27387]} ، بمعنى أجبره {[27388]} .
ثم قال تعالى : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } أي : بلغ أنت رسالة ربك ، فإنما {[27389]} يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده ، كقوله [ تعالى ] {[27390]} : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] ، وقوله : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 21 ، 22 ] ، { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] ، { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ] ، ولهذا قال هاهنا : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } كان قتادة يقول : اللهم ، اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعودك ، يا بار ، يا رحيم .
آخر تفسير سورة( ق ) ، والحمد لله وحده ، وحسبنا الله ونعم الوكيل
القول في تأويل قوله تعالى : { نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .
يقول تعالى ذكره : نحن يا محمد أعلم بما يقول هؤلاء المشركون بالله من فِريتهم على الله ، وتكذيبهم بآياته ، وإنكارهم قُدرة الله على البعث بعد الموت وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ يقول : وما أنت عليهم بمسلط . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ قال : لا تتجبر عليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ فإن الله عزّ وجلّ كره الجبرية ، ونهى عنها ، وقدّم فيها . وقال الفرّاء : وضع الجبار في موضع السلطان من الجبرية وقال : أنشدني المفضل :
وَيَوْمَ الحَزْنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدّ *** وكانَ النّاسُ إلا نَحْنُ دِينا
عَصَيْنا عَزْمَةَ الجَبّارِ حَتّى *** صَبَحْنا الجَوْفَ ألْفا مُعْلَمِينا
ويروى : «الجوف » وقال : أراد بالجبار : المنذر لوَلايته .
قال : وقيل : إن معنى قوله : وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ لم تُبعث لتجْبُرَهم على الإسلام ، إنما بعثت مذكّرا ، فذكّر . وقال : العرب لا تقول فعال من أفعلت ، لا يقولون : هذا خراج ، يريدون : مُخْرِج ، ولا يقولون : دخَال ، يريدون : مُدْخِل ، إنما يقولون : فعال ، من فعلت ويقولون : خراج ، من خرجت ودخال : من دخلت وقتّال ، من قتلت . قال : وقد قالت العرب في حرف واحد : درّاك ، من أدركت ، وهو شاذّ .
قال : فإن قلت الجبار على هذا المعنى ، فهو وجه . قال : وقد سمعت بعض العرب يقول : جبره على الأمر ، يريد : أجبره ، فالجبار من هذه اللغة صحيح ، يراد به : يقهرهم ويجبرهم .
وقوله : فَذَكّرْ بالقُرآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ يقول تعالى ذكره : فذكر يا محمد بهذا القرآن الذي أنزلته إليه من يخاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخالف أمري .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوديّ ، قال : حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو الملائي ، عن ابن عباس ، قال : قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا ؟ فنزلت فَذَكّرْ بالقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، قال : قالوا : يا رسول الله ، لو ذكّرتنا ، فذكر مثله .
استئناف بياني ناشىء عن قوله { فاصبر على ما يقولون } [ ق : 39 ] فهو إيغال في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتعريض بوعيدهم ، فالخبر مستعمل مجازاً في وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله سيعاقب أعداءه .
وقوله : { وما أنت عليهم بجبار } تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه غير مسؤول عن عدم اهتدائهم لأنه إنما بُعث داعياً وهادياً ، وليس مبعوثاً لإرغامهم على الإيمان ، والجبّار مشتق من جبره على الأمر بمعنى أكرهه . وفرع عليه أمره بالتذكير لأنه ناشىء عن نفي كونه جبّاراً عليهم وهذا كقوله تعالى : { فذكّر إنما أنت مذكّر لستَ عليهم بمسيطر } [ الغاشية : 21 ، 22 ] ، ولكن خصّ التذكير هنا بالمؤمنين لأنه أراد التذكير الذي ينفع المذكَّر . فالمعنى : فذكر بالقرآن فيتذكّر مَن يخاف وعيد . وهذا كقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] .
وكتب في المصحف { وعيد } بدون ياء المتكلم فقرأه الجمهور بدون ياء في الوصل والوقف على أنه من حذف التخفيف . وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء في الوصل . وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف .