مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَقُولُونَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِجَبَّارٖۖ فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (45)

قوله تعالى : { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } .

فيه وجوه : ( أحدها ) تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتحريض لهم على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر والتسبيح ، أي اشتغل بما قلناه ولا يشغلك الشكوى إلينا فإنا نعلم أقوالهم ونرى أعمالهم ، وعلى هذا فقوله : { وما أنت عليهم بجبار } مناسب له أي لا تقل بأني أرسلت إليهم لأهديهم ، فكيف أشتغل بما يشغلني عن الهداية وهو الصلاة والتسبيح ، فإنك ما بعثت مسلطا على دواعيهم وقدرهم ، وإنما أمرت بالتبليغ ، وقد بلغت فاصبر وسبح وانتظر اليوم الذي يفصل فيه بينكم ، ( ثانيها ) هي كلمة تهديد وتخويف لأن قوله : { وإلينا المصير } ظاهر في التهديد بالعلم بعملكم لأن من يعلم أن مرجعه إلى الملك ولكنه يعتقد أن الملك لا يعلم ما يفعله لا يمتنع من القبائح ، أما إذا علم أنه يعلمه وعنده غيبه وإليه عوده يمتنع ، فقال تعالى : { وإلينا المصير } و{ نحن أعلم } وهو ظاهر في التهديد ، وهذا حينئذ كقوله تعالى : { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور } ، ( ثالثها ) تقرير الحشر وذلك لأنه لما بين أن الحشر عليه يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يميز بين جزء بدنين جزء بدن زيد وجزء بدن عمرو فقال : { ذلك حشر علينا يسير } لكمال قدرتنا ، ولا يخفى علينا الأجزاء لمكان علمنا ، وعلى هذا فقوله : { نحن أعلم بما يقولون } معناه نحن نعلم عين ما يقولون في قولهم { أئذا متنا وكنا ترابا } { أئذا ضللنا في الأرض } ، فيقول : نحن نعلم الأجزاء التي يقولون فيها إنها ضالة وخفية ولا يكون المراد نحن نعلم وقولهم في الأول جاز أن تكون ما مصدرية فيكون المراد من قوله : { بما يقولون } أي قولهم ، وفي الوجه الآخر تكون خبرية ، وعلى هذا الدليل فلا يصح قوله : { نحن أعلم } إذ لا عالم بتلك الأجزاء سواه حتى يقول : { نحن أعلم } نقول قد علم الجواب عنه مرارا من وجوه :

( أحدها ) أن أفعل لا يقتضي الاشتراك في أصل الفعل كما في قوله تعالى : { والله أحق أن تخشاه } وفي قوله تعالى : { أحسن نديا } ، وفي قوله : { وهو أهون عليه } .

ثانيها : معناه نحن أعلم بما يقولون من كل عالم بما يعلمه ، والأول أصح وأظهر وأوضح وأشهر وقوله : { وما أنت عليهم بجبار } فيه وجوه : ( أحدها ) أن للتسلية أيضا ، وذلك لأنه لما من عليه بالإقبال على الشغل الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث ، كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في ( أحدهما ) يقول له أقبل على الشغل الآخر ومنهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عن منهما ، فقال : { اصبر . وسبح ، وما أنت . . بجبار } أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك ، بل كنت بهم رءوفا وعليهم عطوفا وبالغت وبلغت وامتنعوا ، فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك ، وهذا في معنى قوله تعالى : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } إلى أن قال : { وإنك لعلى خلق عظيم } ، ( ثانيها ) هو بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بما عليه من الهداية ، وذلك لأنه أرسله منذرا وهاديا لا ملجأ ومجبرا ، وهذا كما في قوله تعالى : { فما أرسلناك عليهم حفيظا } أي تحفظهم من الكفر والنار ، وقوله : { وما أنت عليهم } في معنى قول القائل : اليوم فلان علينا ، في جواب من يقول : من عليكم اليوم ؟ أي من الوالي عليكم ، ( ثالثها ) هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب ، فقال : نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابي إن لم يؤمنوا من بقي منهم ممن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط ، ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال ، وعلى هذا فقوله : { فذكر بالقرءان من يخاف وعيد } أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد ، وفيه وجوه أخر ، ( أحدها ) أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى : { فاصبر على ما يقولون وسبح } معناه أقبل على العبادة ، ثم قال : ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } { وأعرض عن الجاهلين } وقوله : { بالقرءان } فيه وجوه : ( الأول ) فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة ، ( الثاني ) { فذكر بالقرءان } أي بين به أنك رسول لكونه معجزا ، وإذا ثبت كونك رسولا لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به ، ( الثالث ) المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير ، وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم به أي اجعل القرآن إمامك ، وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم ، وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه ، وقوله تعالى : { من يخاف وعيد } من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف ، حيث قال : { يخاف } عندما جعل المخوف عذاب ووعيده ، وقال : { اخشوني } عندما جعل المخوف نفسه العظيم ، وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة ، وقوله : { وذكر } إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال : { بالقرءان } وقوله : { وعيد } إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله : { وعيد } يدل على الوحدانية ، فإنه لو قال من يخاف وعيد الله كان يذهب وهم الله إلى كل صوب فلذا قال : { وعيد } والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه ، وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول : { ق والقرءان المجيد } وقال في آخرها : { فذكر بالقرءان } .

وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين .