المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

7- واذكروا - أيها المؤمنون - وعد الله تعالى لكم أن ينصركم على إحدى الطائفتين التي فيها الشوكة والقوة ، وأنتم تودون أن تدركوا الطائفة الأخرى التي فيها المال والرجال ، وهي قافلة أبى سفيان ، فاخترتم المال ولا شوكة فيه ، ولكن الله تعالى يريد أن يثبت الحق بإرادته وقدرته وكلماته المعلنة للإرادة والقدرة ، ويستأصل الكفر من بلاد العرب بنصر المؤمنين{[71]} .


[71]:تتناول الآيات الكريمة ما يجيش في النفوس أثناء القتال من تمني ملاقاة قلة من العدو وكره ملاقاة العدد الكثير، والرغبة في إصابة المال والغنائم دون ملاقاة المكاره، بينما يريد الله تعالى إعلاء الدين وإظهار الحق واستئصال الكافرين.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } ، قال ابن عباس ، وابن الزبير ومحمد ابن إسحاق ، والسدي : أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش ، في أربعين راكباً من كفار قريش ، فيهم : عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وفيها تجارة كثيرة ، وهي اللطيمة ، حتى إذا كانوا قريباً من بدر ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فندب أصحابه إليه ، وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها ، فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة . وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني ، وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم على ما أحدثك . قال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت ، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها قلقة ، فقال العباس : والله إن هذه لرؤيا رأيت ، فاكتميها ولا تذكريها لأحد . ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش . قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، قال : فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب ، متى حدثت هذه النبية فيكم ؟ قلت : وما ذاك ؟ قال : الرؤيا التي رأت عاتكة ؟ قلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب ، أما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقاً فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتاباً إنكم أكذب أهل بيت في العرب . فقال العباس : والله ما كان مني إليه كبير إلا أني حجدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً ، ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت . قال : قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كبير ، وأيم الله ، لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفيكنه . قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد ، فرأيته ، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلاً خفيفاً ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . قال : قلت في نفسي : ماله لعنه الله ؟ أكل هذا فرقاً مني أن أشاتمه ؟ قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، سمع صوت ضمضم بن عمرو ، وهو يصرخ ببطن الوادي وافقاً على بعيره ، وقد جدع بعيره وحول رحله ، وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، ولا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعاً ، فلم يتخلف من أشراف قريش أحد ، إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة بن الحارث ، فقالوا : نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، في ليال مضت من شهر رمضان ، حتى إذا بلغ وادياً يقال له ذا قرد ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عيناً للقوم ، فأخبره بهم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم ، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل جبريل وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً ، وكانت العير أحب إليهم ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، إمض لما أراك الله فنحن معك ، فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ، يعني مدينة الحبشة ، فجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل . قال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشط ذلك . ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ، قال ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا ، قال : فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فذلك قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } أي : الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير .

قوله تعالى : { وتودون } ، أي : تريدون .

قوله تعالى : { أن غير ذات الشوكة تكون لكم } ، يعني العير التي ليس فيها قتال . والشوكة : الشدة والقوة ، ويقال السلاح .

قوله تعالى : { ويريد الله أن يحق الحق } أي يظهره ويعليه .

قوله تعالى : { بكلماته } بأمره إياكم بالقتال . وقيل : بعداته التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه .

قوله تعالى : { ويقطع دابر الكافرين } ، أي : يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، يعني : كفار العرب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام ، قافلة كبيرة ، . فلما سمعوا برجوعها من الشام ، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، . فخرج معه ثلاثمائة ، وبضعة عشر رجلا معهم سبعون بعيرا ، يعتقبون عليها ، ويحملون عليها متاعهم ، . فسمعت بخبرهم قريش ، فخرجوا لمنع عيرهم ، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال ، يبلغ عددهم قريبا من الألف .

فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين ، إما أن يظفروا بالعير ، أو بالنفير ، . فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين ، ولأنها غير ذات شوكة ، . ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا .

أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم ، . وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي : يستأصل أهل الباطل ، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

ثم حكى - سبحانه - جانباً من مظاهر فضله على المؤمنين ، مع جزع بعضهم من قتال عدوه وعدوهم ، وإيثارهم العير على النفير فقال : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } .

والمراد بإحدى الطائفتين : العير أو النفير ، والخطاب للمؤمنين .

والمراد بغير ذات الشوكة : العير ، والمراد بذات الشوكة : النفير .

والشوكة في الأصل واحد الشوك وهو النبات الذي له حد ، ثم استعيرت للشدة والحدة . ومنه قولهم : رجل شائك السلاح أى : شديد قوى .

والمعنى : واذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن وعدكم الله - تعالى - على لسان رسوله - بأن إحدى الطائفتين : العير أو النفير هى لكم تظفرون بها ، وتتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه ، وأنتم مع ذلك تودون وتتمنون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهى العير .

وعبر - سبحانه - عن وعده لهم بصيغة المضارع { يَعِدُكُمُ } مع أن هذا الوعد كان قبل نزول الآية ، لاستحضار صورة الموعود به في الذهن ، ولمداومة شكره - سبحانه - على ما وهبهم من نصر وفوز .

وإنما وعدهم - سبحانه - إحدى الطائفتين على الإِبهام مع أنه كان يريد إحداهما وهى النفير ، ليستدرجهم إلى الخروج إلى لقاء العدو حتى ينتصروا عليه . وبذلك تزول هيبة المشركين من قلوب المؤمنين .

وقوله { إِحْدَى } مفعول ثاني ليعد . وقوله : { أَنَّهَا لَكُمْ } بدل اشتمال من { إِحْدَى } مبين لكيفية الوعد .

أى : يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم ، ومختصة لكم ، تتسلطون عليها تسلط الملاك ، وتتصرفون فيها كيفيما شئتم .

وقوله : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } معطوف على قوله : { يَعِدُكُمُ } أى : وعدكم - سبحانه - إحدى الطائفتين بدون تحديد لإِحداهما ، وأنتم تحبون ان تكون لكم طائفة العير التي لا قتال فيها يذكر ، على طائفة النفير التي تحتاج منكم إلى قتال شديد ، وإلى بذل للمهج والأرواح .

وفى هذه الجملة تعريض بهم ، حيث كرهوا القتال ، وأحبوا المال ، وما هكذا يكون شأن المؤمنين الصادقين .

ثم بين لهم - سبحانه - أنهم وإن كانوا يريدون العير ، إلا أنه - سبحانه - يريد لهم النفير ، ليعلو الحق ، ويزهق الباطل ، فقال : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } .

أى : ويريد الله بوعده غير ما أردتم . { 1649 ؛ لشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي أن يظهر الحق ويعلمه بآياته المنزلة على رسوله ، وبقضائه الذي لا يتخلف ، وأن يستأصل الكافرين ويذلهم ، ويقطع دابرهم ؛ أي آخرهم الذي يدبرهم .

والدابر : التابع من الخلف ، يقال : دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ، إذا كان آخرهم في المجئ ، والمراد أنه سبحانه يريد أن يستأصلهم استئصالا .

وقد هلك في غزوة بدر عدد كبير من صناديد قريش الذين كانوا يحاربون الإِسلام ، ويستهزئون بتعاليمه .

قال صاحب الكشاف في معنى الآية الكريمة ، قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفساف الأمور ، وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم ، والله - عز وجل - يريد معالى الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ، ونصرة الحق ، وعلو الكلمة والفوز في الداري ، وشتان ما بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزكم وأذلهم ، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

5

ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها :

( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) . .

هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك . أما ما أراده الله لهم ، وبهم ، فكان أمراً آخر :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

قال الإمام أبو جعفر الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه " الكاف " في قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم : شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين ، اتقاؤهم ربهم ، وإصلاحهم ذات بينهم ، وطاعتهم الله ورسوله .

ثم روى عن عكرمة نحو هذا .

ومعنى هذا أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم ، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم{[12667]} فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة - وهم النفير{[12668]} النفير الذين خرجوا لنصر دينهم ، وإحراز عيرهم - فكان عاقبة ، كراهتكم للقتال - بأن قدَّره لكم ، وجَمَع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد - رَشَدَا وهدى ، ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ]

قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم كارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم ، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } قال : كذلك يجادلونك في الحق .

وقال السُّدِّي : أنزل الله في خروجه{[12669]} إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } لطلب المشركين { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ }

وقال بعضهم : يسألونك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجتنا للعِير ، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له .

قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان ، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام ، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خَف منهم ، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر ، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فبعث ضَمْضَم بن عمرو نذيرا إلى مكة ، فنهضوا في قريب من ألف مُقَنَّع ، ما بين التسعمائة إلى الألف ، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا ، وجاء النفير فوردوا ماء بدر ، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد ، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين

ونصرهم على عدوهم ، والتفرقة{[12670]} بين الحق والباطل ، كما سيأتي بيانه .

والغرض : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير ، أوحى الله إليه يَعدهُ إحدى الطائفتين : إما العير وإما النَّفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير ؛ لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }

قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا ؟ " فقلنا : نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]قال : فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال : فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } وذكر تمام الحديث{[12671]}

ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن لهيعة ، بنحوه .

ورواه ابن مَرْدُوَيْه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمة بن وقاص الليثي ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، حتى إذا كان بالرَّوْحاء ، خطب الناس فقال : " كيف تَرَون ؟ " فقال أبو بكر : يا رسول الله ، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا . قال : ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر . ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد ؟ فو الذي أكرمك [ بالحق ]{[12672]} وأنزل عليك الكتاب ، ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت [ بنا ]{[12673]} حتى تأتي " بَرْك الغماد " من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر ، وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك ، فامض له ، فَصِلْ حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الآيات .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر ، أمر الناس فعبئوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }

وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال . وقال محمد بن إسحاق : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ [ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ] }{[12674]} أي : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم .

وقال السُّدِّي : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي : بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به .

قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى بذلك المشركين .

حدثني يونس ، أنبأنا ابن وَهْب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : هؤلاء المشركون ، جادلوه في الحق { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } حين يدعون إلى الإسلام { وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر .

ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله ؛ لأن الذي قبل قوله : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } خبر عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه خبر عنهم ، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين .

وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق ، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام ، والله أعلم . .

وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل ، عن سِمَال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب - قال عبد الرزاق : وهو أسير في وثاقه - ثم اتفقا : إنه لا يصلح لك ، قال : ولم ؟ قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك{[12675]}

إسناد جيد ، ولم يخرجه{[12676]}

ومعنى قوله تعالى { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي : يحبون أن الطائفة التي لا حَدَّ لها ولا منعة ولا قتال ، تكون لهم وهي العير { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي : هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ، ليُظَفِّرَكم بهم ويظهركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي دبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ] [ البقرة : 216 ] }{[12677]}

وقال محمد بن إسحاق ، رحمه الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس - كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر - قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام نَدب المسلمين إليهم ، وقال : " هذه عيرُ قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها " فانتدب الناسُ ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا ، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان : أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فَحَذِرَ عند ذلك ، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى أهل مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له " ذَفرَان " ، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قُريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام عمر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[12678]} مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى " بَرْك الغِماد " - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشيروا علي أيها الناس " - وإنما يريد الأنصار - وذلك أنهم كانوا عَدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذِمَامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمَمنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ، من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : " أجل " قال : فقال : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت . فوالذي بعثك بالحق ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر عند الحرب ، صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله [ أن ]{[12679]} يريك منا ما تَقَرّ به عينك ، فسِرْ بنا على بركة الله . فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه ذلك ، ثم قال : " سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " {[12680]}

وروى العَوْفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق .


[12667]:في ك، م، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
[12668]:في د: "وهو".
[12669]:في د: "خروجهم".
[12670]:في د: "التفريق".
[12671]:رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/174).
[12672]:زيادة من م.
[12673]:زيادة من أ.
[12674]:زيادة من أ.
[12675]:المسند (1/229) من رواية يحيى بن أبي بكير و (1/314) من رواية عبد الرزاق.
[12676]:في ك، م، أ: "يخرجوه".
[12677]:زيادة من م، أ.
[12678]:في د، ك، م: "معكم".
[12679]:زيادة من م.
[12680]:رواه الطبري في تفسيره (13/399).

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتِيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : واذكروا أيها القوم إذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ يعني : إحدى الفرقتين ، فرقة أبي سفيان بن حرب والعير ، وفرقة المشركين الذين نفروا من مكة لمنع عيرهم . وقوله : أنّها لَكُمْ يقول : إن ما معهم غنيمة لكم . وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَة تَكُونُ لَكُمْ يقول : وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة ، يقول : ليس لها حدّ ولا فيها قتال أن تكون لكم ، يقول : تودّون أن تكون لكم العير التي ليس فيها قتال لكم دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم الذين في لقائهم القتال والحرب . وأصل الشوكة من الشوك .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثنا عليّ بن نصر ، وعبد الوارث بن عبد الصمد ، قالا : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة : أن أبا سفيان أقبل ومن معه من ركبان قريش مقبلين من الشأم ، فسلكوا طريق الساحل فلما سمع بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه ، وحدثهم بما معهم من الأموال وبقلة عددهم . فخرجوا لا يريدون إلاّ أبا سفيان ، والركب معه لا يرونها إلاّ غنيمة لهم ، لا يظنون أن يكون كبير قتال إذا رأوهم . وهي ما أنزل الله : وتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس ، كلّ قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشأم ندب المسلمين إليهم ، وقال : «هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فيها أمْوَالُهُمْ ، فاخْرُجُوا إلَيْهَا لعلّ الله أنْ يُنَفّلَكُمُوهَا » فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعض ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي حربا . وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوّفا من الناس ، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فحذر عند ذلك ، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، حتى بلغ واديا يقال له ذَفِرَان ، فخرج منه ، حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض إلى حيث أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحقّ لئن سرت بنا إلى بِرك الغماد يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ثم دعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أشِيرُوا عَليّ أيّها النّاسُ » وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه على العقبة ، قالوا : يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا ، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا . فكأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ ممن دهمه بالمدينة من عدّوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوّ من بلادهم . قال : فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : «أجَلْ » . قال : فقد آمنّا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحقّ ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحقّ إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن يلقانا عدوّنا غدا ، إنا لصُبُر عند الحرب ، صُدُق عند اللقاء ، لعلّ الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ، ثم قال : «سِيرُوا على بَرَكَةِ اللّهِ وأبْشِرُوا ، فإنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ ، وَاللّهِ لَكأني أنْظُرُ الاَنَ إلى مَصَارِعِ القَوْمِ غَدا » .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أن أبا سفيان أقبل في عير الشأم فيها تجارة قريش ، وهي اللطيمة ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد أقبلت فاستنفر الناس ، فخرجوا معه ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً ، فبعث عينا له من جهينة ، حليفا للأنصار يُدعى ابن الأريقط ، فأتاه بخبر القوم . وبلغ أبا سفيان خروج محمد صلى الله عليه وسلم ، فبعث إلى أهل مكة يستعينهم ، فبعث رجلاً من بني غفار يُدعى ضمضم بن عمرو ، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يشعر بخروج قريش ، فأخبره الله بخروجهم ، فتخوّف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا : إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا . فأقبل على أصحابه فاستشارهم في طلب العير ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : إني قد سلكت هذا الطريق ، فأنا أعلم به ، وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا ، فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد فشاورهم ، فجعلوا يشيرون عليه بالعير . فلما أكثر المشورة ، تكلم سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله ، أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك وتعود فتشاورهم ، فكأنك لا ترضى ما يشيرون عليك وكأنك تتخوّف أن تتخلف عنك الأنصار ، أنت رسول الله ، وعليك أنزل الكتاب ، وقد أمرك الله بالقتال ووعدك النصر ، والله لا يخلف الميعاد ، امض لما أمرت به فوالذي بعثك بالحقّ لا يتخلف عنك رجل من الأنصار ثم قام المقداد بن الأسود الكندي ، فقال : يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ولكنا نقول : أقدم فقاتل إنا معك مقاتلون ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال : «إنّ رَبّي وَعَدَنِي القَوْمَ وَقَدْ خَرَجُوا فَسِيرُوا إلَيْهِمْ » فساروا .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنّها لَكُمْ وَتَوَدّونَ أنّ غير ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قال : الطائفتان إحداهما أبو سفيان بن حرب إذ أقبل بالعير من الشأم ، والطائفة الأخرى أبو جهل معه نفر من قريش . فكره المسلمون الشوكة والقتال ، وأحبوا أن يلقوا العير ، وأراد الله ما أراد .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ قال : أقبلت عير أهل مكة يريد : من الشام فبلغ أهل المدينة ذلك ، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العِير . فبلغ ذلك أهل مكة ، فسارعوا السير إليها لا يغلب عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين ، فكانوا أن يلقوا العير أحبّ إليهم وأيسر شوكة وأحضر مغنما . فلما سبقت العير ، وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم ، فكره القوم مسيرهم لشوكة في القوم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قال : أرادوا العير ، قال : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأوّل ، فأغار كرز بن جابر الفهري يريد سرح المدينة حتى بلغ الصفراء ، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فركب في أثره ، فسبقه كرز بن جابر ، فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأقام سنته . ثم إن أبا سفيان أقبل من الشأم في عير لقريش ، حتى إذا كان قريبا من بدر ، نزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأوحى إليه : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ فنفر النبيّ صلى الله عليه وسلم بجميع المسلمين ، وهو يومئذٍ ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم سبعون ومئتان من الأنصار ، وسائرهم من المهاجرين . وبلغ أبا سفيان الخبر وهو بالبطم ، فبعث إلى جميع قريش وهم بمكة ، فنفرت قريش وغضبت .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قال : كان جبريل عليه السلام قد نزل ، فأخبره بمسير قريش وهي تريد عيرها ، ووعده : إما العير ، وإما قريشا وذلك كان ببدر ، وأخذوا السقاة وسألوهم ، فأخبروهم ، فذلك قوله : وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ هم أهل مكة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ . . . إلى آخر الاَية : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهم يريدون يعترضون عيرا لقريش ، قال : وخرج الشيطان في صورة سراقة بن جعشم ، حتى أتى أهل مكة ، فاستغواهم وقال : إن محمدا وأصحابه قد عرضوا لعيركم ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس مَن مثلكم ، وإني جار لكم أن تكونوا على ما يكره الله . فخرجوا ونادوا أن لا يتخلف منا أحد إلاّ هدمنا داره واستبحناه وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالروحاء عينا للقوم ، فأخبره بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَكُمُ العِيرَ أوِ القَوْمَ » . فكانت العير أحبّ إلى القوم من القوم ، كان القتال في الشوكة ، والعير ليس فيها قتال ، وذلك قول الله : وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قال : الشوكة : القتال ، وغير الشوكة : العير .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن ابن أبي حبيب ، عن أبي عمران ، عن أبي أيوب ، قال : أنزل الله جلّ وعزّ : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنّهَا لَكُمْ فلما وعدنا إحدى الطائفتين أنها لنا طابت أنفسنا . والطائفتان : عير أبي سفيان ، أو قريش .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران الأنصاريّ ، أحسبه قال : قال أبو أيوب : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قالوا : الشوكة : القوم وغير الشوكة : العير فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين : إما العير ، وإما القوم ، طابت أنفسنا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني يعقوب بن محمد ، قال : ثني غير واحد ، في قوله : وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ إن الشوكة قريش .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ هي عير أبي سفيان ، ودّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم وأن القتال صُرِف عنهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ : أي الغنيمة دون الحرب .

وأما قوله : أنّهَا لَكُمْ ففُتحت على تكرير «يَعِدُ » ، وذلك أن قوله : يَعِدُكُمُ اللّهُ قد عمل في إحدى الطائفتين . فتأويل الكلام : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم ، كما قال : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً . قال : وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ فأنث «ذات » لأنه مراد بها الطائفة .

ومعنى الكلام : وتودون أن الطائفة التي هي غير ذات الشوكة تكون لكم ، دون الطائفة ذات الشوكة .

القول في تأويل قوله تعالى : ويُرِيدُ اللّهُ أنْ يُحِقّ الحَقّ بكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافِرِينَ .

يقول تعالى ذكره : ويريد الله أن يحقّ الإسلام ويعليه بكلماته ، يقول : بأمره إياكم أيها المؤمنون بقتال الكفار ، وأنتم تريدون الغنيمة والمال .

وقوله : وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافِرِينَ يقول : يريد أن يجبّ أصل الجاحدين توحيد الله . وقد بيّنا فيما مضى معنى دابر ، وأنه المتأخر ، وأن معنى قطعه الإتيان على الجميع منهم .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَيُرِيدُ اللّهَ أنْ يُحِقّ الحَقّ بكَلِماتِهِ أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم ، هذا خير لكم من العير .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَيُرِيدُ اللّهَ أنْ يُحِقّ الحَقّ بكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافِرِينَ : أي الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } على إضمار اذكر ، وإحدى ثاني مفعولي { يعدكم } وقد أبدل منها . { أنها لكم } بدل الاشتمال . { وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } يعني العير فإنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ولذلك يتمنونها ويكرهون ملاقاة النفير لكثرة عَددهم ، وعُدَدِهم والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك : { ويريد الله أن يُحقّ الحق } أي يثبته ويعليه . { بكلماته } الموحى بها في هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالإمداد ، وقرئ " بكلمته " . { ويقطع دابر الكافرين } ويستأصلهم ، والمعنى : أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها ، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (7)

الأحسن أن تكون { وإذ يعدكم الله } معطوفاً على { كما أخرجك } [ الأنفال : 5 ] عطفَ المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبهاً به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى : كاخراجك اللَّهُ من بيتك وكوقتتِ يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذا أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتُؤَول بمصدر ، والتقدير : وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين ، ف { إذ } اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه ، وجعَل صاحب « الكشاف » { إذْ } مفعولاً لفعل ( اذكر ) محذوف شأن { إذْ } الواقعة في مفتتح القِصص ، فيكون عطفُ جملةِ الأمر المقدرِ على جملة { قل الأنفال لله } [ الأنفال : 1 ] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطأ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم .

و« الطائفة » الجماعة من الناس ، وتقدم عند قوله { فلتقم طائفةٌ منهم معك } في سورة [ النساء : 102 ] .

وجملة : { أنّها لكم } في تأويل مصدر ، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين ، أي : يعدكم مصيرَ إحدى الطائفتين لكم ، أي كونها معطاة لكم ، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة .

واللام للملك وهو هنا ملك عُرفي ، كما يقولون كان يومُ كذا لبني فلان على بني فلان ، فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة .

{ وتَودون } إما عطف على { يعَدكم } أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم ، وإما في موضع الحال والواو واو الحال ، أي يعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف { وإذ يعدكم } ، مجرور الكاف في قوله : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } [ الأنفال : 5 ] فهو مما شبه به حال سُؤالهم عَن الأنفال سؤالاً مشوباً بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها .

و« الوُد » المحبة و { ذات الشوكة } صاحبة الشوكة ووقع { ذات } صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة ، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال .

و { الشوكة } أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبَر ، فإذا نزغت جلد الإنسان أدْمته أو آلمته ، وإذا عَلِقَت بثوب أمسكَتْه ، وذلك مثل ما في ورق العَرفج ، ويقال هذه شجرة شائكة ، ومن الكناية عن ظهور الشر قولُهم : « إن العَوسج قد أوْرق » ، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها .

وشاع استعارة الشوكة للبأس ، يقال : فلان ذو شوكة ، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للبَاس في قولهم : أبدى قَرنه ، والناب أيضاً في قولهم : كشّر عن نابه ، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم .

وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عِير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر ، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين ، أي إما العِير وإمّا النفير وعداً معلقاً على اختيارهم إحداهما ، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعِير أم يقصدون نفير قريش ، فقال الناس : إنما خرجنا لأجل العِير ، وراموا اللحاق بالعِير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش ، وكانت العِير لا تشتمل إلا على أربعين رجلاً وكان النفير فيما قيل يشتمل على ألف رجل مسلّح ، فذلك معنى قوله تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي تودون غنيمة بدون حرب ، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العِير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية ، أمر الله بها نبيّه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أُعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة .

وقوله : { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } عطف على جملة { وتودون } على احتمالي أن واوَها للعطف أو للحال ، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم ، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم ، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم . فهذا تلطف من الله بهم .

والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات . فهذا كقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] أي يسَّر بكم .

ومعنى { يُحق الحق } : يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال : حق الشيء ، إذا ثبت قال تعالى : { أفمن حَق عليه كلمة العذاب } [ الزمر : 19 ] .

والمراد بالحق . هنا : دين الحق وهو الإسلام ، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله : { حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ } [ الزخرف : 29 ] الآية .

وإحقاقه باستيصال معانديه ، فأنتم تريدون نفعاً قليلاً عاجلاً ، وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .