182- أما إذا كانت الوصية زائغة عن العدل وعن الصراط القويم الذي بَيَّنَّاه بأن حَرَم الموصِى الفقيرَ وأعطى الغني ، أو ترك الأقربين وراعى الفقراء غير الوارثين الأجانب ، فسعى ساع في سبيل الخير وأصلح بين الموصي إليهم ليرد الوصية إلى الصواب ، فلا إثم عليه فيما يحدثه من تغيير الوصية وتبديلها على هذا الوجه ، ولا يؤاخذه الله على ذلك ، فإن الله غفور رحيم .
قوله تعالى : { فمن خاف } . أي علم ، كقوله تعالى : ( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ) أي علمتم .
قوله تعالى : { من موص } . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب ، بفتح الواو وتشديد الصاد ، كقوله تعالى : ( ما وصى به نوحاً ) ( ووصينا الإنسان ) وقرأ الآخرون بسكون الواو ، وتخفيف الصاد ، كقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) .
قوله تعالى : { جنفاً } . أي جوراً وعدولاً عن الحق ، والجنف : الميل .
قوله تعالى : { أو إثماً } . أي ظلماً ، قال السدي وعكرمة والربيع : الجنف الخطأ والإثم العمد .
قوله تعالى : { فأصلح بينهم فلا إثم عليه } . واختلفوا في معنى الآية ، قال مجاهد : معناها أن الرجل إذا حضر مريضاً وهو يوصي فرآه يميل : إما بتقصير أو إسراف ، أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى وللورثة ، وقال آخرون : إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو ولى أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته ، وبين الموصى لهم ، ويرد الوصية إلى العدل والحق ، ( فلا إثم عليه ) ، أي : فلا حرج عليه .
قوله تعالى : { إن الله غفور رحيم } . وقال طاووس : جنفة توجيهه ، وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه ولولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنته . وقال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى : ( فمن بدله بعد ما سمعه ) الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق للورثة شيء ، ثم نسخها قوله تعالى : ( فمن خاف من موص جنفاً ) الآية ، قال ابن زيد : فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى ، وعجز الموصي أن يصلح فانتزع الله تعالى ذلك منهم ، ففرض الفرائض .
روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة : ( من بعد وصية إلى قوله غير مضار ) .
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف ، وإثم ، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها ، أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل ، وأن ينهاه عن الجور والجنف ، وهو : الميل بها عن خطأ ، من غير تعمد ، والإثم : وهو التعمد لذلك .
فإن لم يفعل ذلك ، فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم ، ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة ، ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما ، وليس عليهم إثم ، كما على مبدل الوصية الجائزة ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي : يغفر جميع الزلات ، ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه ، ومنه مغفرته لمن غض من نفسه ، وترك بعض حقه لأخيه ، لأن من سامح ، سامحه الله ، غفور لميتهم الجائر في وصيته ، إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته ، رحيم بعباده ، حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون ، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية ، وعلى بيان من هي له ، وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة ، والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة .
ثم استثنى - سبحانه - حالة يجوز فيها التغيير فقال ، { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } .
خاف : من الخوف ، وهو في الأصل حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم .
والجنف : الميل والجور . يقال : جنف في وصيته وأجنف ، مال وجار ، فهو جنف وأجنف . وقيل : أجنف مختص بالوصية وجنف في مطلق الميل عن الحق . ويقال : جنف وجنف عن طريقة جنفاً وجنوفاً .
والإِثم : العمل الذي يبغضه الله . يقال : أثم فهو آثم وأثيم .
قال بعضهم : والمراد بالجنف هنا : الميل عن الحق في الوصية خطأ ، بقرينة مقابلته بالإِثم وهو الميل عن الحق فيها عمداً .
هذا ، ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصي قد حاد في وصيته عن حدود العدل ، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله ، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأي يكون المعنى : أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلا عن الحق خطأ أو عمداً وأصلح بين الموصي لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية .
والضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } عائد على الموصي لهم .
ويرى آخرون أن هذه الآية واردة في شأن كل من يبغي الإِصلاح من الناس ، بأن يرى الموصِي يوصِي ، فظهر له - أي هذا المصلح - أن الموصِي قد جانب العدل والصواب في وصيته ، فيأخذ في الإِصلاح ، بأن يرشده بأن فعله هذا لا يتفق مع شريعة العدل التي أمر بها الله ، ويحاول قدر استطاعته أن يزيل ما حدث من خلاف بين الموصِي والموصَى لهم .
وعلى هذا الرأي يكون المعنى : إن خرج الموصِي في وصيته عن حدود العدالة ، ورأى أمارات ذلك منه من يريد الإِصلاح من الناس ، وتوقع أن شراً سيترتب على هذه الوصية التي فيها جور ، أو شاهد نزاعاً بين الموصى لهم بسبب ذلك ، فلا إثم على هذا المصلح في أن يصلح بين الموصِى والموصَى لهم ، وأن يرشد الموصى إلى سلوك طريق العدل والحق . وعليه فيكون الضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } يعود على الموصى والموصى لهم .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب ، لأن سياق الآية يؤيده ، إذ هي بمنزلة الاستثناء من قوله - تعالى - : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } . . وهذا إنما يكون بعد موت الموصِى لا في حياته .
وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه ، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد عغلى ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكما آخر من أحكامها السامية ، يتعلق بالوصية في الأموال ، وفي هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل ، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض .
إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي . ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد ، أو النكاية بالوريث . فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف ، وهو الحيف ، ويرد الأمر إلى العدل والنصف :
( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .
والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك . ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال ، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف .
وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدودا إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى . والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء .
وقوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا } قال ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي : الجَنَف : الخطأ . وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها ، بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة ، كما إذا أوصى ببيعه الشيءَ الفُلانيّ محاباة ، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها ، أو نحو ذلك من الوسائل ، إما مخطئًا غير عامد ، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر ، أو متعمدًا آثمًا في ذلك ، فللوصيّ - والحالة هذه - أن يصلح القضية{[3169]} ويعدلَ في الوصية على الوجه الشرعي . ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به{[3170]} جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي . وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء . ولهذا عطف هذا – فبينه{[3171]} - على النهي لذلك ، ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل ، والله أعلم .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مَزيد ، قراءة ، أخبرني أبي ، عن الأوزاعي ، قال الزهري : حدثني عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : " يُرَدّ من صَدقة الحائف{[3172]} في حياته ما يردّ من وصية المجنف{[3173]} عند موته " {[3174]} .
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث العباس بن الوليد ، به .
قال ابن أبي حاتم : وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد . وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط . وقد رواه الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، فلم يجاوز به عروة .
وقال ابن مَرْدويه أيضًا : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا عمر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحيف في الوصية من الكبائر " {[3175]} .
وهذا في رفعه أيضًا نظر{[3176]} . وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق :
حدثنا مَعْمَر ، عن أشعثَ بن عبد الله ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليعملُ بعمل أهل الخير سبعينَ سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله ، فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعَمَل أهل الشرّ سبعينَ سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنة " {[3177]} . قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم : تأويلها : فمن حضر مريضا وهو يوصي عند إشرافه على الموت ، فخاف أن يخطىء في وصيته فيفعل ما ليس له أو أن يعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به ، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه أن يصلح بينه وبين ورثته بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن منعه مما أذن الله له فيه وأباحه له . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَمَن خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أو إثما فأصلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ } قال : هذا حين يحضر الرجل وهو يموت ، فإذا أسرف أمروه بالعدل ، وإذا قصر قالوا افعل كذا ، أعط فلانا كذا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { فَمَنَ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفا أو إثْما } قال : هذا حين يحضر الرجل وهو في الموت ، فإذا أشرف على الموت أمروه بالعدل ، وإذا قصر عن حق قالوا : افعل كذا ، أعط فلانا كذا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف من أوصياء ميت أو والي أمر المسلمين من موص جَنفا في وصيته التي أوصى بها الميت ، فأصلح بين ورثته وبين الموصى لهم بما أوصى لهم به ، فردّ الوصية إلى العدل والحق فلا حَر ج ولا إثم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفا يعني إثما ، يقول : إذا أخطأ الميت في وصيته ، أو حاف فيها ، فليس على الأولياء حرج أن يردّوا خطأه إلى الصواب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوّ إثْما قال : هو الرجل يوصي فيحيف في وصيته فيردها الوليّ إلى الحق والعدل .
حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثمْا } وكان قتادة يقول : من أوصى بجور أو حيف في وصيته فردّها وليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وإلى العدل ، فذاك له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما فمن أوصى بوصية بجور فردّه الوصيّ إلى الحقّ بعد موته فَلا إثْمَ عَلَيْهِ قال عبد الرحمن في حديثه : فأصلَحَ بَيْنَهُمْ يقول : ردّه الوصيّ إلى الحق بعد موته فلا إثم عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنفا أوْ إثما فأصلَحَ بَيْنَهُمْ }قال : ردّه إلى الحق .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن إبراهيم ، قال : سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث ، قال : ارددها ، ثم قرأ : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما } .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ } قال : ردّه الوصيّ إلى الحقّ بعد موته فلا إثم على الوصي .
وقال بعضهم : بل معنى ذلك : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما في عطيته عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض ، فلا إثم على من أصلح بينهم ، يعني بين الورثة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما قال الرجل : يحيف أو يأثم عند موته فيعطي ورثته بعضهم دون بعض ، يقول الله : فلا إثم على المصلح بينهم . فقلت لعطاء : أله أن يعطي وارثه عند الموت ، إنما هي وصية ، ولا وصية لوارث ؟ قال : ذلك فيما يقسم بينهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لمن لا يرثه بما يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان يقول : جَنَفُه وإثمه : أن يُوصِيَ الرجل لبني ابنه ليكون المال لأبيهم ، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها ، وذو الوارث الكثير والمال قليل فيوصي بثلث ماله كله فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير . قلت : أفي حياته ، أم بعد موته ؟ قال : ما سمعنا أحدا يقول إلا بعد موته ، وإنه ليوعظ عند ذلك .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { فَمَنُ خافَ مِنْ مُوصٍ جنَفَا أوْ إثْما فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ }قال : هو الرجل يوصي لولد ابنته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص لاَبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض فأصلح بين الاَباء والأقرباء فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أو إثْما فأصْلحَ بَيْنَهُم فَلا إثمَ عَلَيْهِ } أما جنفا : فخطأ في وصيته وأما إثما : فعمدا يعمد في وصيته الظلم ، فإن هذا أعظم لأجره أن لا ينفذها ، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق ينقص بعضا ويزيد بعضا . قال : ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثمَ عَلَيْهِ }قال : الجنف : أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية ، والإثم أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض ، فأصلح بينهم الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين الابن والبنون هم الأقربون ، فلا إثم عليه ، فهذا الموصَى الذي أوصي إليه بذلك وجعل إليه فرأى هذا قد أجنف لهذا على هذا فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، فيعجز الموصي أن يوصي كما أمره الله تعالى وعجز الموصَى إليه أن يصلح فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم ففرض الفرائض .
وأولى الأقوال في تأويل الآية ، أن يكون تأويلها : فمن خاف من موص جنفا أو إثما ، وهو أن يميل إلى غير الحقّ خطأ منه ، أو يتعمد إثما في وصيته بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله ، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث ، أو بالثلث كله ، وفي المال قلة ، وفي الورثة كثرة ، فلا بأس على من حضره أي يصلح بين الذين يوصَى لهم وبين ورثة الميت وبين الميت ، بأن يأمر الميت في ذلك بالمعروف ، ويعرّفه ما أباح الله له في ذلك ، وأذن له فيه من الوصية في ماله ، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بالمَعْرُوفِ } وذلك هو الإصلاح الذي قال الله تعالى ذكره : { فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ }وكذلك لمن كان في المال فضل وكثرة ، وفي الورثة قلة ، فأراد أن يقصر في وصيته لوالديه وأقاربه عن ثلثه ، فأصلح من حضره بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصي لهم بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم ، ويبلغ بها ما رخص الله فيه من الثلث ، فذلك أيضا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف .
وإنما اخترنا هذا القول لأن الله تعالى ذكره قال : { فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما }يعني بذلك : فمن خاف من موص أن يجنف أو يأثم . فخوف الجنف والإثم من الموصي إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم ، فأما بعد وجوده منه فلا وجه للخوف منه بأن يجنف أو يأثم ، بل تلك حال من قد جنف أو أثم ، ولو كان ذلك معناه قيل : فمن تبين من موص جنفا أو إثما ، أو أيقن أو علم ، ولم يقل فمن خاف منه جنفا .
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال : فما وجه الإصلاح حينئذٍ والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء ؟ قيل : إن ذلك وإن كان من معاني الإصلاح ، فمن الإصلاحِ الإصلاحُ بين الفريقين فيما كان مخوفا حدوث الاختلاف بينهم فيه بما يؤمن معه حدوث الاختلاف ، لأن الإصلاح إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين ، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه .
فإن قال قائل : فكيف قيل : فأصلح بينهم ، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين أو المخوف اختلافهم ذكر ؟ قيل : بل قد جرى ذكر الله الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم ، وهم والدا الموصي وأقربوه والذين أمروا بالوصية في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بالمَعْرُوفِ } ثم قال تعالى ذكره : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ لمن أمرته بالوصية له جنَفَا أوْ إثْما فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ وبين من أمرته بالوصية له ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ . والإصلاح بينه وبينهم هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي .
وقد قرىء قوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ } بالتخفيف في الصاد والتسكين في الواو وبتحريك الواو وتشديد الصاد ، فمن قرأ ذلك بتخفيف الصاد وتسكين الواو فإنما قرأه بلغة من قال : أوصيت فلانا بكذا . ومن قرأ بتحريك الواو وتشديد الصاد قرأه بلغة من يقول : وصيّت فلانا بكذا ، وهما لغتان للعرب مشهورتان وصيتك وأوصيتك .
وأما الجنف فهو الجور والعدول عن الحق في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :
هُمُ المَوْلى وَإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا وَإنّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ
يقال منه : جنف الرجل على صاحبه يجنف : إذا مال عليه وجار جَنَفا . فمعنى الكلام : من خاف من موص جنفا له بموضع الوصية ، وميلاً عن الصواب فيها ، وجورا عن القصد أو إثما ، بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك فأصلح بينهم ، فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا }يعني بالجنف : الخطأ .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا }قال : ميلاً .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ويزيد بن هارون ، قالا : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا الزبيري ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن عطاء مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا أوْ إثْما } أما جنفا : فخطأ في وصيته وأما إثما : فعمد يعمد في وصيته الظلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا } قال : جنفا إثما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر عن أبي جعفر ، عن الربيع : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا أوْ إثْما } قال : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا أوْ إثْما قال : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا قال : خطأ ، أو إثما متعمدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا }قال : ميلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : جَنَفا حيفا ، والإثم : ميله لبعض على بعض ، وكله يصير إلى واحد كما يكون عفوّا غَفُورا وغفورا رحيما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قال : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد .
وأما قوله : { إنّ الله غٍفُورٌ رَحيمٌ }فإنه يعني : والله غفور رحيم للموصي فيما كان حدّث به نفسه من الجنف والإثم ، إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته ، فتجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الجور ، إذ لم يُمْضِ ذلك ، فيغفل أن يؤاخذه به ، رحيم بالمصلح بين الموصي وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له .
{ فمن خاف من موص } أي توقع وعلم ، من قولهم أخاف أن ترسل السماء . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر { موص } مشددا . { جنفا } ميلا بالخطأ في الوصية . { أو إثما } تعمدا للحيف . { فأصلح بينهم } بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع . { فلا إثم عليه } في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول . { إن الله غفور رحيم } وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 182 )
والجنف الميل ، وقال الأعشى : [ الطويل ]
تجانِفُ عَنْ حِجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتي . . . وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا( {[1651]} )
وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [ الوافر ]
هُمُ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا . . . وإِنَّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ( {[1652]} )
ومعنى الآية على ما قال مجاهد : من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية( {[1653]} ) أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى : من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم { فلا إثم ، عليه ، إن الله غفور } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية { رحيم } به .
وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع : معنى الآية ، من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي( {[1654]} ) أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه ، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، لكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى . وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه : «فلإثم عليه » بحذف الألف .