المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

212- وإنّ السبب في الانحراف والكفر هو طلب الدنيا ، فقد زين للذين كفروا شهوات الحياة الدنيا فمضوا يسخرون من الذين آمنوا لانشغالهم بالحياة الآخرة ، والله جاعل الذين آمنوا أعلى مكاناً منهم في الآخرة . فأما توفر المال وزينة الحياة الدنيا لدى الكفار فلا تدل على أفضليتهم ، لأن رزق الله لا يُقدَّر على حساب الإيمان والكفر بل يجرى تبعاً لمشيئته ، فمن الناس من يزاد له في الرزق استدراجاً ومنهم من يقتر عليه اختباراً .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } . الأكثرون على أن المزين هو الله تعالى ، والتزيين من الله تعالى هو أنه خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة ، فنظر الخلق إليها بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ، ففتنوا بها ، وقال الزجاج : زين لهم الشيطان ، قيل نزلت هذه الآية في مشركي العرب ، أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد .

قوله تعالى : { ويسخرون من الذين آمنوا } . أي يستهزئون بالفقراء من المؤمنين . قال ابن عباس : أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم . وقال مقاتل : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم ، وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة ، والنضير وبني قينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ، ويسخرون من الذين آمنوا لفقرهم .

قوله تعالى : { والذين اتقوا } . يعني هؤلاء الفقراء .

قوله تعالى : { فوقهم يوم القيامة } . لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين .

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق الديري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ، ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء وإذا أهل الجد محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال : مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس . " ما رأيك في هذا ؟ فقال : رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيك في هذا ؟ فقال : يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " .

قوله تعالى : { والله يرزق من يشاء بغير حساب } . قال ابن عباس : يعني كثيراً بغير مقدار ، لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل ، يريد : يوسع على من يشاء ، ويبسط لمن يشاء من عباده ، وقال الضحاك : يعني من غير تبعة ، يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة ، وقيل : هذا يرجع إلى الله ، معناه : يقتر على من يشاء ويبسط على من يشاء ، ولا يعطي كل أحد بقدر حاجته ، بل يعطي الكثير من لا يحتاج إليه ولا يعطي القليل من يحتاج إليه ، فلا يعترض عليه ، ولا يحاسب فيما يرزق ، ولا يقال لم أعطيت هذا وحرمت هذا ؟ ولم أعطيت هذا أكثر مما أعطيت ذاك ؟ وقيل معناه لا يخاف نفاذ خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها ، لأن الحساب من المعطي إنما يكون لمن يخاف من نفاذ خزائنه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 212 ) .

يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله ، ولم ينقادوا لشرعه ، أنهم زينت لهم الحياة الدنيا ، فزينت في أعينهم وقلوبهم ، فرضوا بها ، واطمأنوا بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها ، فأقبلوا عليها ، وأكبوا على تحصيلها ، وعظموها ، وعظموا من شاركهم في صنيعهم ، واحتقروا المؤمنين ، واستهزأوا بهم وقالوا : أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا ؟

وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر ، فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران ، بل المؤمن في الدنيا ، وإن ناله مكروه ، فإنه يصبر ويحتسب ، فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره .

وإنما الشأن كل الشأن ، والتفضيل الحقيقي ، في الدار الباقية ، فلهذا قال تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فيكون المتقون في أعلى الدرجات ، متمتعين بأنواع النعيم والسرور ، والبهجة والحبور .

والكفار تحتهم في أسفل الدركات ، معذبين بأنواع العذاب والإهانة ، والشقاء السرمدي ، الذي لا منتهى له ، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين ، ونعي على الكافرين . ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية ، لا تحصل إلا بتقدير الله ، ولن تنال إلا بمشيئة الله ، قال تعالى : ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر ، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ، ومحبة الله وخشيته ورجائه ، ونحو ذلك ، فلا يعطيها إلا من يحب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال - تعالى - : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } .

. . الآية .

التزيين : جعل الشيء زينا أي ، شديد الحسن . والحياة نائب فاعل ، زين ، ولم تلحق تاء التأنيث بالفعل لأن نائب الفاعل مجازي التأنيث ولوجود الفاصل بين الفعل ونائب الفاعل .

والمعنى ، أن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم ، أما الآخرة فلم يفكروا فيها ، ولم يهيئوا أنفسهم للقائها .

قال القرطبي : والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها أيضاً للشيطان بوسوسته وإغوائه وخص الين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها . وقد جعل الله ما على الأرض زينة لهاليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها " .

وقوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين } معطوف على جملة { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ . . . } .

أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهم يسخرون وتكون الواو للحال .

ويسخرون : يضحكون ويهزأون . يقال . سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به .

أي أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهد هم في متع الحياة ، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضى من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها ، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم ، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا .

وجيء بقوله : { زُيِّنَ } ماضيا للدالة على أنه قد وقع وفرغ منه . وجيء بقوله { وَيَسْخَرُونَ } مضارعاً للدالة على تجدد سخريتهم من المؤمنين وحدوثها بين وقت آخر . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . . . } وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية رويات منها : أنها نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وحزبه ، كانوا يتنعمون في الدنيا أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يغلب بهم . ومنها . أنها نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار وخاببا وابن مسعود وغيرهم بسبب ما كانوا فيه من الفقر والصبر على البلاء . والحق أنه لا مانع من نزولها في شأن كل الكافرين الذين يسخرون من المؤمنين .

وقوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } رد منه - سبحانه - على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين ، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها .

أي ، والذين اتقوا الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانا يوم القيامة ، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين ، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلأى النار وبئس القرار .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال { مِنَ الذين آمَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } ؟ قلت : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن التقى ، وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .

وقيدت الفوقية بيوم القيامة للننصيص على دوامها ، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية ، ولإِدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا .

وقوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تذييل قصد به تشريف المؤمنين ، وبيان عظم ثوابهم .

أي : والله يرزق من يشاء بغير حساب من المرزوق . أو بلا حصر وعد لما يعطيه . أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها . فهو - سبحانه - الذي يعطي ويمنع ، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عن المعطي فقد يعطي الكافر وهو غير راض عنه ، أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه .

قال الأستاذ الإِمام : إن الرزق بلا حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد ، فإنك ترى كثيراً من الأبرار وكثيراً من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق ، وكثيراً من الفريقين فقراء معسرين ، والمتقى يكون دائماً أسعد حالاً وأكثر احتمالا ، ومحلا لعناية الله به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلمه الفاجر لأنه يجد في التقوى مخرجاً من كل ضيق . . . وأما الأمم فأمرها على غير هذا ، فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه . . وليس من سنة الله أن يرزق الأمة العزة والثروة وهي لا تعمل ، وإنما يعطيها بعملها ويسلبها بزللها . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

204

وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة ، والتبديل بعد النعمة ، يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا ؛ ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص :

( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ، ويسخرون من الذين آمنوا ، والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا ؛ بأعراضها الزهيدة ، واهتماماتها الصغيرة . زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ؛ ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها ؛ ولا يعرفون قيما أخرى غير قيمها . والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن ، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة . . إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها ؛ لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة ، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها . . ولكن لأنه ينظر إليها من عل - مع قيامه بالخلافة فيها ، وإنشائه للعمران والحضارة ، وعنايته بالنماء والإكثار - فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الاعراض وأغلى . ينشد منها أن يقر في الأرض منهجا ، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل ، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس ، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع ، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود ، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف ، وضخامة الاهتمام ، وشمول النظرة .

وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض ، المستعبدون لأهداف الأرض . . ينظرون للذين آمنوا ، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم ، ومتاعهم الزهيد ؛ ليحاولوا آمالا كبارا لا تخصهم وحدهم ، ولكن تخص البشرية كلها ؛ ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم ؛ ويرونهم يعانون فيها المشقات ؛ ويقاسون فيها المتاعب ؛ ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة . . ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا - في هذه الحال - فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا . عندئذ يسخرون منهم . يسخرون من حالهم ، ويسخرون من تصوراتهم ، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه !

( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا . . . ) . .

ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان . . إنه ميزان الأرض . ميزان الكفر . ميزان الجاهلية . . أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه . والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه :

( والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ) . .

هذا هو ميزان الحق في يد الله . فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان . وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء ، وسخرية الساخرين ، وقيم الكافرين . . إنهم فوقهم يوم القيامة . فوقهم عند الحساب الختامي الأخير . فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين .

والله يدخر لهم ما هو خير ، وما هو أوسع من الرزق . يهبهم إياه حيث يختار ؛ في الدنيا أو في الآخرة ، أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير :

( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء ، ويفيض على من يشاء . لا خازن لعطائه ولا بواب ! وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه ، وليس لهم فيما أعطوا فضل . وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة . . فالعطاء كله من عنده . واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى . .

وستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من الناس . . تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله ؛ فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض ، واهتمامات الصغار ؛ وبذلك يحققون إنسانيتهم ؛ ويصبحون سادة للحياة ، لا عبيدا للحياة . . كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر : الذين زينت لهم الحياة الدنيا ، واستعبدتهم أعراضها وقيمها ؛ وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون !

وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين ؛ مهما أوتوا من المتاع والأعراض . على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون ، وأن المؤمنين هم المحرومون ؛ فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة . وهم أحق بالرثاء والإشفاق . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رُضُوا بها واطمأنّوا إليها ، وجمعوا الأموال ومنعوها عَنْ مصارفها التي أمروا بها مما يُرْضِي الله عنهم ، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها ، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم ، وبذلوا ابتغاء وجه الله ؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم ، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومَنْشَرهم ، ومسيرهم ومأواهم ، فاستقروا في الدرجات في أعلى علّيين ، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين ؛ ولهذا قال تعالى : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : يرزق من يشاء من خَلْقه ، ويعطيه عطاء كثيرًا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة{[3732]} كما جاء في الحديث : " ابن آدم ، أَنْفقْ أُنْفقْ عليك " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا " {[3733]} . وقال تعالى : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [ سبأ : 39 ] ، وفي{[3734]} الصحيح أن مَلَكين ينزلان من السماء صَبيحة كل يوم ، يقول {[3735]}أحدهما : اللهم أعط منفقًا خلفًا . ويقول الآخر : اللهم أعط مُمْسكا تلفًا . وفي الصحيح{[3736]} " يقول ابن آدم : مالي ، مالي ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، وما لَبسْتَ فأبليتَ ، وما تصدقت فأمضيت{[3737]} ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " .

وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يَجمَعُ من لا عقل له " {[3738]} .


[3732]:في طـ: "في الدنيا ولا في الآخرة".
[3733]:رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/192) من طريق يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/51).
[3734]:في جـ، أ، و: "وهو في".
[3735]:في جـ، ط: "فيقول".
[3736]:في أ: "وفي الصحيحين".
[3737]:في أ: "فأبقيت".
[3738]:المسند (6/71) من حديث عائشة رضي الله عنها.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

يعني جل ثناؤه بذلك : زين للذين كفروا حب الحياة الدنيا العاجلة اللذات ، فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة ، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة ، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد ، والإقرار بما جئت به من عندي تعظما منهم على من صدقك واتبعك ، ويسخرون بمن تبعك من أهل الإيمان ، والتصديق بك ، في تركهم المكاثرة ، والمفاخرة بالدنيا وزينتها من الرياش والأموال ، بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها ، والذين عملوا لي وأقبلوا على طاعتي ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها ، اتباعا لك ، وطلبا لما عندي ، واتقاء منهم بأداء فرائضي ، وتجنب معاصيّ فوق الذين كفروا يوم القيامة بإدخال المتقين الجنة ، وإدخال الذين كفروا النار .

وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا الحياةُ الدّنْيا قال : الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها ، ويسخرون من الذين آمنوا في طلبهم الاَخرة . قال ابن جريج : لا أحسبه إلا عن عكرمة ، قال : قالوا : لو كان محمد نبيا كما يقول ، لاتبعه أشرافنا وساداتنا ، والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَالّذِينَ اتّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ قال : فوقهم في الجنة .

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

ويعني بذلك : والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه ، بغير محاسبة منه لهم على منّ به عليهم من كرامته .

فإن قال لنا قائل : وما في قوله : يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابِ من المدح ؟ قيل : المعنى الذي فيه من المدح الخبر عن أنه غير خائف نفاد خزائنه ، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها ، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قدر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به ، فربنا تبارك وتعالى غير خائف نفاد خزائنه ، ولا انتقاص شيء من ملكه بعطائه ما يعطي عباده ، فيحتاج إلى حساب ما يعطي ، وإحصاء ما يُبِقي فذلك المعنى الذي في قوله : وَاللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها ، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ، ويدل عليه قراءة { زين } على البناء للفاعل ، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلقه الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض .

{ ويسخرون من الذين آمنوا } يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب ، أي يسترذلونهم ويستهزئون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ، ومن للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } لأنهم في عليين وهم في أسفل السافلين ، أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة ، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، وإنما قال والذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا ، ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى . { والله يرزق من يشاء } في الدارين . { بغير حساب } بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى .