اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

قوله تعالى : " زُيِّنَ " : إنَّما لم تلحق الفعل علامة تأنيثٍ لوجوهٍ :

أحدها : قال الفرَّاء{[3206]} : لأنَّ الحياة والإحياء واحدٌ ، فإن أُنِّثَ ، فعلى اللَّفظ ، وبها قرأ{[3207]} ابن أبي عبلة ، وإن ذُكِّر ، فعلى المعنى ؛ كقوله : { فَمَنْ جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [ البقرة : 275 ] { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } [ هود : 67 ] .

وثانيها : قال الزَّجَّاج{[3208]} : إنَّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي ؛ لأنَّ معنى الحياة والعيشِ والبقاء واحدٌ ، فكأنه قال : " زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا البَقَاءُ " .

وثالثها : قال ابن الأنباري{[3209]} : إنما لم يقل زيِّنت ؛ لأنه فصل بين " زُيِّنَ " وبين الحياة الدنيا بقوله : " للذين كَفَرُوا " ، وإذا فصل بين فعل المؤنث ، وبين الاسم بفاصلٍ حَسُنَ تذكير الفعل ؛ لأنَّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث ، وقرأ مجاهد وأبو حيوة : " زَيَّنَ " مبنياً للفاعل ، و " الحياةَ " مفعول ، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين ، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون : إنه الشيطان .

وقوله : " يَسْخَرُون " يحتمل أن يكون من باب عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية ، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر ، فيكون من عطف المفردات ؛ لعدم اتِّحاد الزمان .

ويحتمل أن يكون " يَسْخَرُون " خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يسخرون ، فيكون مستأنفاً ، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية . وجيء بقوله : " زُيِّن " ماضياً ؛ دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع ، وفرغ منه ، وبقوله : " وَيَسْخَرُونَ " مضارعاً ؛ دلالة على التَّجَدُّد ، والحدوث .

قوله : { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ } مبتدأ وخبر ، و " فَوْقَ " هنا تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون ظرف مكانٍ على حقيقتها ؛ لأنَّ المتقين في أعلى علِّيِّين ، والكافرين في أسفل السَّافلين .

والثاني : أن تكون الفوقية مجازاً : إمَّا بالنسبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة ، ونعيم الكافرين في الدنيا . وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجَّة الكافرين ، وإمَّا أن سخرية المؤمنين لهم في الآخرة ، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا .

و " يوم " منصوبٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به " فَوْقَهُمْ " وقوله : { مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } ثم قال : { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ } لتبيين أنَّ السعادة الكبرى لا تحصل إلاَّ للمؤمن التَّقيّ .

فصل

قال ابن عبَّاسٍ{[3210]} : نزلت في كفَّار قريشٍ ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعودٍ ، وعمَّارٍ ، وخبَّابٍ ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة ، وأبي عبيدة بن الجرَّاح ، وصهيبٍ ، وبلالٍ ، بسب ما كانوا فيه من الفقر ، والصَّبر على أنواع البلاء ، مع ما كان الكُفَّار فيه من النَّعيم ، والرَّاحة ، وبسط الرِّزق .

وقال عطاءٌ{[3211]} : نزلت في رؤساء اليهود ، وعلمائهم ، من بني قريظة ، والنَّضير ، وبني قينقاع ؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أُخرجوا من ديارهم ، وأموالهم ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنَّضير بغير قتالٍ .

وقال مقاتلٌ : نزلت في المنافقين كعبد الله بن أُبيٍّ ، وأصحابه ؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا ، ويسخرون من ضعفاء المسلمين ، وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم{[3212]} .

قال ابن الخطيب{[3213]} : ولا مانع من نزولها في جميعهم .

روى أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا المَسَاكِينَ ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ ، وَإنَّ أَهْلَ الجَدِّ مَحْبُوسُونُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ{[3214]} " .

وروى سهل بن سعدٍ السَّاعديّ ، قال : " مرَّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالسٍ : " مَا رَأَيُكَ في هَذَا " فقال هذا رجل من أشراف النَّاس ، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفَّع ، قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرَّ رجُلٌ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا رَأْيُكَ في هَذَا " ؟ فقال : يَا رسولَ الله ، هذا من فقراء المسلمين ، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألا يشفَّع ، وإن قال لا يسمع لقوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا{[3215]} " .

وروي عن عليٍّ ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنِ اسْتَذَلَّ مَؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً ، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَات يَدِهِ ، شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، ثُم فَضَحَهُ ، وَمَنْ بَهَت مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً ، أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيه{[3216]} . . . " .

فصل

قال الجُبَّائيُّ{[3217]} : المزيِّن هم غواة الجن ، والإنس ؛ زينوا للكفار الحرص على الدُّنيا ، وقبَّحوا أمر الآخرة .

قال : وأمَّا قول المجبّرة : إنَّ الله تعالى زيَّن ذلك فهو باطلٌ ، لأنَّ المزيِّن للشيء كالمخبر على حسنه ، فإن كان صادقاً ، فيكون ما زينه حسناً ، ويكون فاعله مصيباً ، وذلك يوجب أنَّ الكافر مصيبٌ في كفره ، وهذا القول كفرٌ ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين ، فيؤدي إلى أن لا يوثق بخبره ، وهذا - أيضاً - كفرٌ ، فثبت أنَّ المزيِّن هو الشيطان .

قال ابن الخطيب{[3218]} : وهذا ضعيفٌ ، لأنَّ قوله : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يتناول جميع الكُفَّار ، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مُزَيِّن ، فلا بدَّ وأن يكون ذلك المزيِّن مغايراً لهم ؛ لأنَّ غواة الجنِّ والإنس داخلون في الكفار أيضاً ، إلاَّ أن يقال : إن كلَّ واحدٍ يزيِّن للآخر فيصير دوراً ، فثبت ضعف هذا التأويل .

وأمَّا قوله : " المُزَيِّنُ للشَّيْءِ كالمخبر عن حُسْنِه " فهذا ممنوعٌ ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة ، ثم لئن سلَّمنا أنَّ المزين للشيء هو المبخر عن حسنه بمعنى أنه أخبر عمَّا فيها من اللَّذَّات والراحات ، وذلك الإخبار ليس بكذبٍ ، وتصديقه ليس بكفرٍ .

وقال أبو مسلمٍ{[3219]} : يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك ؟ لا يريدون أنَّ ذاهباً ذهب به ، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة :

{ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ المائدة : 75 ] ، { أَنَّى يُصْرَفُونَ } [ غافر : 69 ] إلى غير ذلك ، وأكّده بقوله : { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ } [ المنافقون : 9 ] وأضاف ذلك إليهما ؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه .

قال ابن الخطيب :{[3220]} وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله : " زُيِّنَ للنَّاس " يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن .

التأويل الثالث : أنَّ المزيِّن هو الله تعالى ، ويدلُّ عليه وجهان :

أحدهما : قراءة من قرأ " زَيَّنَ " مبنيّاً للفاعل .

والثاني : قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً :

الأول : أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة ، والطِّيب ، واللَّذَّة ؛ ابتلاءً لعباده ؛ كقوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } إلى قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } [ آل عمران :15 ] .

وقال : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الكهف : 46 ] ثم قال :

{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى : أنَّ الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات ، وحبّ الشهوات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه ؛ ليتمَّ بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه ، فيقبض نفسه عن المباح ، ويكفّها عن الحرام .

الثاني : أنَّ المراد ب " التَّزَيِينِ " أنه أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى ب " التزيين " .

الثالث : أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا سقط الإشكال ، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ{[3221]} ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار ، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات ، وكثرة ماله ، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة ، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها ، ولا كذلك الكافر ، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده ، فسروره ، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها .

وأيضاً ، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة ، وتحملهم المشاقَّ الواجبة ، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات .

قال ابن الخطيب{[3222]} : ويتوجَّه على المعتزلة سؤال ، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث ، وإلا فقد وقع المحدث ، لا عن مؤثر فهذا محال ، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع ، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين ، فهذا توجيه السؤال ، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة ، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال ، والأقوال .

قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } مفعول " يَشَاءُ " محذوف ، أي : من يشاء أن يزرقه ، و " بِغيرِ حِسَابٍ " هذا الجارُّ فيه وجهان :

أحدهما : أنه زائدٌ .

والثاني : أنه غير زائدٍ ، فعلى الأول لا تعلُّق له بشيءٍ ، وعلى الثاني هو متعلِّق بمحذوفٍ . فأما وجه الزيادة : فهو أنه تقدَّمه ثلاثة أشياء في قوله : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } الفعل والفاعل والمفعول ، وهو صالحٌ لأن يتعلَّق من جهة المعنى بكلِّ واحدٍ منها ، فإذا تعلَّق بالفعل كان من صفات الأفعال ، تقديره : والله يرزق رزقاً غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، أي : أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته ، فيكون في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، والباء زائدةٌ .

وإذا تعلَّق بالفاعل ، كان من صفات الفاعلين ، والتقدير : والله يرزق غير محاسب بل متفضلاً ، أو غير حاسبٍ ، أي : عادٍّ . ف " حساب " واقعٌ موقع اسم فاعل من حاسب ، أو من حَسَبَ ، ويجوز أن يكون المصدر [ واقعاً موقع اسم مفعولٍ من حاسب ، أي : الله يرزق غير محاسبٍ ] أي : لا يحاسبه أحدٌ على ما يعطي ، فيكون المصدر في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل ، والباء فيه مزيدةً .

وإذا تعلَّق بالمفعول ، كان من صفاته أيضاً ، والتقدير : والله يرزق من يشاء غير محاسب ، أو غير محسوب عليه ، أي : لا يعدُّ . فيكون المصدر أيضاً واقعاً موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب ، أو يكون على حذف مضاف ، أي : غير ذي حساب ، أي : محاسبة ، فالمصدر واقع موقع الحال والباء - أيضاً - زائدة فيه ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظنُّ أن يأتيه الرزق ، والتقدير : يرزقه غير محتسب ذلك ، أي : غير ظانٍّ له ، فهو حال أيضاً ، ومثله في المعنى { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] . وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةٌ ، كقوله : [ الوافر ]

فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رَكَابٌ *** حَكِيمٌ بْنُ المُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا{[3223]}

وهذه الحال - كما رأيت - غير منفيةٍ ، فالمنع من الزيادة فيها أولى .

وأمَّا وجه عدم الزيادة ، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة ، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة - أعني الفعل ، والفاعل ، والمفعول - بقوله : " بغير حساب " باقية أيضاً ، كما تقدَّم في القول بزيادتها .

والمراد بالمصدر المحاسبة ، أو العدُّ والإحصاء ، أي : يرزق من يشاء ، ولا حساب على الرزق ، أو ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق ، وهذا أولى ؛ لما فيه من عدم الزيادة ، التي الأصل عدمها ، ولما فيه من تبعيَّةّ المصدر على حاله ، غير واقعٍ موقع اسم فاعل ، أو اسم مفعولٍ ، ولما فيه من عدم تقدير مضافٍ بعد " غير " أي : غير ذي حساب . فإذاً هذا الجارُّ ، والمجرور متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لوقوعه حالاً من أيِّ الثلاثة المتقدِّمة شئت ؛ كَما تقدَّم تقريره ، أي : ملتبساً بغير حساب .

فصل

يحتمل أن يكون المراد منه : ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يكون المراد منه : رزق الآخرة ، فإن حملناه على رزق الآخرة ، كان مختصاً بالمؤمنين ، وهو من وجوه :

أحدها : أنَّ الله يرزقهم بغير حسابٍ ، أي : رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ؛ لأنَّ كلَّ ما دخل تحت الحساب ، فهو متناهٍ .

وثانيها : أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب ، وبعضها تفضل ؛ كما قال : { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ }

[ النساء : 173 ] فالفضل منه بلا حساب .

وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده ؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه ؛ لأن المعطي إنَّما يحاسب ، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به ، والله عالم غني ، لا نهاية لمقدوراته .

ورابعها : " بِغَيْرِ حِسَاب " ، أي : بغير استحقاقٍ ؛ يقال : لفلان على فلانٍ حسابٌ ؛ إذا كان له عليه حق ، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يستحق أحدٌ عليه شيئاً ، وليس لأحدٍ معه حساب ، بل كلُّ ما أعطاه ، فهو مجرّد فضل وإحسانٍ ، لا بسبب استحقاق .

وخامسها : " بِغَيرِ حِسَابٍ " ، أي : يعطي زائداً على الكفاية ؛ يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي : يعطي كثيراً ؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل .

وهذه الوجوه كلُّها محتملة ، وعطايا الله بها منتظمة ، فيجوز أن يكون الكلُّ مراداً والله أعلم .

فإن قيل : قد قال الله - تعالى - في صفة المتقين ، وما يصل إليهم :

{ عَطَآءً حِسَاباً } [ النبأ : 36 ] على المستحقِّ بحسب الوعد ؛ كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال : وهذا كالمناقض لهذه الآية .

فالجواب : من حمل قوله : " بِغَيْرِ حِسَابٍ " على التفضُّل ، وحمل قوله : " عَطَاءً حِسَاباً " على المستحق بحسب الوعد ، كماهو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال زائل ، وَمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ : " بغير حساب " على سائرِ الوجوه ، فله أنْ يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقاتِ ، فَصَحَّ من هذا الوجه أَنْ يُوصَف بكونه : " عَطَاءً حِسَاباً " فلا تناقض ، وإن حملناه على أرزاق الدنيا ، ففيه وجوه :

أحدها ، وهو أَلْيَقُ بِنَظم الآية ، أنَّ الكفارَ كان يَسْخرونَ من فقراء المسلمين ؛ لأنهم كانوا يستدلُّون بحصولِ السعاداتِ الدنيوية ، على أنهم على الحقِّ ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل ؛ فأَبطل تعالى استدلالهُم بقوله : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : يُعْطِي في الدنيا مَنْ يشاءُ من غير أَنْ يكونَ ذلك مُنْبئاً عن كون المُعْطى مُحِقّاً أَوْ مُبْطِلاً ، بل بِمَحْضِ المَشِيئَةِ ؛ كَمَا وَسَّعَ على قَارون وضيَّق على أَيُّوب - عليه السلام - فقد يُوسِّع على الكافر ، ويضيقُ على المؤمن ؛ ابتلاءً وامتحاناً ؛ كما قال { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] .

وثانيها : أَنَّ اللَّهَ يرزقُ مَنْ يشاءُ في الدنيا : مِنْ كافرٍ ، ومُؤْمنٍ بغير حسابٍ يكون لأحدٍ عليه ولا مُطَالبة ، ولا تبعةٍ{[3224]} ، ولا سؤال سائل .

والمقصود منه : أَلاَّ يقولَ الكافِر : إِنَّ المؤمن على الحق فَلِمَ لَمْ يُوَسَّع عليه في الدنيا ؟ وألاَّ يقولَ المؤمُن : لو كانَ الكافرُ مُبطلاً ، فلِمَ يُوَسَّعُ عليه في الدنيا ؟ بل الاعْتِراضُ ساقطٌ ؛ و { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] .

وثالثها : بغير حساب أي : مِنْ حيثُ لا يحتسِب ؛ كما يقولُ مَنْ جاءه مَا لَمْ يكنْ في قلبه : لَمْ يَكُن هذا حسابي .

قال القفَّال{[3225]} - رحمه الله - : وَقَدْ فعل ذلك بهم ، فَأَغْنَاهُم بما أَفَاءَ عليهم مِنْ أَمْوالِ صَنَادِيدِ قُرَيش ورُؤَساءِ اليهود ، وبما فتح على رسوله ، بعد وفاته على أَيْدِي أصحابه ، حتى ملكوا كُنوز كِسرَى ، وقَيصر .


[3206]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/5.
[3207]:-قرأ ابن أبي عبلة: "زُيّنت". انظر: الشواذ 13، والمحرر الوجيز 1/284، والبحر المحيط 2/138، والدر المصون 1/517.
[3208]:-ينظر: الرازي 6/5.
[3209]:-ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/5.
[3210]:-تقدم.
[3211]:- ينظر: تفسير البغوي 1/185.
[3212]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/5، وتفسير البغوي 1/185.
[3213]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/5.
[3214]:-أخرجه عبد الرزاق (20611) وابن قانع كما في كنز العمال (6/486) رقم (16662) عن أسامة بن زيد.
[3215]:-أخرجه البخاري (7/12) كتاب النكاح باب (الأكفاء في الدين) رقم (5091) و (8/171) كتاب الرقاق باب فضل الفقر رقم (6447).
[3216]:- ذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة (2/316) وعزاه إلى ابن لال في (مكارم الأخلاق) من حديث علي وحكم عليه بالوضع.
[3217]:-ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/6.
[3218]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/6
[3219]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/6.
[3220]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/6.
[3221]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/7.
[3222]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/7.
[3223]:- تقدم برقم 15.
[3224]:- في ب: ساعة.
[3225]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/10.