المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 212 )

وقوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر( {[1969]} ) ، ويزينها أيضاً الشيطان بوسوسته وإغوائه ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة «زَيَن » على بناء الفعل للفاعل( {[1970]} ) ونصب «الحياة » ، وقرأ ابن أبي عبلة «زينت » بإظهار العلامة ، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي( {[1971]} ) ، وخص الذين كفروا بالذكر بقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها ، والتزيين من الله تعالى واقع للكل ، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم( {[1972]} ) لأنهم لا يعتقدون غيرها ، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال : «اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا » .

وقوله تعالى : { ويسخرون } إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم ، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله : { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } ، ومعنى الفوق هنا في الدرجة والقدر( {[1973]} ) فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب ، كما قال تعالى :

{ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً }( {[1974]} ) [ الفرقان : 24 ] ، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخر في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم ، وكذلك خير مستقراً من هؤلاء في نعمة الدنيا ، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك( {[1975]} ) ، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين ، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، وتحتمل الآيتان( {[1976]} ) أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار ، فإنهم كانوا يقولون : وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم ، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل( {[1977]} ) ، وهذا كله من التحميلات( {[1978]} ) حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك .

وقوله تعالى : { والله يزرق من يشاء بغير حساب } يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا عمله ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق ، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب ، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب ، حيث هو دائم لا يتناهى ، فهو لا ينفد ، ويحتمل أن يكون { بغير حساب } صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف ، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد ، ففضله كله بغير حساب ، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب( {[1979]} ) هذا الذي يشاؤه الله ، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين ، كما قال تعالى : { ويرزقه من حيث لا يحتسب }( {[1980]} ) [ الطلاق : 3 ] ، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى : { عطاء حساباً } [ النبأ : 36 ] ، فالمعنى في ذلك محسباً( {[1981]} ) ، ، وأيضاً فلو كان عداً لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادَّة( {[1982]} ) وغير الحساب في التفضل والإنعام .


[1969]:- ومعنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى وضع في النفوس محبة الدنيا والرغبة فيها، إلا أن المؤمن يتوسط، وغيره يتجاوز الحد ويشْتطّ، ثم إن إسناد التزيين إلى الله حقيقة، وإلى غير الله مجاز، ومن الناس من يعكس الأمر كالزمخشري عافانا الله جميعا.
[1970]:- والفاعل هو الله تعالى، وقد تقدم ذكره في قوله: [فإن الله شديد العقاب].
[1971]:- وعدم وجود حائل مع كون التأنيث حقيقيا شرطان لازمان لوجوب التأنيث.
[1972]:- أي فتنتهم وسيطرت عليهم.
[1973]:- فهم في الجنة والكفار في النار. وهذا فضل عظيم، ودرجة عالية تقابلها درجة سفلى، ولصاحب كل درجة قدره.
[1974]:- قال (ح) رحمه الله: (فوق) لا تدل على التشريك في التفضيل، وإنما تدل على مطلق العلو، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أُضيفت إليه فيه علو، كما أن مقابلها وهو (تحت) لا يدل على تشريك في السفلية، ولا نقول إنها مرادفة لأسفل، لأن أسفل أفعل تفضيل، يدل على ذلك استعمالها بمن في قوله تعالى: [والرَّكب أسفل منكم] كما أن أعلى كذلك، انتهى. ومفهوم هذا الكلام أن منهم من جعل (فوق) مرادفة لأفعل التفضيل، أي (أعلى)، ومنهم من لم يجعلها بمعنى اسم التفضيل وإنما تدل على مجرد العلو. والله أعلم. وقوله تعالى: (أصحاب الجنّة) من الآية (24) من سورة (الفرقان).
[1975]:- أي التنعيم في الدنيا والتنعيم في الأخرى.
[1976]:- هما: [والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة] [أصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا].
[1977]:- ذكر ابن عطية في معنى التفضيل هنا أربعة آراء. أولها: أن التفضيل في الدرجة والقدر. ويكفي أن المتقين في نعيم الجنة وأن الكفار في عذاب النار. ثانيها: أن التفضيل بين نعيم الآخرة الذي يعيش فيه المتقون يوم القيامة، ونعيم الدنيا الذي يعيش فيه الكفار فيها. ثالثها: أن الفوقية من حيث كون الجنة في السماء والنار في أسفل سافلين. رابعها: أن التفضيل والفوقية من حيث زعم الكفار أن ذلك لهم في الدنيا وفي الأخرى.
[1978]:- أي التأويلات، والمعنى أنهم حملوا الآية هذه التحميلات حفاظا على مذهب سيبويه والخليل وأن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، وهذا من ابن عطية رحمه الله ذهاب إلى أن (فوق) مرادفة (لأفعل التفضيل)، وقد قدمنا عن أبي (ح) أنها لمجرد العلو بقطع النظر عن الاشتراك، وأن معنى (فوق) غير معنى (أفعل)، وتأمل، وقال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في "الجواهر الحسان" – وهو مختصر ابن عطية في تفسير القرآن - «فإن تشوقت نفسك أيها الأخ إلى هذه الفوقية ونيل هذه الدرجة العالية، فارفض دنياك الدنية، وازهد فيها بالكلية، لتسلم من كل آفة وبلية، واقتد في ذلك بخير البرية»، انتهى. ومجمل القول في الدنيا انها آفة الخلق، في الانقطاع عن الحق.
[1979]:- أي من حيث لا يظن ولا يشعر كما قال تعالى: [وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون].
[1980]:- من الآية (3) من سورة (الطلاق).
[1981]:- أي كافيا، من أحسبه بمعنى أرضاه حتى قال حسبي، لا من حَسَبه بمعنى عدّه.
[1982]:- أي في الجزاء المقابل للعمل حساب، وفي التفضل والإنعام المحض لا حساب.