معاني القرآن للفراء - الفراء  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

وقوله : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا . . . }

ولم يقل " زُينت " وذلك جائز ، وإنّما ذُكِّر الفعل والاسم مؤنث ؛ لأنه مشتّق من فعل في مذهب مصدر . فمن أَنَّث أخرج الكلام على اللفظ ، ومن ذكَّر ذهب إلى تذكير المصدر . ومثله { فَمَنْ جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهي } و { قَدْ جَاءكُمْ بَصَائرُ مِنْ رَبِّكُمْ } ، { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } على ما فسَّرت لك . فأما في الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكِّر فعلَ مؤنَّثٍ إلا في الشعر لضرورته . وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فِعلٍ ، ويكون فيه معنى تأنيثٍ وهو مذكَّر فيجوز فيه تأنيث الفِعل وتذكيره على اللفظ مرَّة وعلى المعنى مرَّة ؛ من ذلك قوله عزَّ وجلَّ { وكذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَق } ولم يقل " كَذَّبَتْ " ولو قِيلت لكان صوابا ؛ كما قال { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } و { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } ذهب إلى تأنيثِ الأُمّة ، ومثله من الكلام في الشعر كثير ؛ منه قول الشاعر :

فإن كِلاباً هذهِ عَشْرُ أَبطنٍ *** وأَنت برِئ مِن قبائلِها العَشْرِ

وكان ينبغي أن يقول : عشرة أبطنٍ ؛ لأن البطن ذَكَر ، ولكنه في هذا الموضع في معنى قبيلة ، فأنّث لتأنيث القبيلة في المعنى . وكذلك قول الآخر :

وقائع في مُضَرٍ تِسعة *** وفي وائلٍ كانتِ العاشِره

فقال : تِسعة ، وكان ينبغي له أن يقول : تِسع ؛ لأن الوقعة أنثى ، ولكنه ذهب إلى الأيام ؛ لأن العرب تقول في معنى الوقائع : الأيام ؛ فيقال هو عالم بأيَّام العرب ، يريد وقائعها . فأما قول الله تبارك وتعالى : { وجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } فإنه أريد به - والله أعلم - : جُمِع الضياءان . وليس قولهم : إنما ذكّر فِعْل الشمس لأن الوقوف لا يحسن في الشمس حتى يكون معها القمر بشيء ، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا : الشمس جمع والقمر . ومثل هذا غير جائزٍ ، وإن شئت ذكَّرته ؛ لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدلّ على التأنيث ، والعرب ربما ذكَّرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث . قال الفرّاء : أنشدني بعضهم :

فهي أَحوى مِن الربعِىّ خاذِلة *** والعَين بالإثمد الحارِيّ مكحول

ولم يقل : مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها . قال : وأنشدني بعضهم :

فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها *** ولا أَرضَ أَبْقَل إبقالها

قال : وأنشدني يونس - يعنى النحويّ البصريّ - عن العرب قول الأعشى :

إِلى رجلٍ مِنهم أَسِيفٍ كأنما *** يضمّ إلى كَشْحَيهِ كفَّا مخضبا

وأما قوله : { السَّماء مُنْفَطِرٌ بِهِ } فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلما لم يكن فيها هاء مما يدلّ على التأنيث ذكّر فعلها كما فعل بالعين والأرض في البيتين . ومِن العرب من يذكّر السماء ؛ لأنه جَمْع كأن واحدته سماوة أو سماءة . قال : وأنشدني بعضهم :

فلو رَفَع السماء إليهِ قوما *** لحِقنا بالسماء مع السحابِ

فإن قال قائل : أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادِر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها ؟ قلت : ذلك قبيح وهو جائز . وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنّى من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكَّرا قبله مؤنث ، والذين استجازوا ذلك قالوا : يُذْهب به إلى المعنى ، وهو في التقديم والتأخير سواء ؛ قال الشاعر :

فإن تعهدِي لامرِئ لِمَّةَ *** فإن الحوادِث أَزْرَى بِها

ولم يقل : أزرين بها ولا أزْرت بها . والحوادث جَمْع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحَدَثانِ . وكذلك قال الآخر :

هنِيئا لِسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتِي *** بِناقةِ سعدٍ والعشِيَّةُ باردُ

كأن العشية في معنى العشِيّ ؛ ألا ترى قول الله { أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } وقال الآخر :

إن السماحة والشجاعة ضُمِّنا *** قبرا بِمَرْوَ على الطرِيقِ الواضح

ولم يقل : ضُمنتا ، والسماحة والشجاعة مؤنثتان لِلهاء التي فيهما . قال : فهل يجوز أن تذهب بالحَدَثانِ إلى الحوادث فتؤنّث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحَدَثانُ ؟ قلت نعم ؛ أنشدني الكسائي :

ألا هَلَك الشِهاب المستنير *** ومِدْرَهُنا الكَميّ إذا نغِير

وحَمال المئِين إذا ألمّت *** بنا الحَدَثانُ والأَنفِ النَصُور

فهذا كافٍ مِما يُحتاج إليه من هذا النوع .

وأما قوله : { وإِنّ لكم في الأنعامِ لعِبرة نسقِيكم مِما في بطونِهِ } ولم يقل " بطونِها " والأنعام هي مؤنثة ؛ لأنه ذهب به إلى النَعَم والنَعَم ذَكَر وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتي في المعنى على معنى الجمع ؛ كما قال الشاعر :

إذا رأيت أنْجُما مِن الأَسَدْ *** جَبْهتَهُ أو الخَرَاتَ والكَتَدْ

بال سُهَيلٌ في الفَضِيخِ ففسدْ *** وطاب أَلبانُ الِلقاحِ فبردْ

ألا ترى أن اللبن جمع يكفي مِن الألبان . وقد كان الكسائي يذهب بتذكيرِ الأنعام إلى مثلِ قول الشاعر :

ولا تَذْهَبْن عيناكِ في كل شَرْمَح *** طُوَالٍ فإن الأقصرين أمازِرُهْ

ولم يقل : أمازِرُهُمْ ، فذَكَّر وهو يريد أمازر ما ذكرنا . ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله ، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقَّتة يضمر فيها مثل معنى النكرة ؛ فلذلك قالت العرب : هو أحسن الرجلين وأجمله ؛ لأن ضمير الواحد يصلح في معنى الكلام أن تقول هو أحسن رجل في الاثنين ، وكذلك قولك هي أحسن النساء وأجمله . من قال وأجمله قال : أجمل شيء في النساء ، ومن قال : وأجملهن أخرجه على اللفظ ؛ واحتجَّ بقول الشاعر :

*** مثل الفِراخ نَتَقَتْ حواصله ***

ولم يقل حواصلها . وإنما ذكَّر لأن الفراخ جمع لم يُبْن على واحده ، فجاز أن يُذْهَب بالجمع إلى الواحد . قال الفرَّاء : أنشدنى المفضَّل :

ألا إن جيراني العشيةَ رائح *** دعتهم دواعٍ من هوى ومنازِحُ

فقال : رائح ولم يقل رائحون ؛ لأن الجيران قد خرج مَخْرَج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحدِهِ .

فلو قلت : الصالحون فإن ذلك لم يجز ، لأن الجمع منه قد بنى على صورة واحده . وكذلك الصالحات نقول ، ذاك غير جائز ؛ لأن صورة الواحدة في الجمع قد ذهب عنه توهّم الواحدة . ألا ترى أن العرب تقول : عندي عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندي عشرون جِيادا فينصبون الجياد ؛ لأنها لم تبن على واحدها ، فذهب بها إلى الواحد ولم يُفعل ذلك بالصالحين ؛ قال عنترة :

فيها اثنتانِ وأربعون حَلُوبةً *** سُوداً كخافِيةِ الغرابِ الأسحمِ

فقال : سودا ولم يقل : سُود وهي من نعت الاثنتين والأربعين ؛ للعِلة التي أخبرتك بها . وقد قرأ بعض القرّاء " زَيَّن لِلذِين كفروا الحياةَ الدنيا " ويقال إنه مجاهد فقط .