الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } الآية ، قال بعضهم : نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعّمون بما ينقل لهم في الدنيا من المال ونسوا يوم المعاد { وَيَسْخَرُونَ } من المؤمنين الذين يعزفون عن الدنيا ، ويقبلون على الطاعة والعبادة ، ويقولون : لو كان محمد نبيّاً لاتبعه أشرافنا وإنما تبعه الفقراء مثل أبي عمارة وصهيب وعمار وجابر بن عبد الله وأبي عبيدة بن الجراح وبلال وخباّب وأمثالهم ، وهذا معنى رواية الكلبي عن ابن عباس .

وقال مقاتل : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، وكانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم .

وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود ووفدهم من بني قريضة والنضير والقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريضة والنضير بغير قتال أسهل شيء وأيسره . فقال : أين الذين كفروا في الحياة الدنيا ، في قول مجاهد ، وحملَ ( زيّن ) بفتح الزاي والياء على معنى زينها الله وإنّما ذكّر الفعل بمعنيين أحدهما أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي لأنّ معنى الحياة والبقاء والعيش واحد ، والآخر أنه فصل بين اسم المؤنث والفعل فأعمل المذكر ، كقول الشاعر :

إن امرأً غرّه منكن واحدة *** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } لفقرهم .

عن علي بن الحسين عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استذلّ مؤمناً أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلة ذات يده شهّره الله يوم القيامة ثم فضحه ، ومن بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه ، أقامه الله على تل من نار حتى يخرج مما قال فيه ، وإن المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من مَلَك مقرب ، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة ، وإن [ الرجل ] المؤمن ليُعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده " .

وعن إبراهيم بن أدهم قال : حدّثنا عباد بن كثير بن قيس ، قال : " جاء رجل عليه بزّة له فقعد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل عليه [ لممار ] له فقعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، قال : ألقى بثيابه فضمّها إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكلُّ هذا تقززاً من أخيك المسلم ، أكنت تخشى أن يصيبه من غناك أو يصيبك من فقره شيء ، " فقال للنبي : معذرة إلى الله وإلى رسوله ، إن النفس لأمّارة وشيطان يكيدني ، أشهد يا رسول الله أن نصف مالى له ، فقال الرجل : ما أريد ذلك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " وَلِمَ ؟ " قال : لا يفسد قلبي كما أفسد قلبه " .

وقال أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) : لا تحقرنّ أحداً من المسلمين فإنّ صغير المسلمين عند الله كبيراً . وقال يحيى بن معاذ : بئس القوم قوم إن استغنى بينهم المؤمن حسدوه ، وإذا افتقر بينهم استذلّوه { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أرفع رجل تراه في المسجد " . فنظرت فإذا رجل جالس وعليه حلّة فقلت : هذا . فقال : " يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أوضع رجل تراه في المسجد " فنظرت فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق فقلت : هذا ، فقال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لهذا عند الله يوم القيامة أفضل من قراب الأرض من هذا " . { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال ابن عباس : يعني كثيراً بغير فوت ولا ( هنداز ) لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل .

وقال الضحاك : يعني من غير تبعة ، يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه ولا يعاقبه في الآخرة .

وقيل إنّ هذا راجع إلى الله ثم هو يحتمل على هذا القول معنيين : أحدهما أنه لا يُفترض عليه ، ولا يُحاسب فيما يرزق ، ولا يقال له : لما أعطيت هذا ، وحرمت هذا ؟ ولم أعطيت هذا أكثر مما أعطيت ذاك ؟ لأنه لا شريك له بما عنده ، ولا قسيم ينازعه .

والمعنى الآخر أنه لا يخاف نفاذ خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها إذا كان الحساب من المعطي ، إنما يكون ليعمّ أقدر العطاء لئلا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به فهو لا يحتاج الى الحساب ؛ لأنه عالم غني لا يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف والنون