الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

وقوله تعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا }[ البقرة :212 ]

الإِشارة إِلى كفار قريشٍ ، لأنهم كانوا يعظمون حالهم في الدنيا ، ويغتبطون بها ، ويسخرون من أتْبَاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، كبلالٍ ، وصُهَيْبٍ ، وابنِ مَسْعودٍ ، وغيرهم ، فذكر اللَّه قبيحَ فعلهم ، ونبه على خَفْض منزلتهم ، بقوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } ، ومعنى الفوقيَّة هنا في الدرجَةِ والقَدْر ، ويحتمل أن يريد أنَّ نعيم المتَّقِينَ في الآخرة فوْقَ نعيمِ هؤلاءِ الآن ، قُلْتُ : وحكى الداوديُّ عن قتادة ( فوقهم يوم القيامة ) قال : فَوْقَهُم في الجَنَّة ، انتهى .

ومهما ذكرتُ الداوديَّ في هذا «المختصر » ، فإِنما أريد أحمد بن نَصْرٍ الفقيهَ المَالِكِيَّ ، ومن تفسيره أنا أنقل ، انتهى .

فإِن تشوَّفَتْ نفسُك أيها الأخُ إِلى هذه الفوقيَّة . ونَيْلِ هذه الدرجة العَليَّة ، فارفض دنياك الدنيَّة ، وازهَدْ فيها بالكليَّة ، لتسلَمَ من كل آفة وبليَّة . واقتد في ذلك بخَيْر البريَّة . قال عِيَاضٌ في «شِفَاهُ » : فانظُرْ -رحمك اللَّه- سِيرَةَ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وخُلُقَه في المال ، تجده قد أوتي خزائنَ الأرْض [ ومفاتيح البلاد ، وأُحلّت له الغنائم ، ولم تحلَّ لنبي قبله ، وفتح عليه في حياته صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن ، وجميع جزيرة العرب ، وما دانى ذلك من الشام والعراق ] ، وجُبِيَتْ إِلَيْه الأخماس ، [ وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إِلاَّ بعضه ] ، وهادَتْه جماعةٌ من الملوك ، فما استأثر بشيء من ذلك ، ولا أمْسَكَ دِرْهَماً منْه ، بل صرفه مصارفه ، وأغنى به غيره ، وقوى به المسلمين ، ومات صلى الله عليه وسلم ، ودِرْعُهُ مرهُونَةٌ في نفقةِ عيَالِهِ ، واقتصر من نفقته ومَلْبَسِهِ على ما تدْعُوه ضرُورتُهُ إِليه ، وزهد فيما سواه ، فكان -عليه السلام- يلبس مَا وَجَدَ ، فيلْبَسُ في الغالِبِ الشَّمْلَة ، والكساءَ الخَشِنَ ، والبُرْدَ الغليظَ . انتهى .