محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب 212 } .

{ زين للذين كفروا } حتى بدّلوا النعمة { الحياة الدنيا } لحضورها ، فألهتهم عن غائب الآخرة .

قال الحرالي : ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما ، من حيث أن نظر العقل والإيمان يُبصِّرُ طيّتها ، ويشهد جيفتها ، فلا يغترّ بزينتها ، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق ؛ فأبهم تعالى المزيَّن في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان ، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } {[1200]} .

/ وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين ، مسندا إلى الله تعالى تارة وإلى غيره أخرى ، في عدة آيات من التنزيل الكريم .

وللراغب كلام بديع ينحلّ به مثل هذا الإشكال وهو قوله :

إن الفعل كما ينسب إلى المباشر له ، ينسب إلى ما هو سببه ومسهّله ، وعلى هذا يصح أن ينسب فعل واحد تارة إلى الله تعالى وتارة إلى غيره ، نحو قوله : { قل يتوفّاكم ملك الموت } {[1201]} ، وفي موضع آخر : { الله يتوفّى الأنفس } {[1202]} . فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له ، وفي الثاني إلى الآمر به ؛ وهكذا ، بتصوّر ما ذكر ، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوبا إلى الله تعالى ، منفيا عن الله تعالى . نحو قوله : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } {[1203]} . وقوله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } {[1204]} ، وقوله : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } {[1205]} .

{ ويسخرون } أي : يهزأون { من الذين آمنوا } وهذا كما قال تعالى : / { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون . . . } {[1206]} الآيات : { والذين اتقوا } وهم المؤمنون ، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها وإيذانا بترتب الحكم عليها { فوقهم يوم القيامة } لأنهم في علّيين وهم في أسفل سافلين ، أو لأنهم يتطاولون عليه في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، كما قال تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون } {[1207]} .

ولذا قال الراغب : يحتمل قوله تعالى : { فوقهم يوم القيامة } وجهين :

أحدهما : أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا .

والثاني : أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات ، والكفار في الدرك الأسفل من النار . انتهى .

لطائف : قال السيلكوتي : اعلم أن قوله تعالى : { زين للذين كفروا . . . } إلخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب ؛ يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة ، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها ؛ وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه ، مركوزا في طبيعتهم . وعطف عليه بالفعل المضارع أعني { يسخرون } لإفادة الاستمرار . وعطف قوله : { والذين اتقوا } لتسلية المؤمنين .

وقوله تعالى : { والله يرزق من يشاء بغير حساب } يعني : ما يعطي الله هؤلاء / المتقين من الثواب بغير حساب ، أي : رزقا واسعا رغدا لا فناء له ولا انقطاع ، كقوله سبحانه { فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } {[1208]} ؛ فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه ، فما لا يكون متناهيا كان لا محالة خارجا عن الحساب .

وقد استقصى الراغب ما تحتمله الآية من وجوهها وتلك سعة وعبارته : أعطاه بغير بحساب : إذا أعطاه أكثر مما يستحق ، أو أقل مما يستحق ؛ والأول هو المقصود والمشار إليه بالإحسان ؛ وقد فسر ذلك على أوجه لإجمال اللفظ وإبهامه :

الأول : يعطيه عطاء لا يحويه حصر العباد . كقول الشاعر :

* عطاياه يُحصى قبل إحصائها القطرُ*

الثاني : يعطيه أكثر مما يستحقه .

الثالث : يعطيه ولا منة .

الرابع : يعطيه بلا مضايقة . من قولهم : حاسبه .

الخامس : يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه وكل هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في الآخرة .

السادس : أن ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفار والفسّاق الذين قال فيهم : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة . . . } الآية{[1209]} ، تنبيها أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه ، ا لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه ، ولهذا قال تعالى : { أيحسبون أنما نمدّهم . . . } الآية{[1210]} .

السابع : يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون ، وذلك لأن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب ولا ينفقه إلا على ذلك ، فهو يحاسب نفسه فلا يحاسَب ، ولهذا روي : ( من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة ! ) وعلى هذا قال تعالى لسليمان : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } {[1211]} .

الثامن : أن الله عز وجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه ، كما قال : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة . . . } {[1212]} الآية .

التاسع : وهو يقارب ذلك : أن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم ، وعلى ذلك قوله تعالى : { فيها ما تشتهيه الأنفس . . . } {[1213]} الآية وقوله : { يدخلون الجنة . . . } الآية .

وأما تعلقه بما تقدم ، فعلى بعض هذه التفاسير ، يتعلق بالذين كفروا ، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا .


[1200]:[6/ الأنعام/ 108] ونصها: {ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون 108}.
[1201]:[32/ السجدة/ 11] ونصها: {* قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون 11}.
[1202]:[39/ الزمر/ 42] ونصها: {الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون 42}.
[1203]:[8/ الأنفال/ 17] ونصها: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم 17}.
[1204]:[8/ الأنفال/ 17] ونصها: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم 17}.
[1205]:[4/ النساء/ 79] ونصها: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا 79}.
[1206]:[83/ المطففين/ 36 ـ 39] وباقي الآيات: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون}.
[1207]:[83/ المطففين/ 36 ـ 39] وباقي الآيات: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون}.
[1208]:[40/ غافر/ 40] ونصها: {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب 40}.
[1209]:[43/ الزخرف/ 33] ونصها: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون 33}.
[1210]:[ 23/ المؤمنون/ 55 و56] ونصها: {أيحسبون أنما نمدّهم به من مال وبنين 55 * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون 56}.
[1211]:[38/ ص/ 39].
[1212]:[2/ البقرة/ 245] ونصها: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعن 245}.
[1213]:[43/ الزخرف/ 71] ونصها: {يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس ونلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون 71}