فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } المزين هو الشيطان بأن وسوس لهم ومناهم الأماني الكاذبة ، وذلك حقيقة كما قال السعد التفتازاني وجيء به ماضيا دلالة على أن ذلك وقع وفرغ منه ، أو المزين الأنفس المجبولة على حب العاجلة وزين مبني للمجهول .

وقرئ بفتح الزاء والمزين هو الله بأن خلق الأشياء العجيبة ومكنهم منها إذ ما من شيء إلا وهو خالقه وعلى هذا المسند والإسناد مجاز لأن خذلانه إياهم صار سببا لاستحسانهم الحياة الدنيا وتزينها في أعينهم .

والمراد بالذين كفروا رؤساء قريش أو كل كافر ، وإنما خص الكفار بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ، لأن الكافر افتتن بهذا التزيين وأعرض عن الآخرة ، والمسلم لم يفتتن به بل أقبل على الآخرة والمعنى حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها .

{ ويسخرون من الذين آمنوا } أي والحال أن أولئك الكفار يسخرون من المؤمنين لكونهم فقراء لا حظ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفار وأساطين الضلال ، وذلك لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيدا رابحا ومن حرمه شقيا خاسرا ، وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة وأمر الآخرة وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها .

وحكى الأخفش أنه يقال سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، والاسم السخرية والسخرى وجيء به مضارعا دلالة على التجدد والحدوث .

ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين رد الله عليهم بقوله { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } والمراد بالفوقية هنا العلو في الدرجة لأنهم في الجنة ، والكفار في النار ، ويحتمل أن يراد بالفوق المكان لأن الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين . أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام وسقوط الكفر وقتل أهله وأسرهم وتشريدهم ، وضرب الجزية عليهم ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة .

وفيه دلالة على أن فوقيتهم من أجل التقوى . وفيه تحريضهم على الإتصاف به إذا سمعوا ذلك أو للإيذان بأن إعراضهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها شاغلة عن جانب القدس .

عن حارثة ابن وهب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ جعظري مستكبر{[201]} ) أخرجه الشيخان .

وعن أسامة ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين ، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ) أخرجه البخاري ومسلم .

{ والله يرزق من يشاء بغير حساب } يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين ويوسع عليهم ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب أي بغير تقدير لأن ما يدخل عليه الحساب فهو قليل ويحتمل أن المعنى أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجا لهم ، وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه فقد رضي عنه ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال تعالى { ويرزقه من حيث لا يحتسب } .

وقال ابن عباس في تفسيرها : ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه ، وقال سعيد ابن جبير : لا يحاسب الرب وقيل يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة وقيل يرزقه بغير استحقاق وقيل لا يخاف نفاذ في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب } وقيل لا يعطي كل واحد على قدر حاجته بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه وقيل غير ذلك .


[201]:مسلم 2853 البخاري 2065