الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

قوله تعالى : { زُيِّنَ } : إنَّما لم تَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيثٍ لكونِهِ مؤنثاً مجازياً ، وحَسَّن ذلك الفصلُ . وقرأ ابن أبي عبلة : " زُيِّنَتْ " بالتأنيث مراعاةً للفظِ . وقرأ مجاهد وأبو حيوة : " زَيَّنَ " مبنياً للفاعل ، و " الحياة " مفعولٌ ، والفاعلُ هو الله تعالى ، والمعتزلةُ يقولون : إنه الشيطان .

وقوله : { وَيَسْخَرُونَ } يَحْتَمِل أن يكونَ من باب عَطْفِ الجملةِ الفعلية على الجملة الفعليةِ ، لا من بابِ عطفِ الفعلِ وحدَه على فعلٍ آخرَ ، فيكونُ من عطف المفردات ، لِعَدَمِ اتِّحادِ الزمانِ . ويَحْتَمل أن يكونَ " يَسْخَرُون " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يَسْخَرُون فيكون مستأنفاً ، وهو من عَطْفِ الجملةِ الاسمية على الفعلية . وجِيءَ بقولِهِ : " زُيِّن " ماضياً دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع وَفُرِغَ منه ، وبقوله : " وَيَسْخَرُون " مضارعاً دلالةً/ على التَّجَدُّدِ والحدوثِ .

قوله : { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ } مبتدأٌ وخبرٌُ ، و " فوق " هنا تَحْتَمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ ظرفَ مكانٍ على حقيقتِها ، لأنَّ المتقين في أَعلى عَلِّيِّين ، والكافرين في أسفلِ سِجِّين . والثاني : أن تكون الفوقيةُ مجازاً : إمَّا بالنسبة إلى نعيمِ المؤمنين في الآخرة ونعيمِ الكافرين في الدنيا . و " يوم " منصوب بالاستقرار الذي تعلَّق به " فوقهم " .

قولُه : { مَن يَشَآءُ } مفعولُ " يشاء " محذوفٌ ، أي : مَنْ يشاءُ أَنْ يَرزقَه . و " بغيرِ حساب " هذا الجارُّ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه زائدٌ . والثاني : أنه غيرُ زائدٍ ، فعلى الأول لا تَعَلُّقَ له بشيء ، وعلى الثاني هو متعلِّقٌ بمحذوف . فأمّا وجهُ الزيادةِ : فهو أنه تقدَّمه ثلاثةُ أشياءَ في قوله : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } الفعلُ والفاعلُ والمفعولُ ، وهو صالحٌ لأنْ يتعَلَّقَ من جهةِ المعنى بكلِّ واحدٍ منها ، فإذا تعلَّق بالفعلِ كان من صفاتِ الأفعالِ ، تقديرُهُ : والله يرزق رزقاً غيرَ حساب ، أي : غير ذي حساب ، أي : أنه لا يُحْسَب ولا يُحْصَى لكثرتِهِ ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، والباءُ زائدةٌ .

وإذا تَعَلَّقَ بالفاعل كان من صفاتِ الفاعلين ، والتقديرُ : واللَّهُ يرزق غيرَ محاسِبٍ بل متفضلاً أو غيرَ حاسِبٍ ، أي : عادٍّ . ف " حساب " واقعٌ موقعَ اسمِ فاعلٍ من حاسَب أو من حَسَبَ ، ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ ، أي : الله يرزقُ غيرَ مُحَاسَبٍ أي : لا يحاسبه أحدٌ على ما يُعْطِي ، فيكونُ المصدرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الفاعل ، والباءُ فيه مزيدةٌ .

وإذا تعلَّق بالمفعولِ كانَ من صفاتِهِ أيضاً والتقديرُ : والله يرزقُ مَنْ يشاء غيرَ محاسَبٍ أو غيرَ محسوبٍ عليه ، أي : معدودٍ عليه ، أي : إنَّ المرزوق لا يحاسِبُهُ أحدٌ ، أو لا يَحْسُبُ عليه أي : لا يَعُدُّ . فيكونُ المصدرُ أيضاً واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ أو حَسَبَ ، أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي غيرَ ذي حساب أي : محاسبة ، فالمصدرُ واقعٌ موقعَ الحالِ والباءُ أيضاً زائدةٌ فيه ، ويحتمل في هذا الوجهِ أن يكونَ المعنى أنه يُرْزَق مِنْ حيثُ لا يَحْتَسِبُ ، أي : من حيث لا يظنُّ أن يأتيَه الرزقُ ، والتقديرُ : يرزقُه غيرَ محتسِب ذلك ، أي : غيرَ ظانٍّ له ، فهو حالٌ أيضاً .

ومثلُه في المعنى { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] وكونُ الباء تُزادُ في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةً كقوله :

فما رَجَعَتْ بخائبةٍ رِكابٌ *** حكيمُ بن المُسَيَّب مُنْتَهَاها

وهذه الحالُ - كما رأيتَ - غيرُ منفيةٍ فالمنعُ من الزيادة فيها أَوْلى .

وأمَّا وجهُ عدمِ الزيادةِ فهو أن تَجْعَلَ الباءَ للحالِ والمصاحبة . وصلاحيةُ وصفِ الأشياء الثلاثة - أعني الفعلَ والفاعلَ والمفعولَ - بقولِهِ : " بغير حساب " باقيةٌ أيضاً ، كما تقدَّم في القولِ بزيادَتِها . والمُراد بالمصدرِ المحاسبةُ أو العدُّ والإِحصاءُ أي : يرزقُ مَنْ يشاء ولا حسابَ على الرزقِ ، أو ولا حسابَ للرازق ، أو ولا حسابَ على المرزوق ، وهذا أَوْلَى لما فيه من عدمِ الزيادةِ ، التي الأصلُ عدمُها ولِما فيه من تَبَعِيَّة المصدرِ على حالِهِ ، غيرَ واقعٍ موقع اسمِ فاعلٍ أو اسم مفعولٍ ، ولِما فيه من عَدَمِ تقديرِ مضافٍ بعد " غير " أي : غيرَ ذي حساب . فإذاً هذا الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ لوقوعِه حالاً من أي الثلاثةِ المقتدِّمةِ شِئْتَ كما تقدَّم تقريرُه ، أي : ملتبساً بغيرِ حسابٍ .