ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال : { زين للذين كفروا } الآية . والغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة ، والتذكير في زين إما لأن الحياة والإحياء واحد ، أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي . عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من كبار قريش . وقيل : رؤساء اليهود وعلمائهم . وعن مقاتل : نزلت في المنافقين . ولا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم وهم في التنعم والراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين والمهاجرين . ثم المزين من هو ؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن والإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار وأوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال :
أتترك لذة الصهباء نقداً *** بما وعدوك من لبن وخمر ؟
قالوا : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل . لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، وإذا كان المزين هو الله تعالى فلابد أن يكون صادقاً في ذلك الإخبار ، فيكون فاعله المستحسن له مصيباً . وإن كان كافراً وإصابة الكافر كفر فهذا القول كفر ، وزيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لابد أن يكون خارجاً منهم . وقولهم : " المزين للشيء هو المخبر عن حسنه " مردود ، وإنما المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالأوصاف الحسنة . سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن الله تعالى يكون مخبراً عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات والراحات ؟ وهذا إخبار عما ليس بكذب والتصديق به ليس بكفر . وقال أبو مسلم : الكفار زينوا لأنفسهم والعرب تقول : " أين يذهب بك " لا يريدون أن ذاهباً ذهب به ومنه قوله تعالى { أنى يؤفكون } [ المائدة : 75 ] { أنى يصرفون } [ غافر : 69 ] . ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه . والتحقيق أن المزين هو الله تعالى كما صرح بذلك في قوله { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ الكهف : 7 ] وكيف لا وانتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب والحلاوة ، وركب في الطبائع حب الشهوات والميل إلى الطيبات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام ويتم غرض الابتلاء . أو نقول : المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها . وقيل : إن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وهو ضعيف ، لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص بالكفار . وإن قيل : المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به . وإن قلت : ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا ، بخلاف المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا وبهجتها وإن كثر ماله وجاهه مكدر بالخوف والوجل من الحساب في الآخرة . قلنا : تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح . أيضاً فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله ولا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مراراً في حقيقة الجبر والقدر . ولما أخبر الله تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال : { ويسخرون من الذين آمنوا } كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم يقولون : هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا وتحملوا المتاعب لطلب الآخرة . ولا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه ، لكنه لو ثبت القول بالمعاد وصح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي والنعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } أما بالمكان فلأنهم في عليين وهم في سجين ، وأما بالرتبة والشرف فلأنهم في معارج الأنس وهم في هاوية الهوان . ويحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار وشبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان ، وبمجرد استبعاد أمر المعاد وحجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان وبمدد الرحمان { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم } [ الأعراف : 44 ] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة وباقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة ومنقضية . وفي قوله { والذين اتقوا } دون أن يقول آمنوا كما قال : { من الذين آمنوا } بعث على التقوى وأن كرامة المؤمن منوطة بها . { والله يرزق من يشاء بغير حساب } بغير تقدير . وذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق وبحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل ، فرد الله تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة ، وقد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر والابتلاء في حق المؤمن ، أو يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ولا سؤال سائل ، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل . أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل " إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي " والمعنى أن الكفار وإن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل الله تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا ، ولقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، ويسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر ، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب ، وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب . ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة ، وعلى هذا يكون معنى { بغير حساب } أي رزقاً واسعاً وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله { يرزقون فيها بغير حساب } [ غافر : 40 ] أو يقال : إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال { فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } [ النساء : 173 ] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك ، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً . فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب . أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته ، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . أو معنى بغير حساب بغير استحقاق ، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان . أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم " فلان ينفق بالحساب " إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية . أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.