غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

211

ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال : { زين للذين كفروا } الآية . والغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة ، والتذكير في زين إما لأن الحياة والإحياء واحد ، أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي . عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من كبار قريش . وقيل : رؤساء اليهود وعلمائهم . وعن مقاتل : نزلت في المنافقين . ولا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم وهم في التنعم والراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين والمهاجرين . ثم المزين من هو ؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن والإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار وأوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال :

أتترك لذة الصهباء نقداً *** بما وعدوك من لبن وخمر ؟

قالوا : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل . لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، وإذا كان المزين هو الله تعالى فلابد أن يكون صادقاً في ذلك الإخبار ، فيكون فاعله المستحسن له مصيباً . وإن كان كافراً وإصابة الكافر كفر فهذا القول كفر ، وزيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لابد أن يكون خارجاً منهم . وقولهم : " المزين للشيء هو المخبر عن حسنه " مردود ، وإنما المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالأوصاف الحسنة . سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن الله تعالى يكون مخبراً عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات والراحات ؟ وهذا إخبار عما ليس بكذب والتصديق به ليس بكفر . وقال أبو مسلم : الكفار زينوا لأنفسهم والعرب تقول : " أين يذهب بك " لا يريدون أن ذاهباً ذهب به ومنه قوله تعالى { أنى يؤفكون } [ المائدة : 75 ] { أنى يصرفون } [ غافر : 69 ] . ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه . والتحقيق أن المزين هو الله تعالى كما صرح بذلك في قوله { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ الكهف : 7 ] وكيف لا وانتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب والحلاوة ، وركب في الطبائع حب الشهوات والميل إلى الطيبات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام ويتم غرض الابتلاء . أو نقول : المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها . وقيل : إن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وهو ضعيف ، لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص بالكفار . وإن قيل : المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به . وإن قلت : ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا ، بخلاف المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا وبهجتها وإن كثر ماله وجاهه مكدر بالخوف والوجل من الحساب في الآخرة . قلنا : تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح . أيضاً فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله ولا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مراراً في حقيقة الجبر والقدر . ولما أخبر الله تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال : { ويسخرون من الذين آمنوا } كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم يقولون : هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا وتحملوا المتاعب لطلب الآخرة . ولا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه ، لكنه لو ثبت القول بالمعاد وصح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي والنعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } أما بالمكان فلأنهم في عليين وهم في سجين ، وأما بالرتبة والشرف فلأنهم في معارج الأنس وهم في هاوية الهوان . ويحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار وشبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان ، وبمجرد استبعاد أمر المعاد وحجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان وبمدد الرحمان { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم } [ الأعراف : 44 ] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة وباقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة ومنقضية . وفي قوله { والذين اتقوا } دون أن يقول آمنوا كما قال : { من الذين آمنوا } بعث على التقوى وأن كرامة المؤمن منوطة بها . { والله يرزق من يشاء بغير حساب } بغير تقدير . وذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق وبحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل ، فرد الله تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة ، وقد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر والابتلاء في حق المؤمن ، أو يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ولا سؤال سائل ، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل . أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل " إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي " والمعنى أن الكفار وإن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل الله تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا ، ولقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، ويسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر ، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب ، وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب . ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة ، وعلى هذا يكون معنى { بغير حساب } أي رزقاً واسعاً وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله { يرزقون فيها بغير حساب } [ غافر : 40 ] أو يقال : إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال { فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } [ النساء : 173 ] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك ، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً . فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب . أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته ، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . أو معنى بغير حساب بغير استحقاق ، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان . أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم " فلان ينفق بالحساب " إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية . أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه .

/خ214