نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

ولما تقدم من الأمر بالسلم والتهديد على الزلل عنه ما يقتضي لزومه حتماً{[9328]} كان كأنه قيل : ما فعل من خوطب بهذه الأوامر وقمع{[9329]} بتلك الزواجر ؟ فقيل : أبى أكثرهم ، فقيل : إن هذا لعجب ! ما الذي صدهم ؟ فقيل{[9330]} : تقدير العزيز الذي لا يخالف مراده الحكيم الذي يدق{[9331]} عن الأفكار استدراجه ، فقيل : كيف يتصور من العاقل كفر النعمة ؟ فبين أن سبب ذلك غالباً الترفع والتعظم{[9332]} والكبر والبطر فرحاً بما في اليد وركوناً إليه وإعراضاً عما خبىء{[9333]} في خزائن الله في حجب القدرة{[9334]} فقال مستأنفاً{[9335]} بانياً{[9336]} للمفعول دلالة على ضعف عقولهم بأنهم يغترون{[9337]} بكل مزين { زين }{[9338]} قال الحرالي : من التزيين بما{[9339]} منه الزينة . وهي بهجة العين التي لا تخلص إلى باطن المزين - انتهى . { للذين كفروا } حتى بدلوا النعمة { الحياة الدنيا } لحضورها فألهتهم عن غائب الآخرة . قال الحرالي{[9340]} : ففي{[9341]} ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طيتها ويشهد جيفتها فلا يغتر بزينتها وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق ، وأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى :{ كذلك زينا لكل أمة عملهم{[9342]} }[ الأنعام : 108 ] .

ولما ذكر ذلك بين حالهم عنده فقال : { ويسخرون } أي والحال أنهم لا يزالون يسخرون أي يوقعون السخرية ، وهي استزراء العقل هزؤاً . وقال الحرالي : هي استزراء العقل معنى{[9343]} بمنزلة الاستسخار في الفعل حساً { من الذين آمنوا } لما هم{[9344]} فيه من الضعف والحاجة لإعراضهم عن الدنيا رغبة فيما عند الله لما وهبهم {[9345]}الله سبحانه وتعالى{[9346]} من العلم الخارق لتلك الحجب الكاشف لأستار المغيب{[9347]} ولأن الله يزوي{[9348]} عنهم الدنيا ويحميهم{[9349]} منها رغبة بهم عنها لكرامتهم عليه كما يحمي الإنسان حبيبه الطعام والشراب إن{[9350]} كان مريضاً لكرامته عليه فصار الكفار بهذا التزيين مع ما بوأناهم من الهوان بأنواع التهديد التي لا مرية {[9351]}في قدرتنا{[9352]} عليها مشغولين بلعاعة من العيش فهم راضون بأحوالهم مسرورون بها بحيث إنهم لا ينظرون في عاقبة بل مع الحالة الراهنة فيهزؤون بأهل الحق متعامين عن البينات معرضين عن التهديد تاركين الاستبصار{[9353]} بأحوال بني إسرائيل .

ولما كان الاستسخار بذوي الأقدار مراً وللنفوس مضراً قال تعالى مبشراً بانقلاب الأمر في دار{[9354]} الخلد مرغباً في التقوى بعد الإيمان : { والذين اتقوا } أي آمنوا خوفاً من الله تعالى ، فأخرج المنافقين{[9355]} و{[9356]}الذين يمكن دخولهم في{[9357]} الجملة الماضية { فوقهم } في الرزق والرتبة{[9358]} والمكان بدليل{ أفيضوا{[9359]} }[ الأعراف : 50 ] و{[9360]}آية{ إني كان لي قرين{[9361]} }[ الصافات : 51 ] وكل أمر سار { يوم القيامة } فهم يضحكون منهم جزاء بما كانوا يفعلون .

ولما كان تبدل الأحوال قريباً عندهم من المحال كان{[9362]} كأنه قيل في تقريب ذلك : برزق من عند الله يرزقهموه{[9363]} { والله } بعز سلطانه وجلال عظمته وباهر كرمه { يرزق من يشاء } أي في الدنيا وفي{[9364]} الآخرة ولو كان أفقر الناس وأعجزهم . ولما كان الإعطاء جزافاً لا يكون إلا عن كثرة و{[9365]}بكثرة قال{[9366]} : { بغير حساب {[9367]}* } أي رزقاً لا يحد ولا يعد{[9368]} ، لأن كل ما دخله الحد{[9369]} فهو محصور متناه يعد ، وفي هذه الأمة من لا يحاسبه الله{[9370]} على ما آتاه فهي في حقه على حقيقتها من هذه الحيثية .


[9328]:في ظ: ختما – كذا بالخاء المعجمة.
[9329]:في الأصل: وقع، والتصحيح من م ومد وظ.
[9330]:في م: فقال.
[9331]:في الأصل: بدل، والتصحيح من م وظ ومد.
[9332]:في الأصل: التعظيم، والتصحيح من م ومد وظ.
[9333]:في الأصل: جي، وفي مد: حبي، والتصحيح من م وظ.
[9334]:في م: الله.
[9335]:العبارة من هنا إلى "بكل مزين" ليست في ظ.
[9336]:في الأصل: بانها، والتصحيح من م ومد.
[9337]:من مد، وفي م: مغترون ووقع في الأصل: يغيرون – كذا.
[9338]:نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم ويكذبون بالمعاد ويسخرون من المؤمنين الفقراء كعمار وصهيب وأبي عبيدة وسالم وعامر بن فهيرة وخباب وبلال ويقولون: لو كان نيينا لتبعه أشرافنا....ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني إسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى وأنهم بدلوا أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا والاستبشار بها وتزيينها لهم واستقامتهم للمؤمنين، فلبني إسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ويكذبون على كتاب الله فيكتبون ما شاؤوا لينالوا حظا خسيسا من حظوظ الدنيا ويقولون: هذا من عند الله – البحر المحيط 2 / 129.
[9339]:في م ومد: مما.
[9340]:وقال أبو حيان الأندلسي: وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها أو بالشهوات التي خلقها فيهم وإليه أشار بقوله: "زين للناس حب الشهوات" – الآية وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه فأعجبهم بهجتها واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية واعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه – البحر المحيط 2 / 129.
[9341]:في الأصل: ففيه، والتصحيح من م ومد وظ.
[9342]:سورة 6 آية 108.
[9343]:في الأصل: يعني، والتصحيح من م وظ ومد.
[9344]:من م ومد وظ، وفي الأصل: بهم.
[9345]:ليست في ظ.
[9346]:ليست في ظ.
[9347]:في م وظ: الغيب.
[9348]:في ظ: يزري وفي مد: يروى.
[9349]:في مد: تحميهم.
[9350]:في م وظ ومد: إذا.
[9351]:في م: لقدرتنا.
[9352]:في م: لقدرتنا.
[9353]:في مد وظ: للاستبصار.
[9354]:من م وظ ومد، وفي الأصل: ذكر.
[9355]:العبارة من هنا إلى "الماضية" ليست في ظ.
[9356]:ليس في م.
[9357]:من م ومد، وفي الأصل: من.
[9358]:العبارة من هنا إلى "قرين" ليست في ظ
[9359]:سورة 7 آية 50.
[9360]:من م ومد، وفي الأصل: أو.
[9361]:سورة 37 آية 51.
[9362]:زيد من م ومد وظ.
[9363]:من م وظ ومد، وفي الأصل: يرزقهم.
[9364]:ليس في م.
[9365]:من م وظ ومد، في الأصل: يكثره فقال.
[9366]:من م وظ ومد، وفي الأصل: يكثره فقال.
[9367]:اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم فقيل: هذا الرزق في الآخرة وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب ويكون معنى قوله "بغير حساب" أي بغير نهاية، لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب أو يكون المعنى أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض فهو بغير حساب، وقيل: هذا الرزق في الدنيا، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزإ بهم أموال بني قريظة والنضير يصير إليهم بلا حساب بل بنالونها بأسهل شيء وأيسره – قاله ابن عباس وقال نحوه القفال – البحر المحيط 2 / 131.
[9368]:العبارة من هنا إلى "متناه يعد" ليست في ظ.
[9369]:في م: العد.
[9370]:زيد في الأصل: الا، ولم تكن الزيادة في م وظ، ومد فحذفناها.