المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

30- واذكر - أيها النبي - نعمة الله عليك ، إذ يمكر المشركون للإيقاع بك : إما بأن يحبسوك ، وإما بأن يقتلوك ، وإما بأن يخرجوك . إنهم يدبرون لك التدبير السيئ ، والله تعالى يدبر لك الخروج من شرهم ، وتدبير الله هو الخير وهو الأقوى والغالب .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ، هذه الآية معطوفة على قوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } ، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، وإذا قالوا اللهم ، لأن هذه السورة مدنية ، وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة ، ولكن الله ذكرهم بالمدينة ، كقوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله } [ التوبة : 40 ] وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير : أن قريشاً فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ، ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رؤوسهم : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، وشيبة بن ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف ، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا ، قالوا : ادخل ، فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه ، كما هلك من كان قبله من الشعراء . قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم ، والله لئن حبستموه في بيت ، فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ، ويأخذوه من أيديكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقام هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي فقال : أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير ، وتخرجوه من أظهركم ، فلا يضركم ما صنع ولا أين وقع وإذا غاب عنكم ، واسترحتم منه ، فقال إبليس لعنه الله : ما هذا لكم برأي تعمدون عليه ، تعتمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ؟ ألم تروا إلى حلاوة منطقه ، وحلاوة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه ؟ وأنه لئن فعلتم ذلك ليذهبن ، وليستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم ، فيخرجكم من بلادكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره ، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً ، نسيباً ، وسيطاً ، فتياً ، ثم يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقرون على حرب قريش كلها ، وبأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، فتؤدي قريش ديته ، فقال إبليس : صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأياً ، القول ما قال ، لا أرى رأياً غيره ، فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون عليه ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي هذه ، فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله أبصارهم عنه ، فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } إلى قوله { فهم لا يبصرون } ومضى إلى الغار من ثور ، هو وأبو بكر ، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي عنده ، وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته ، وبات المشركون يحرسون علياً في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا علياً رضي الله عنه ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثاً ، ثم قدم المدينة ، فذلك قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } .

قوله تعالى : { ليثبتوك } ، ليحبسوك ، ويسجنوك ، ويوثقوك .

قوله تعالى : { أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله } ، قال الضحاك : يصنعون ويصنع الله ، والمكر والتدبير ، وهو من الله التدبير بالحق ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر .

قوله تعالى : { والله خير الماكرين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

30 وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .

أي : و أذكر أيها الرسول ، ما منَّ اللّه به{[342]} عليك . إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه .

وإما أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من شره .

وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم .

فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه ، فاتفق رأيهم على رأي : رآه شريرهم أبو جهل لعنه اللّه ، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما ، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد ، ليتفرق دمه في القبائل . فيرضى بنو هاشم [ ثَمَّ ] بديته ، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش{[343]} ، فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه .

فجاءه الوحي من السماء ، وخرج عليهم ، فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج ، وأعمى اللّه أبصارهم عنه ، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آت وقال : خيبكم اللّه ، قد خرج محمد وذَرَّ على رءوسكم التراب .

فنفض كل منهم التراب عن رأسه ، ومنع اللّه رسوله منهم ، وأذن له في الهجرة إلى المدينة ، فهاجر إليها ، وأيده اللّه بأصحابه المهاجرين والأنصار ، ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة ، وقهر أهلها ، فأذعنوا له وصاروا تحت حكمه ، بعد أن خرج مستخفيا منهم ، خائفا على نفسه .

فسبحان اللطيف بعبده الذي لا يغالبه مغالب .


[342]:- في النسختين: ما من الله بك عليك.
[343]:- في ب: جميع.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

استمع - أخى القارئ - بتدبر إلى الآيات التي حكى كل ذلك بأسلوبها البليغ المثر فتقول : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ . . . وَنِعْمَ النصير } .

قال ابن كثير : " عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } أنه قال : تشاورت قريش ليلة بمكة - في شأن النبى - صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر ، وأن غيرهم قد آمن به - فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق . وقال بعضهم بل اقتلوه ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا قالوا له أين صاحبك ؟ قال : لا أدرى . فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فرموا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثة ليال " .

وقد ذكر ابن كثير وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية ، إلا أننا نكتفى بهذه الرواية ، لإفادتها بالمطلوب في موضوعنا ، ولأن غيرنا قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين ، كما أنكرها ابن كثير نفسه .

وقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ . . } تذكير من الله - تعالى - لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم ، حيث نجى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مكر المشركين حين تأمروا على قتله وهو بينهم بمكة .

قال ابن جرير : أنزل الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة سورة الأنفال ، يذكره نعمه عليه - ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ . . } الآية .

وقوله { يَمْكُرُ } من المكر ، وهو - كما يقول الراغب - صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان : مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله - تعالى - { والله خَيْرُ الماكرين } . ومكر مذموم ، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا ، ومنه قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ . . } وقال - سبحانه - وتعالى - في الأمرين : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } وقوله : " ليثبتوك " أي ليحبسوك . يقال أثبته إذا حبسته .

والمعنى : واذكر - يا محمد - وقت ان نجيتك من مكر أعدائك ، حين تآمروا عليك وأنت بين اظهرهم في مكة ، لكى { لِيُثْبِتُوكَ } أى : يحسبوك في دارك ، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن طعوتهم إلى الدين الحق { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب ، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة . . { أَوْ يُخْرِجُوكَ } أى : من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك .

وقوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } بيان لموضع النعمة والمنة ، أى : والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السئ ، والله - تعالى - يرد مكرهم في نحورهم ، ويحبط كيدهم ، ويخيب سعيهم ، ويعاقب عليهم عقابا شديداً ، ويدبر أمرك وأمر أتباعك ، ويحفظكم من شرورهم ، فهو - سبحانه - أقوى الماكرين ، وأعظم تأثيرا ، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع .

قال الآلوسى : قوله { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } أى : برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم ، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين ، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا فلقوا منهم ما يشب منه الوليد .

{ والله خَيْرُ الماكرين } إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره - سبحانه - وإطلاق هذا المركب الإِضافى عليه - تعالى - إن كان باعتبار أن مكره - سبحانه - أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإِضافة للتفضيل ، لأن لمكر الغير - أيضا نفوذا أو تأثيراً في الجملة . . وإن كان باعتبار أنه - سبحانه - لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به ، فلا شكرة لمكر الغير فيه ، وتكون الإِضافة حينئذ للاختصاص ، لانتفاء المشاركة . .

هذا والصورة التي يرسمها قوله - تعالى - : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } صورة عميقة التأثير ، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتأمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون ، والله من ورائهم محيط ، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون .

إنها صورة ساخرة ، وهى في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة . . . . قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شئ محيط ؟

والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ، فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

30

( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين ) . .

إنه التذكير بما كان في مكة ، قبل تغير الحال ، وتبدل الموقف . وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ؛ كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر . . ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب ، وما كان فيه من خوف وقلق ؛ في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة . . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله [ ص ] في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم ، لا مجرد النجاة منهم !

لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله [ ص ] ويحبسوه حتى يموت ؛ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ؛ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا . . ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ؛ ليتفرق دمه في القبائل ؛ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها ، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !

قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق ، أخبرنا معمر ، أخبرني عثمان الجريري ، عن مقسم مولى ابن عباس ، أخبره ابن عباس في قوله : ( وإذ يمكر بك ) . . . قال : " تشاورت قريش ليلة بمكة . فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي [ ص ] - وقال بعضهم : بل اقتلوه . وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه [ ص ] على ذلك ؛ فبات عليّ - رضي الله عنه - على فراش رسول الله [ ص ] وخرج النبي [ ص ] حتى لحق بالغار . وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي [ ص ] فلما أصبحوا ثاروا إليه ؛ فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا ? قال : لا أدري ! فاقتصوا أثره ؛ فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل ، فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .

( ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين ) .

والصورة التي يرسمها قوله تعالى : ( ويمكرون ويمكر الله ) . . صورة عميقة التأثير . . ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون . . والله من ورائهم ، محيط ، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون !

إنها صورة ساخرة ، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شيء محيط ?

والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ؛ فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { لِيُثْبِتُوكَ } [ أي ] :{[12866]} ليقيدوك .

وقال عطاء ، وابن زيد : ليحبسوك .

وقال السُّدِّيّ : " الإثبات " . هو الحبس والوثاق .

وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء ، وهو مجمع الأقوال{[12867]} وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء .

وقال سُنَيْد ، عن حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قال عطاء : سمعت عُبَيْد بن عُمَيْر يقول : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال : " يريدون أن يسحروني{[12868]} أو يقتلوني أو يخرجوني " ، فقال : من أخبرك{[12869]} بهذا ؟ قال : " ربي " ، قال : نعم الرب ربك ، استوص به خيرا فقال : " أنا أستوصي به ؟ ! بل هو يستوصي بي " {[12870]}

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني محمد بن إسماعيل البصري ، المعروف بالوساوسي ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي رَوَّاد{[12871]} عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن المطلب بن أبي وَدَاعةِ ، أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك ؟ قال : " يريدون أن يسحروني{[12872]} أو يقتلوني أو يخرجوني " . فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : " ربي " ، قال : نعم الرب ربك ، فاستوص به خيرا ، " قال : أنا أستوصي به ؟ ! بل هو يستوصي بي " . قال : فنزلت : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الآية{[12873]}

وذِكر أبي طالب في هذا ، غريب جدا ، بل منكر ؛ لأن هذه الآية مدنية ، ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كان ليلة الهجرة سواء ، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه . والدليل على صحة ما قلنا : ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار صاحب " المغازي " عن عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : وحدثني الكلبي ، عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس ؛ أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة ، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم{[12874]} إبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي . قالوا : أجل ، ادخل فدخل معهم فقال : انظروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره . قال : فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ، قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال : والله ما هذا لكم برأي ، والله ليخرجنه ربه من محبسه{[12875]} إلى أصحابه ، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ، فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم . قال : فانظروا في غير هذا .

قال : فقال قائل منهم : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع ، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم ، وكان أمره في غيركم ، فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة [ قوله ]{[12876]} وطلاوة لسانه ، وأخذ القلوب ما تسمع{[12877]} من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ، ثم استعرض العرب ، ليجتمعن عليكم{[12878]} ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم . قالوا : صدق والله ، فانظروا بابا غير هذا .

قال : فقال أبو جهل ، لعنه الله : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم تصرمونه{[12879]} بعد ، ما أرى غيره . قالوا : وما هو ؟ قال : نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدًا ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل [ كلها ]{[12880]} فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها . فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه .

قال : فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي . القول ما قال الفتى لا رأي غيره ، قال : فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له{[12881]}

فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأخبره بمكر القوم .

فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة " الأنفال " يذكر نعمه{[12882]} عليه وبلاءه عنده : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } وأنزل [ الله ]{[12883]} في قولهم : " تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء " ، { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [ الطور : 30 ] وكان ذلك اليوم يسمى " يوم الزحمة " {[12884]} للذي اجتمعوا عليه من الرأي{[12885]}

وعن السُّدِّيّ نحو هذا السياق ، وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 76 ] .

وكذا روى العَوْفي ، عن ابن عباس . وروي عن مجاهد ، وعُرْوة بن الزبير ، وموسى بن عُقْبَة ، وقتادة ، ومِقْسَم ، وغير واحد ، نحو ذلك .

وقال يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله ، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به ، وأرادوا به ما أرادوا ، أتاه جبريل ، عليه السلام ، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه{[12886]} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجى ببُرد له أخضر ، ففعل . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه ، وخَرَج معه بحفنة من تراب ، فجعل يذرها على رؤوسهم ، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } إلى قوله : { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } [ يس : 1 - 9 ] .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : روي عن عكرمة ما يؤكد هذا{[12887]}

وقد روى [ أبو حاتم ]{[12888]} ابن حِبَّان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : دخلت فاطمةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، فقال : " ما يبكيك يا بُنَيَّة ؟ " قالت : يا أبت ، [ و ]{[12889]} ما لي لا أبكي ، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجْر يتعاقدون باللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى ، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك ، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك . فقال : " يا بنية ، ائتني بوَضُوء " . فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إلى المسجد . فلما رأوه قالوا : إنما هو ذا{[12890]} فطأطؤوا رؤوسهم ، وسقطت أذقانهم بين أيديهم ، فلم يرفعوا أبصارهم . فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها ، وقال : " شاهت الوجوه " . فما أصاب رجلا منهم حَصَاة من حصياته إلا قُتل يوم بدر كافرا .

ثم قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، ولا أعرف له علة{[12891]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، أخبرني عثمان الجَزَري ، عن مِقْسَم مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم : بل اقتلوه . وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم{[12892]} حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليًّا رَدَّ الله تعالى مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ قال : لا أدري . فاقتصا{[12893]} أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال{[12894]}

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أي : فمكرت بهم بكيدي المتين ، حتى خلصتك منهم .


[12866]:زيادة من أ.
[12867]:في د: "وهذا يجمع الأقوال"، وفي ك، م: "وهو تجمع الأقوال".
[12868]:في د: "يسجنونني"، وفي أ: "يسخروني".
[12869]:في ك، م، أ: "خبرك".
[12870]:رواه الطبري في تفسيره (13/493).
[12871]:في د، م: "داود".
[12872]:في د: "يسجنونني"، وفي أ: "يسخروني".
[12873]:تفسير الطبري (13/492).
[12874]:في د: "واعترضهم".
[12875]:في أ: "من حبسه".
[12876]:زيادة من أ.
[12877]:في أ: "ما نشبع".
[12878]:في د، ك، م: "عليه".
[12879]:في أ: "بصرتموه"
[12880]:زيادة من د، ك، م، أ.
[12881]:زيادة من د، ك، م.
[12882]:في ك، م: "نعمته".
[12883]:زيادة من د، ك، أ.
[12884]:في د، ك، م، أ: "الرحمة".
[12885]:رواه الطبري في تفسيره (13/494) من طريق ابن إسحاق به.
[12886]:في د، ك، م: "به".
[12887]:دلائل النبوة للبيهقي (2/469، 470).
[12888]:زيادة من ك، م.
[12889]:زيادة من د.
[12890]:في د، ك، م: "ها هو ذا".
[12891]:صحيح ابن حبان برقم (1691) "موارد" والمستدرك (3/157).
[12892]:في ك، م: "النبي".
[12893]:في د، ك، م: "فاقتصوا".
[12894]:المسند (1/348) قال الهيثمي في المجمع (7/27): "فيه عثمان بن عمرو الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مذكره نعمه عليه : واذكر يا محمد ، إذ يمكر بك الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لِيُثْبِتُوكَ فقال بعضهم : معناه : ليقيدوك . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ يعني : ليوثقوك .

قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيُثْبِتُوكَ ليوثقوك .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ . . . الاَية ، يقول : ليشدّوك وثاقا ، وأرادوا بذلك نبيّ الله النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ بمكة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومِقْسم ، قالا : قالوا : أوثقوه بالوثاق

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لِيُثْبِتُوكَ قال : الإثبات : هو الحبس والوثاق .

وقال آخرون : بل معناه الحبس . ذكر من قال ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن قوله : لِيُثْبِتُوكَ قال : يَسجنوك . وقالها عبد الله بن كثير .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قالوا : اسجنوه

وقال آخرون : بل معناه : ليسحروك . ذكر من قال ذلك .

حدثني محمد بن إسماعيل البصريّ المعروف بالوساوسي ، قال : حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة ، أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر به قومك ؟ قال : «يُرِيدُونَ أنْ يَسْحَرُونِي ويَقْتُلُونِي ويُخْرِجُونِي » فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : «ربي » قال : نعم الربّ ربك ، فاستوص به خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا أسْتَوْصِي بِهِ ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي خَيْرا » . فنزلت : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ . . . الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : لما ائتمروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه ، قال له أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا لك ؟ قال : «نَعَمْ » . قال : فأخبره . قال : من أخبرك ؟ قال : «رَبّي » . قال : نعم الربّ ربك ، استوص به خيرا قال : «أنا أسْتَوْصِي بِهِ ، أوْ هُوَ يَسْتَوْصِي بي ؟ » .

وكان معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه ، كما :

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : وحدثني الكلبي ، عن زاذان مولى أم هانىء ، عن ابن عباس : أن نفرا من قريش من أشراف كلّ قبيلة ، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح . قالوا : أجل ادخل فدخل معهم ، فقال : انظروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشِكنّ أن يواثبكم في أموركم بأمره قال : فقال قائل : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ، زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم قال : فصرخ عدوّ الله الشيخ النجدي ، فقال : والله ما هذا لكم رأي ، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم قالوا : فانظروا في غير هذا . قال : فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضرّكم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم فقال الشيخ النجديّ : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ، لتجتمعنّ عليكم ، ثم ليأتينّ إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم قالوا : صدق والله ، فانظروا رأيا غير هذا قال : فقال أبو جهل : والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد ما أرى غيره . قالوا : وما هو ؟ قال : نأخذ من كلّ قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ، ثم يعطى كلّ غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلها ، فلا أظنّ هذا الحيّ من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها ، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه . فقال الشيخ النجديّ : هذا والله الرأي القول ما قال الفتى ، لا أرى غيره . قال : فتفرّقوا على ذلك وهم مجمعون له . قال : فأتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكره نعمه عليه وبلاءه عنده : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ خَيْرُ واللّهُ المَاكِرِينَ وأنزل في قولهم : «تَرَبّصُوا بِهِ رَيْبَ المَنُونِ » حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : أمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَربّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ وكان يسمى ذلك اليوم : «يوم الزحمة » للذي اجتمعوا عليه من الرأي .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومقسم ، في قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ قالا : تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأوثقوه بالوثاق وقال بعضهم : بل اقتلوه وقال بعضهم : بل اخرجوه فلما أصبحوا رأوا عليّا رضي الله عنه ، فردّ الله مكرهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرني أبي ، عن عكرمة ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ، أمر عليّ بن أبي طالب ، فنام في مضجعه ، فبات المشركون يحرسونه . فإذا رأوه نائما حسبوا أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فتركوه . فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا هم بعليّ ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري . قال : فركبوا الصعب والذّلول في طلبه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : أخبرني عثمان الجريري : أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس ، في قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : بل اقتلوه وقال بعضهم : بل اخرجوه فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات عليّ رضي الله عنه على فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، وخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليّا ، يحسبون أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم . فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه عليّا رضي الله عنه ، ردّ الله مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري . فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل ومرّوا بالغار ، رأوا على بابه نسج العنكبوت ، قالوا : لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على بابه فمكث فيه ثلاثا .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ قال : اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدما أسلمت الأنصار وفرقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأ لجأ إليه . فجاء إبليس في صورة رجل من أهل نجد ، فدخل معهم في دار الندوة فلما أنكروه قالوا : من أنت ؟ فوالله ما كلّ قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا قال : أنا رجل من أهل نجد أسمع من حديثكم وأشير عليكم . فاستحيوا فخلوا عنه . فقال بعضهم : خذوا محمدا إذا اصطبح على فراشه ، فاجعلوه في بيت نتربص به ريب المنون والريب : هو الموت ، والمنون : هو الدهر قال إبليس : بئسما قلت ، تجعلونه في بيت فيأتي أصحابه فيخرجونه فيكون بينكم قتال قالوا : صدق الشيخ . قال : أخرجوه من قريتكم قال إبليس : بئسما قلت ، تخرجونه من قريتكم وقد أفسد سفهاءكم فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءهم فيأتيكم بالخيل والرجال . قالوا : صدق الشيخ . قال أبو جهل ، وكان أولاهم بطاعة إبليس : بل نعمد إلى كلّ بطن من بطون قريش ، فنخرج منهم رجلاً فنعطيهم السلاح ، فيشدّون على محمد جميعا فيضربونه ضربة رجل واحد ، فلا يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشا ، فليس لهم إلاّ الدية . قال إبليس : صدق ، وهذا الفتى هو أجودكم رأيا . فقاموا على ذلك ، وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فنام على الفراش ، وجعلوا عليه العيون . فلما كان في بعض الليل ، انطلق هو وأبو بكر إلى الغار ، ونام عليّ بن أبي طالب على الفراش ، فذلك حين يقول الله : لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ والإثبات : هو الحبس والوثاق ، وهو قوله : وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإذَنْ لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إلاّ قَلِيلاً يقول : يهلكهم . فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقيه عمر ، فقال له : ما فعل القوم ؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، وكذلك كان يصنع بالأمم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أخّرُوا بالقِتالِ » .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ قال : كفار قريش أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه إلاّ أنه قال : فعلوا ذلك بمحمد .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ . . . الاَية ، هو النبيّ صلى الله عليه وسلم مكروا به وهو بمكة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ . . . إلى آخر الاَية ، قال : اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : اقتلوا هذا الرجل فقال بعضهم : لا يقتله رجل إلاّ قُتل به قالوا : خذوه فاسجنوه واجعلوا عليه حديدا قالوا : فلا يدعكم أهل بيته . قالوا : أخرجوه قالوا : إذا يستغويَ الناس عليكم . قال : وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد . واجتمع رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستسلم أن يجتمعوا عليه فَيَغمّوه ويقتلوه ، فإنه لا يدري أهله من قتله ، فيرضون بالعقل فنقتله ونستريح ونعقله . فلما أن جاء يطوف بالبيت اجتمعوا عليه ، فغمّوه . فأتى أبو بكر ، فقيل له ذاك ، فأتى فلم يجد مدخلاً فلما أن لم يجد مدخلاً ، قال : أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبّي الله وقَدْ جَاءَكُمْ بالبَيّنَاتِ مِنْ رَبّكُمْ ؟ قال : ثم فرجها الله عنه فلما أن كان الليل أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : من أصحابك ؟ فقال : فلان وفلان وفلان . فقال : لا نحن أعلم بهم منك يا محمد ، هو ناموس ليل قال : وأخذ أولئك من مضاجعهم وهم نيام . فأتى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقدم أحدهم إلى جبريل ، فكحله ، ثم أرسله ، فقال : «ما صُورَتُهُ يا جِبْرِيلُ ؟ » قال : كفيته يا نبيّ الله . ثم قدم آخر فنقر فوق رأسه بعصا نقرة ، ثم أرسله فقال : «ما صُورَتُهُ يا جِبْرِيلُ ؟ » فقال : كفيته يا نبيّ الله . ثم أتي بآخر فنقر في ركبته ، فقال : «ما صُورَتُه يا جِبْرِيلُ ؟ » قال : كفيته . ثُم أتي بآخر ، فسقاه مذقة ، فقال : «ما صُورَتُهُ يا جِبْرِيلُ ؟ » قال : كفيته يا نبيّ الله . وأتي بالخامس . فلما غدا من بيته مرّ بنبّال ، فتعلق مشقص بردائه فالتوى ، فقطع الأكحل من رجله . وأما الذي كحلت عيناه فأصبح وقد عمي وأما الذي سقي مذقة فأصبح وقد استسقى بطنه وأما الذي نقر فوق رأسه فأخذته النقدة والنقدة : قرحة عظيمة أخذته في رأسه وأما الذي طعن في ركبته ، فأصبح وقد أقعد . فذلك قول الله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُون ويَمْكُرُ اللّهُ واللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ : أي فمكرت لهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : وَإذْ يَمْكُرُ بك الّذِينَ كَفَرُوا قال : هذه مكية . قال ابن جريج : قال مجاهد : هذه مكية .

فتأويل الكلام إذن : واذكر يا محمد نعمتي عندك بمكري بمن حاول المكر بك من مشركي قومك ، بإثباتك ، أو قتلك ، أو إخراجك من وطنك ، حتى استنفذتك منهم وأهلكتهم ، فامْضِ لأمري في حرب من حاربك من المشركين ، وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم ، ولا يرعبنك كثرة عددهم ، فإن ربك خير الماكرين بمن كفر به وعبد غيره وخالف أمره ونهيه . وقد بيّنا معنى المكر فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

{ وإذ يمكر بك الذين كفروا } تذكار لما مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه . من مكرهم واستيلائه عليهم ، والمعنى واذكر إذ يمكرون بك . { ليُثبتوك } بالوثاق أو الحبس ، أو الإثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح ، وقرئ { ليثبتوك } بالتشديد " وليبيتوك " من البيات " وليقيدوك " . { أو يقتلوك } بسيوفهم . { أو يخرجوك } من مكة ، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم فرقوا واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا فقال أبو البحتري : رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت ، فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم ، فقال هشام بن عمر ورأيي أن تحملون على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع ، فقال بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم ، فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه . فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه ، فأتى جبريل النبي عليهما السلام وأخبره الخبر وأمره بالهجرة ، فبيت عليا رضي الله تعالى عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار . { ويمكرون ويمكر الله } برد مكرهم عليهم ، أو بمجازاتهم عليه ، أو بمعاملة الماكرين معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا . { والله خير الماكرين } إذ لا يؤبه مكرهم دون مكره ، وإسناد أمثال هذا ما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم .