قوله عز وجل{ الذين يحملون العرش ومن حوله } حملة العرش والطائفون به ، وهم الكروبيون وهم سادة الملائكة ، قال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة مائة عام . ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرض ، والأرضون ، والسماوات إلى حجزتهم ، وهم يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح . وقال ميسرة بن عبد ربه : أرجلهم في الأرض السفلى ، ورؤوسهم تحت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة ، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها ، وأهل السماء والتي تليها اشد خوفاً من أهل السماء التي تليها ، وقال مجاهد : بين الملائكة والعرش سبعون حجاباً من نور . وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " وروى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : إن ما بين القائمة من قوائم العرش ، والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله ، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة ، وقال مجاهد : بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب من نور ، وحجاب من ظلمة ، وحجاب نور ، وحجاب ظلمة ، وقال وهب بن منبه : إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يدبر هؤلاء ، يقبل هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء ، وكبر هؤلاء ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم ، فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك ، أنت الله لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلق كلهم لك راجعون ، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ، قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ما بين جناحي احدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام ، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار ، وسبعين حجاباً من ظلمة ، وسبعين حجاباً من نور ، وسبعين حجاباً من در أبيض ، وسبعين حجاباً من ياقوت أصفر ، وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر ، وسبعين حجاباً من ثلج ، وسبعين حجاباً من ماء ، وسبعين حجاباً من برد ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى . قال : ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه ، وجه ثور ، ووجه أسد ، ووجه إنسان ، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان ، فعلى وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق ، وأما جناحان فيهفو بهما ، كما يهفو هذا الطائر بجناحيه إذا حركه ليس لهم كلام إلا التسبيح والتحميد . قوله عز وجل : { يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به } يصدقون بأنه واحد لا شريك له .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عمر بن عبد الله الرقاشي ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا هارون بن رباب ، حدثنا شهر بن حوشب ، قال : حملة العرش ثمانية فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم ، وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . وكأنهم ينظرون ذنوب بني آدم . قوله عز وجل : { ويستغفرون للذين آمنوا ربنا } أي : يقولون ربنا { وسعت كل شيء رحمةً وعلما } قيل : نصب على التفسير . وقيل : على النقل ، أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء . { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } دينك { وقهم عذاب الجحيم } قال مطرف : أنصح عباد الله للمؤمنين هم الملائكة ، وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين .
{ 7 - 9 } { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
يخبر تعالى عن كمال لطفه تعالى بعباده المؤمنين ، وما قيض لأسباب سعادتهم من الأسباب الخارجة عن قدرهم ، من استغفار الملائكة المقربين لهم ، ودعائهم لهم بما فيه صلاح دينهم وآخرتهم ، وفي ضمن ذلك الإخبار عن شرف حملة العرش ومن حوله ، وقربهم من ربهم ، وكثرة عبادتهم ونصحهم لعباد الله ، لعلمهم أن الله يحب ذلك منهم فقال : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } أي : عرش الرحمن ، الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأحسنها ، وأقربها من الله تعالى ، الذي وسع الأرض والسماوات والكرسي ، وهؤلاء الملائكة ، قد وكلهم الله تعالى بحمل عرشه العظيم ، فلا شك أنهم من أكبر الملائكة وأعظمهم وأقواهم ، واختيار الله لهم لحمل عرشه ، وتقديمهم في الذكر ، وقربهم منه ، يدل على أنهم أفضل أجناس الملائكة عليهم السلام ، قال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }
{ وَمَنْ حَوْلَهُ } من الملائكة المقربين في المنزلة والفضيلة { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } هذا مدح لهم بكثرة عبادتهم للّه تعالى ، وخصوصًا التسبيح والتحميد ، وسائر العبادات تدخل في تسبيح الله وتحميده ، لأنها تنزيه له عن كون العبد يصرفها لغيره ، وحمد له تعالى ، بل الحمد هو العبادة للّه تعالى ، وأما قول العبد : " سبحان الله وبحمده " فهو داخل في ذلك وهو من جملة العبادات .
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } وهذا من جملة فوائد الإيمان وفضائله الكثيرة جدًا ، أن الملائكة الذين لا ذنوب عليهم يستغفرون لأهل الإيمان ، فالمؤمن بإيمانه تسبب لهذا الفضل العظيم .
ثم ولما كانت المغفرة لها لوازم لا تتم إلا بها -غير ما يتبادر إلى كثير من الأذهان ، أن سؤالها وطلبها غايته مجرد مغفرة الذنوب- ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة ، بذكر ما لا تتم إلا به ، فقال : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } فعلمك قد أحاط بكل شيء ، لا يخفى عليك خافية ، ولا يعزب عن علمك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ورحمتك وسعت كل شيء ، فالكون علويه وسفليه قد امتلأ برحمة الله تعالى ووسعتهم ، ووصل إلى ما وصل إليه خلقه .
{ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } من الشرك والمعاصي { وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } باتباع رسلك ، بتوحيدك وطاعتك . { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : قهم العذاب نفسه ، وقهم أسباب العذاب .
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر رحمته بالمؤمنين ، وتكريمهم ، فذكر أن حملة عرشه من وظائفهم الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم بالخير فقال - تعالى - :
{ الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ . . . }
المراد بالذين يحملون العرش : عدد من الملائكة المقربين إلى الله - تعالى - ولا يعلم عددهم أحد سوى الله - تعالى - لأنه لم يرد نص صحيح فى تحديد عددهم .
والمراد بمن حوله : عدد آخر من الملائكة يطوفون بالعرش مهللين مسبحين مكبرين لله - تعالى - كما قال - تعالى - : { وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ . . . } وعرش الله - تعالى - كما قال الراغب مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، فعلينا أن نؤمن بان لله - تعالى - عرشا عظيما ، أما كيفيته وهيئته فنفوض معرفتها إلى الخالق - عز وجل - .
وقد ذكر هذا اللفظ فى القرآن الكريم فى إحدى وعشرين آية .
والاسم الموصول فى قوله - تعالى - : { الذين يَحْمِلُونَ العرش } مبتدأ . وخبره قوله { يُسَبِّحُونَ . . . } .
والجملة الكريمة مستأنفة ومسوقة لتسلية النبى صلى الله عليه وسلم ببيان أن هؤلاء الملائكة الذين هم أقرب الملائكة إلى الله - تعالى - يضمون إلى تسبيحهم لذاته - سبحانه - ، الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم .
وقد ذكر كثير من المفسرين كلاما طويلا فى صفة هؤلاء الملائكة وفى صفة العرش . رأينا أن نضرب عنه صفحا لضعفه وقلة فائدته .
أى : الملائكة الكرام المقربون إلينا ، والحاملون لعرشنا ، والحافون به ، من صفاتهم أنهم { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أى : ينزهون الله - تعالى - عن كل نقص ، ويلهجون بحمده وبالثناء عليه بما يليق به .
{ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } - تعالى - إيمانا تاما لا يشوبه ما يتنافى مع هذا الإِيمان والإذعان لله الواحد القهار .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة قوله - تعالى - : { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون ؟
قلت : فائدته إظهار شرف الإِيمان وفضله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء فى غير موضع من كتابه بالصلاح كذلك ، كما عقب أعمال الخير بقوله - تعالى - : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } فأبان بذلك فضل الإِيمان .
ويستغفرون للذين آمنوا ، أى : أنهم بجانب تسبيحهم وحمدهم لربهم ، وإيمانهم به ، يتضرعون إليه - سبحانه - أن يغفر للذين آمنوا ذنوبهم .
وفى هذا الاستغفار منهم للمؤمنين ، إشعار بمحبتهم لهم ، وعنايتهم بشأنهم ، لأنهم مثلهم فى الإِيمان بوحدانية - الله تعالى - وفى وجوب إخلاص العبادة والطاعة له .
ثم حكى - سبحانه - كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } .
والجملة الكريمة على تقدير قول محذوف ، وهذا القول فى محل نصب على الحال من فاعل { وَيَسْتَغْفِرُونَ } وقوله { رَّحْمَةً وَعِلْماً } منصوبان على التمييز .
أى : إنهم يستغفرون للذين آمنوا ، حالة كونهم قائلين : يا ربنا يا من وسعت رحمتك ووسع علمك كل شئ ، تقبل دعاءنا .
{ فاغفر } بمقتضى سعة رحمتك وعلمك { لِلَّذِينَ تَابُواْ } إليك توبة صادقة نصوحا { واتبعوا سَبِيلَكَ } الحق ، وصراطك المستقيم .
{ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } أى : وصنهم يا ربنا واحفظهم من الوقوع فى جهنم لأن عذابها كرب عظيم .
ويتصل بتلك الحقيقة الأولى أن حملة العرش ومن حوله - وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود - يذكرون المؤمنين من البشر عند ربهم ، ويستغفرون لهم ، ويستنجزون وعد الله إياهم ؛ بحكم رابطة الإيمان بينهم وبين المؤمنين :
( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا . ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ، وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ؛ إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات - ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته - وذلك هو الفوز العظيم ) . .
ونحن لا نعرف ما هو العرش ? ولا نملك صورة له ، ولا نعرف كيف يحمله حملته ، ولا كيف يكون من حوله ، حوله ؛ ولا جدوى من الجري وراء صور ليس من طبيعة الإدراك البشري أن يلم بها ، ولا من
الجدل حول غيبيات لم يطلع الله أحداً من المتجادلين عليها ؛ وكل ما يتصل بالحقيقة التي يقررها سياق السورة أن عباداً مقربين من الله ، ( يسبحون بحمد ربهم ) . ( ويؤمنون به ) . . وينص القرآن على إيمانهم - وهو مفهوم بداهة - ليشير إلى الصلة التي تربطهم بالمؤمنين من البشر . . هؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن .
وهم يبدأون دعاءهم بأدب يعلمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال . يقولون :
( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ) . .
يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم - في طلب الرحمة للناس - إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء ؛ وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء ؛ إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليهما يلجأون :
( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ) . .
وتلتقي هذه الإشارة إلى المغفرة والتوبة بمطلع السورة ، وبصفة الله هناك : ( غافر الذنب وقابل التوب ) . . كما تلتقي الإشارة إلى عذاب الجحيم ، بصفة الله : ( شديد العقاب ) . .
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة ، ومن حوله من الكروبيين ، بأنهم يسبحون بحمد ربهم ، أي : يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص ، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح ، { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : خاشعون له أذلاء بين يديه ، وأنهم { يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : من أهل الأرض ممن آمن بالغيب ، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب ، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، كما ثبت في صحيح مسلم : " إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ولك بمثله " {[25425]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن عكرمة عن ابن عباس {[25426]} [ رضي الله عنه ] {[25427]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدّق أمية في شيء من شعره ، فقال :
رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه *** وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق " . فقال :
وَالشمس تَطلعُ كل آخر لَيْلةٍ*** حَمْراءُ يُصْبحُ لَونُها يَتَوَرّدُ
تَأبَى فَما تَطلُع لَنَا في رِسْلها***إلا معَذّبَة وَإلا تُجْلدُ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق " {[25428]} .
وهذا إسناد جيد : وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية ، كما قال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 17 ] .
وهنا سؤال وهو أن يقال : ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ، ودلالة هذا الحديث ؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا محمد بن الصباح البزار ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سِماك ، عن عبد الله بن عَمِيرة {[25429]} ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، قال : كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة ، فنظر إليها فقال : " ما تسمون هذه ؟ " قالوا : السحاب . قال : " والمزن ؟ " قالوا : والمزن . قال : " والعَنَان ؟ " قالوا : والعنان - قال أبو داود : ولم أتقن العنان جيدًا - قال : " هل تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض ؟ " قالوا : لا ندري . قال : " بُعد ما بينهما إما واحدة ، أو اثنتان ، أو ثلاث {[25430]} وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك " حتى عَدّ سبع سموات " ثم فوق السماء السابعة بحر {[25431]} ، بين {[25432]} أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَال ، بين أظلافهن ورُكبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله ، عز وجل ، فوق ذلك " ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من حديث سماك بن حرب ، به {[25433]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية ، كما قال شَهْر بن حَوْشَب : حملة العرش ثمانية ، أربعة يقولون : " سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك " . وأربعة يقولون : " سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك " .
ولهذا يقولون إذا استغفروا {[25434]} للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } أي : إن رحمتك تَسَع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك محيط بجميع أعمالهم [ وأقوالهم ] {[25435]} وحركاتهم وسكناتهم ، { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي : فاصفح عن المسيئين {[25436]} إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه ، واتبعوا ما أمرتهم به ، من فعل الخيرات وترك المنكرات ، { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : وزحزحهم عن عذاب الجحيم ، وهو العذاب الموجع الأليم {[25437]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }
يقول تعالى ذكره : الذين يحملون عرش الله من ملائكته ، ومن حول عرشه ، ممن يحفّ به من الملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول : يصلون لربهم بحمده وشكره وَيُؤْمِنُونَ بِهِ يقول : ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه ، ويشهدون بذلك ، لا يستكبرون عن عبادنه وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا يقول : ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله ، والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم ، فيعفوها عنهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا لأهل لا إله إلا الله .
وقوله : رَبّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما ، وفي هذا الكلام محذوف ، وهو يقولون ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون : يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما . ويعني بقوله : وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما : وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء من خلقك ، فعلمت كلّ شيء ، فلم يخف عليك شيء ، ورحمت خلقك ، ووسعتهم برحمتك .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم ، فقال بعض نحويي البصرة : انتصاب ذلك كانتصاب لك مثله عبدا ، لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء ، وهو مفعول له ، والفاعل التاء ، وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا ، وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت المثل بالهاء ، فلذلك نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل وقال غيره : هو من المنقول ، وهو مفسر ، وسعت رحمته وعلمه ، ووسع هو كلّ شيء رحمة ، كما تقول : طابت به نفسي ، وطبت به نفسا ، وقال : أمالك مثله عبدا ، فإن المقادير لا تكون إلا معلومة مثل عندي رطل زيتا ، والمثل غير معلوم ، ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة ، فلذلك نصب العبد ، وله أن يرفع ، واستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
ما في مَعَدّ والقَبائِلِ كُلّها *** قَحْطانَ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدودُ
وقال : رد «الواحد » على «مثل » لأنه نكرة ، قال : ولو قلت : ما مثلك رجل ، ومثلك رجل ، ومثلك رجلاً ، جاز ، لأن مثل يكون نكرة ، وإن كان لفظها معرفة .
وقوله : فاغْفِرِ للّذِينَ تابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك ، فرجع إلى توحيدك ، واتبع أمرك ونهيك ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فاغْفِرْ للّذِينَ تابُوا من الشرك .
وقوله : واتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه ، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه ، وذلك الدخول في الإسلام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة واتّبَعُوا سَبِيلَكَ : أي طاعتك .
وقوله : وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ يقول : واصرف عن الذين تابوا من الشرك ، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة .