بدأت السورة بالإخبار بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل ما في السماوات والأرض . متبعة ذلك بمقتضيات هذا التسبيح من ملك السماوات والأرض ، والإحاطة بهما ، والتصرف فيهما ، ثم أمت بالإيمان بالله والإنفاق في سبيله ، وبينت اختلاف درجات الإنفاق باختلاف دواعيه ومقتضياته ، ثم عرضت صورة المؤمنين يوم القيامة ، يسعى نورهم أمامهم ومن حولهم ، وصورة المنافقين يلتمسون الانتظار من المؤمنين ، ليقتبسوا من نورهم ، وقد ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب .
وانتقلت بعد ذلك تستحث المؤمنين إلى الخشوع لذكر الله ، وما نزل من الحق ، وتبصرهم بمنازل المصدقين والمصدقات عند ربهم ، ومآل الكافرين المكذبين في الجحيم ، وتضرب الأمثال لهوان الدنيا وما حوته من متاع ، وعظم الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب ، وتطلب السبق إلى مغفرة الله ، وتطمئن النفوس إلى أن ما يصيب كل نفس من خير أو شر هو في كتاب عند الله ، لتذعن بالتسليم لقضاء الله ، ثم تحدثت عن إرسال الرسل وتتابعهم مؤيدين بالأدلة والكتب وأسباب القوة والعمل ، ليقوم الناس بالقسط ، ثم ختمت الآية بدعوة المؤمنين إلى التقوى ، ووعدهم بمضاعفة الرحمة ، والحظوة بالفضل الذي لا يقدر أحد على شيء منه إلا الله . لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
1- نزه الله تعالى ما في السماوات والأرض من الإنسان والحيوان والجماد ، وهو الغالب الذي يصرِّف الأمور بما تقتضيه الحكمة .
{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وسعة سلطانه ، أن جميع ما في السماوات والأرض من الحيوانات الناطقة والصامتة وغيرها ، [ والجوامد ] تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله ، وأنها قانتة لربها ، منقادة لعزته ، قد ظهرت فيها آثار حكمته ، ولهذا قال : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها ، في جميع أحوالها ، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها ، وعموم حكمته في خلقه وأمره .
1- سورة " الحديد " هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب المصحف ، وسميت بذلك لقوله –تعالى- فيها : [ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ] .
وعدد آياتها تسع وعشرون آية في المصحف الكوفي ، وثمان وعشرون في غيره .
2- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، فابن كثير والقرطبي يقولان بأنها مدنية ، ولا يذكران خلافا في ذلك .
بينما نرى صاحب الكشاف يقول إنها مكية ، ولا يذكر –أيضا- خلافا في ذلك .
ومن المفسرين من يرى بأن سورة الحديد منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني .
قال الآلوسي : أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ، ولم يسلم له ذلك ، فقد قال قوم إنها مكية .
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا . لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا . . ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده ، والطبراني وابن مردويه . . عن عمر –رضي الله عنه- أنه دخل على أخته قبل أن يسلم ، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد ، فقرأه حتى بلغ قوله –تعالى- : [ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ] فأسلم( {[1]} ) .
والذي يبدو لنا –بعد تدبرنا لهذه السورة الكريمة- أنها يغلب عليها طابع القرآن المدني ، الذي يتحدث عن الجهاد في سبيل الله ، وعن الإنفاق من أجل إعلاء كلمته ، وعن سوء مصير المنافقين ، وعن إرشاد المؤمنين إلى كيفية إقامة الدولة القوية العادلة . . وهذا لا يمنع من أن يكون من بين آياتها ما هو مكي ، متى ثبت ذلك عن طريق النقل الصحيح .
3- وقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن الله –تعالى- قد نزهه عن كل ما لا يليق به . جميع ما في السموات وما في الأرض ، وأنه –عز وجل- هو مالكها ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن والمحيي والمميت والمميت والخالق لكل شيء ، والعليم بكل شيء .
قال –تعالى- : [ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم . له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ] .
4- ثم حضت السورة الكريمة المؤمنين على الثبات على إيمانهم ، وعلى الإنفاق في سبيل الله ، ووعدتهم على ذلك بأجزل الثواب .
قال –تعالى- : [ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ، وله أجر كريم ] .
5- ثم تتحدث السورة الكريمة بعد ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر ، عن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المنافقين ، فتحكي جانبا مما يدور بين الفريقين من محاورات فتقول : [ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ، قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ، فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ، ينادونهم ألم نكن معكم ؟ قالوا : بلى ، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم ، وغرتكم الأماني ، حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ] .
6- وبعد أن تنتقل السورة الكريمة إلى حث المؤمنين على الخشوع لله ، وعلى تذكر الموت ، وعلى البذل في سبيل الله . . بعد كل ذلك تبين لهم مصير الحياة الدنيا ، وتدعوهم إلى إيثار الآجلة على العاجلة ، والباقية على الفانية فتقول : [ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ، سابقوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ] .
7- ثم تقرر السورة بعد ذلك أن كل شيء بقضاء الله وقدره ، وأنه –سبحانه- قد أرسل رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأمرهم بنشر العدل بين الناس ، كما أمرهم بإعداد القوة لإرهاب أعداء الحق ، لأن الناس في كل زمان ومكان فيهم المهتدون ، وفيهم الضالون ، كما قال –تعالى- : [ فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ] .
8- ثم ختم –سبحانه- السورة بهذا النداء الحكيم للمؤمنين فقال : [ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم والله غفور رحيم . لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ، وأن الفضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ] .
9- وبعد ، فهذا عرض مجمل لسورة " الحديد " ومنه نرى أنها زاخرة بالحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- ، وعن صفاته الجليلة . . وعن دعوة المؤمنين إلى التمسك بتعاليم دينهم ، تمسكا يكون مقدما على كل شيء من زينة هذه الحياة الدنيا ، لأن هذا التمسك يجعلهم يعيشون سعداء في دنياهم ، وينالون بسببه الفوز والفلاح في أخراهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
افتتحت سورة " الحديد " بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به ، وبالثناء عليه - تعالى - بما هو أهله ، وببيان جانب من صفاته الجليلة ، الدالة على وحدانيته ، وقدرته ، وعزته ، وحكمته ، وعلمه المحيط بكل شىء .
افتتحت بقوله - عز وجل - : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } .
وقوله : { سَبَّحَ } من التسبيح ، وأصله الإبعاد عن السوء ، من قولهم سبح فلان فى الماء ، إذا توغل فيه ، وسبح الفرس ، إذا جرى بعيدا وبسرعة .
قالوا : وهذا الفعل { سَبَّحَ } قد يتعدى بنفسه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } وقد يتعدى باللام كما هنا . وهى للتأكيد والتبيين أى : سبح لله لا لغيره .
والمراد بالتسبيح هنا : تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله .
والمعنى : نزه الله - تعالى - وعظمه وخضع له ، وانقاد لمشيئته ، جميع ما فى السموات والأرض من كائنات ومخلوقات . . . لا يعلمها إلا هو - سبحانه - .
وقد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضى كما فى هذه السورة ، وكما فى سورتى الحشر والصف ، وتارة بصيغة المضارع ، كما فى سورتى الجمعة والتغابن ، وتارة بصيغة الأمر كما فى سورة الأعلى ، وتارة بصيغة المصدر كما فى سورة الإسراء .
جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة ، للإشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات لله - تعالى - شامل لجميع الأوقات والأحوال .
قال - تعالى - { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَهُوَ العزيز الحكيم } ، والعزيز : هو الغالب على كل شىء ، إذ العزة معناها : الغلية على الغير ، ومنه قوله - تعالى - : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } أى : غلبنى فى الخصام .
وفى أمثال - العرب : من عزَّ بزَّ ، أى : من غلب غيره تفوق عليه .
والحكيم مأخوذ من الحكمة ، وهى وضع الأمور فى مواضعها اللائقة بها .
أى : وهو - سبحانه - الغالب الذى لا يغلبه شىء - الحكيم الذى يضع الأمور فى مواضعها السليمة .
سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون
هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها . هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله ؛ فلا تضن عليها بشيء ، ولا تحتجز دونها شيئا . . لا الأرواح ولا الأموال ؛ ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور . . وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض . موازينها هي موازين الله ، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين . كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله ، فتخشع لذكره ، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه .
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل الله . بذل النفس وبذل المال : ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين . هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وإن الله بكم لرؤوف رحيم . وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ، ولله ميراث السماوات والأرض . لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا . وكلا وعد الله الحسنى . والله بما تعملون خبير ) .
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر الله وللحق الذي أنزله الله ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولى : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق ؛ وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة ، والسباق إلى القيمة الباقية : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ، ثم يكون حطاما . وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ورضوان . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) . .
وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة .
فإلى جانب السابقين من المهاجرين والأنصار ، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية ، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم ، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم ، في خلوص نادر ، وتجرد كامل ، وانطلاق من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى الله . . .
إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة ، كانت هناك - في الجماعة الإسلامية - فئة أخرى ليست في هذا المستوى الإيماني الخالص الرفيع - وبخاصة بعد الفتح عندما ظهر الإسلام ، ودخل فيه الناس أفواجا ، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة ، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة لله .
هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل الله ؛ وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال ؛ وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها ؛ فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها .
وهؤلاء - بصفة خاصة - هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها ، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب ، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى ، التي تصغر معها كل قيم الأرض ، وتذوب في حرارتها كل عوائقها !
كذلك كانت هنالك طائفة أخرى - غير هؤلاء وأولئك - هي طائفة المنافقين ، مختلطة غير متميزة . وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام ، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء ؛ مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن . وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم . قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا . فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ينادونهم : ألم نكن معكم ? قالوا بلى ! ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني ، حتى جاء أمر الله ، وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم . وبئس المصير ) . .
وهذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى . والسورة تشير إلى شيء من أحوالهم ومواقفهم السابقة والحاضرة في ذلك الأوان ؛ كالإشارة السابقة إلى قسوة قلوبهم عند تحذير الذين آمنوا أن يكونوا ( كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) . . وهي إشارة إلى اليهود خاصة في الغالب . . وكالإشارة إلى النصارى قرب نهاية السورة في قوله : ( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
ولما كان مدار السورة على تحقيق حقيقة الإيمان في القلب ؛ وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى ، ومن خلوص وتجرد ، ومن بذل وتضحية ، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس التي كانت تواجهها - والتي توجد في كل مجتمع إسلامي - على نسق مؤثر ، أشبه ما يكون بنسق السور المكية ، حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر !
وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير ؛ تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه . فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له ، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفردة ، وسيطرتها المطلقة على الوجود ، ورجعة كل شيء إليها في نهاية المطاف ، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور ، واتجاه كل شيء إليها بالعبادة والتسبيح : ( سبح لله ما في السماوات والأرض . وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور ) . .
وهذا المطلع بذاته وبإيقاعاته كاف وحده ليهز القلوب هزا . ويوقع فيها الرهبة والخشية والارتعاش ، كما يوقع فيها الرغبة الحية في الخلوص لله والالتجاء إليه ، والتجرد من العوائق والأثقال المعوقة عن تلبية الهتاف إلى الخلاص من الشح بالأنفس والأموال . ولكن سياق السورة تضمن كثيرا من المؤثرات تتخلل ذلك الهتاف وتؤكده في مواضع شتى . كتلك الصورة الوضيئة للمؤمنين والمؤمنات ( يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) . . وتلك الصورة التي تقرر ضآلة الحياة الدنيا وقيمها إلى جانب قيم الآخرة وما يتم فيها من الأمور الكبار .
كذلك جاءت لمسة أخرى ترد القلوب إلى حقيقة القدر المسيطرة على الوجود : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها . إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم . والله لا يحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد . . كي تستقر النفس وتطمئن لما يصيبها من خير أو شر ، وهي في طريقها إلى الله . فلا تطير جزعا ، ولا تبطر فرحا ، وهي تواجه الضراء والسراء . ولا تشرك بالله سببا ولا ظرفا ولا حادثا . فكله بقدر مقسوم لأجل معلوم . ومرد الأمر كله في النهاية إلى الله .
وقد سار سياق السورة في علاج موضوعها في شوطين اثنين أثبتنا أولهما في صدر هذا التقديم . وجاءت فقرات كثيرة من الشوط الثاني في خلاله . وهما مترابطان مطردان . فنكتفي بهذا القدر ، لنسير مع سياق السورة بالتفصيل .
( سبح لله ما في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض ، وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور . . )
هذا المطلع الموحي المختار . وما حشد فيه من خصائص الألوهية الفاعلة المؤثرة المبدعة لكل شيء ، المحيطة بكل شيء ، المهيمنة على كل شيء ، العليمة بكل شيء . وما تعرضه من إبداع اليد القادرة وهي تجول في محيط السماوات والأرض ، وتتلطف إلى خبايا الصدور وطوايا القلوب ، وتشرف من عل على الوجود وما فيه ومن فيه . .
هذا المطلع الموحي المختار يتناول القلوب ، فيهزها هزا ، ويأخذها أخذا ، وهو يجول بها في الوجود كله فلا تجد إلا الله ، ولا ترى إلا الله ، ولا تحس بغير الله ، ولا تعلم لها مهربا من قدرته ولا مخبأ من علمه ، ولا مرجعا إلا إليه ، ولا متوجها إلا لوجهه الكريم :
( سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) . .
هكذا ينطلق النص القرآني الكريم في مفتتح السورة ؛ فتتجاوب أرجاء الوجود كله بالتسبيح لله . ويهينم كل شيء في السماوات والأرض ، فيسمعه كل قلب مفتوح غير محجوب بأحجبة الفناء . ولا حاجة لتأويل النص عن ظاهر مدلوله . فالله يقول . ونحن لا نعلم شيئا عن طبيعة هذا الوجود وخصائصه أصدق مما يقوله لنا الله عنه . . ( سبح لله ما في السماوات والأرض )تعني سبح لله ما في السماوات والأرض . . ولا تأويل ولا تعديل ! ولنا أن نأخذ من هذا أن كل ما في السماوات والأرض له روح ، يتوجه بها إلى خالقه بالتسبيح وإن هذا لهو أقرب تصور يصدقه ما وردت به الآثار الصحيحة ، كما تصدقه تجارب بعض القلوب في لحظات صفائها وإشراقها ، واتصالها بالحقيقة الكامنة في الأشياء وراء أشكالها ومظاهرها . .
وقد جاء في القرآن الكريم : ( يا جبال أوبي معه والطير ) . . فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود ! وجاء في الأثر : أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت . إني لأعرفه الآن " . . وروى الترمذي - بإسناده - عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قال : كنت مع رسول الله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول : " السلام عليك يا رسول الله " . . وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك قال : " خطب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى لزق جذع . فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة ، فنزل الرسول فمسحه ، فسكن " . .
وآيات القرآن كثيرة وصريحة في تقرير هذه الحقيقة الكونية : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) . . ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ) . . ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . ولا داعي لتأويل هذه النصوص الصريحة لتوافق مقررات سابقة لنا عن طبائع الأشياء غير مستمدة من هذا القرآن . فكل مقرراتنا عن الوجود وكل تصوراتنا عن الكون ينبغي أن تنبع أولا من مقررات خالق هذا الكون ومبدع هذا الوجود .
( وهو العزيز الحكيم ) . . فتسبيح ما في السماوات والأرض له فرع عن العزة الغالبة والحكمة البالغة . فهو المهيمن على كل شيء بقوته ، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَبّحَ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : سَبّحَ لِلّهِ ما في السّمَوَاتِ والأرْضِ أن كلّ ما دونه من خلقه يسبحه تعظيما له ، وإقرارا بربوبيته ، وإذعانا لطاعته ، كما قال جلّ ثناؤه : تُسَبّحُ لَهُ السّمَوَاتُ السّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقُهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .
وقوله : وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يقول : ولكنه جلّ جلاله العزيز في انتقامه ممن عصاه ، فخالف أمره مما في السموات والأرض من خلقه الحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ أمرهم ، وتصريفه إياهم فيما شاء وأحبّ .
وهي مدنية فيما قال النقاش وغيره بإجماع من المفسرين وقال غيره مكية قال القاضي أبو محمد ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا والله اعلم وقد ذكرنا قول ابن عباس إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد وروي أن الدعاء بعد قراءتها مستجاب{[1]} .
قال أكثر المفسرين : التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام أن التسبيح مما ذكر دائم مستمر ، واختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز على معنى أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح ، فقال الزجاج وغيره : والقول بالحقيقة أحسن ، وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وهذا كله في الجمادات ، وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد إن تسبيحهم حقيقة ، وقال قوم من المفسرين : التسبيح في هذه السورة : الصلاة ، وهذا قول متكلف ، فأما فيمن يمكن منه ذلك فسائغ ، وأما سجود ظلال الكفار هي صلاتهم ، وأما في الجمادات فيقلق ، وذلك أن خضوعها وخشوع هيئاتها قد يسمى في اللغة سجوداً أو استعارة كما قال الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]
ترى الأكم فيها سُجَّداً للحوافر . . . {[10949]}
ويبعد أن تسمى تلك صلاة الأعلى تحامل .
وقوله : { ما في السماوات والأرض } عام في جميع المخلوقات ، وقال بعض النحاة ، التقدير : ما في السماوات وما في الأرض ، ف «ما » نكرة موصوفة حذفها وأقام الصفة مقامها ، { وهو العزيز } بقدرته وسلطانه ، { الحكيم } بلطفه وتدبيره وحكمته .