فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحديد

هي تسع وعشرون آية وهي مدنية . قال القرطبي : في قول الجميع . وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحديد بالمدينة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله . وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء ، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء ، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء » . وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً «لا تحتجموا يوم الثلاثاء ، فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء » . وأخرج أحمد والترمذي وحسَّنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن العرباض بن سارية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية » . وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف . وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر العرباض بن سارية ، فهو مرسل . وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات ، وكان يقول : إن فيهن آية أفضل من ألف آية » قال يحيى : فنراها الآية التي في آخر الحشر . وقال ابن كثير في تفسيره : والآية المشار إليها والله أعلم هي قوله : «هو الأول والآخر والظاهر والباطن » الآية . والمسبحات المذكورة هي : الحديد والحشر ، والصف ، والجمعة ، والتغابن .

قوله : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السموات والأرض } أي نزّهه ومجده . قال المقاتلان : يعني كل شيء من ذي روح وغيره ، وقد تقدّم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله : { وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم ، والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجنّ ، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم ، فإن كل موجود يدل على الصانع . وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة ، فلم قال : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وإنما هو تسبيح مقال ، واستدل بقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة ، وفعل التسبيح قد يتعدّى بنفسه تارة ، كما في قوله : { وَسَبّحُوهُ } [ الأحزاب : 42 ] وباللام أخرى كهذه الآية ، وأصله أن يكون متعدياً بنفسه ، لأن معنى سبحته : بعدته عن السوء ، فإذا استعمل باللام ، فهي إما مزيدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت له ، أو هي للتعليل : أي افعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصاً له ، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضياً كهذه الفاتحة ، وفي بعضها مضارعاً ، وفي بعضها أمراً للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختصّ تسبيحها بوقت دون وقت ، بل هي مسبحة أبداً في الماضي وستكون مسبحة أبداً في المستقبل ، { وَهُوَ العزيز } أي القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد ولا يمانعه ممانع كائناً ما كان { الحكيم } الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب .

/خ6