نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحديد{[1]}

مقصودها بيان أن عموم الرسالة لعموم الإلهية بالبعث [ إلى{[2]} ] الأزواج الثلاثة المذكورة في السورتين الماضيتين من الثقلين تحقيقا لأنه سبحانه مختص بجميع صفات الكمال تحقيقا لتنزهه عن {[3]}كل شائبة{[4]} نقص المبدوء به هذه السورة المختوم به ما قبلها الراد لقولهم " أئنا لمجموعون أو آباؤنا الأولون " المقتضى لجهاد{[5]} من يحتاج إلى الجهاد ممن عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وما ترتب عليه من النفقة ردا لهم عن النقائص الجسمانية وإعلاء إلى الكمالات الروحانية التي دعا إليها الكتاب حذرا من سواء الحساب يوم التجلي للفصل بين العباد [ بالعدل{[6]}- ] ليدخل أهل الكتاب وغيرهم في الدين طوعا أو كرها . ويعلم أهل الكتاب الذين كانوا يقولون : ليس أحدا فضل منهم ، فضيلة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم على جميع من تقدمه من الرسل عليهم الصلاة والسلام بعموم رسالته وشمول خلافته ، وانتشار دعوته وكثرة أمته تحقيقا لأنه لا حد لفائض رحمته{[7]} سبحانه لتكون هذه السورة التي هي آخر النصف الأول والتي بعدها التي هي أول النصف الثاني من حيث العدد غاية للمقصود من السورة التي هي أوله عند الالتفات والرد كما كانت السورة التي{[8]} غاية النصف الأول{[9]} في المقدار وهي الإسراء ، وكذا السورة التي{[10]} هي أول النصف الثاني وهي الكهف كاشفتين لمقصد الأولى فيما دعت إليه من الهداية وشدت إليه من الإنذار ، على ذلك دل اسمها الحديد بتأمل آياته وتدبر سر ما ذكر فيه وغاياته . أسند صاحب الفردوس{[11]} عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت يوم الثلاثاء . ( بسم الله ) الذي أحاطت إلهيته بجميع الموجودات ( الرحمن ) الذي وسعهم جوده في جميع{[12]} الحركات والسكنات ( الرحيم ) الذي خص من بينهم بما له من الاختيار في كمال الاقتدار أهل ولايته بما يرضيه من العبادات .

لما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث ، جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه و{[62336]}تبيينه بالدليل والبرهان والسيف والسنان فقال تعالى كالتعليل لآخر الواقعة : { سبح } أي أوقع التسبيح بدلالة الجبلة تعظيماً له سبحانه وإقراراً بربوبيته وإذعاناً لطاعته ، وقصره ، وهو متعد ليدل على العموم بقصره ، وعلى الإخلاص بتعديته باللام وجعله ماضياً هنا وفي الحشر والصف ومضارعاً في الجمعة والتغابن ليدل على أن مما أسند إليه التسبيح هو{[62337]} من شأنه وهجيراه وديدنه وتخصيص كل من الماضي والمضارع بما افتتح به لما يأتي في{[62338]} أول الجمعة ، والإتيان بالمصدر أول الإسراء أبلغ من حيث إنه يدل إطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء{[62339]} وفي كل حال { لله } أي الملك المحيط بجميع صفات الكمال { ما في السماوات } أي الأجرام العالية والذي فيها وهي الأرض ومن فيها وكل سماء ومن فيها ، وما بينهما لأنها كلها في العرش الذي هو أعلى الخلق .

ولما كان الكلام آخر الواقعة مع أهل الخصوص بل هو أخص أهل الخصوص ، لم يحتج إلى تأكيد فحذف ما جعلا للخافقين كشيء واحد لأن نظره لهما نظر علو نظراً واحداً لما أخبر به عنهما من التنزيه فقال : { والأرض * } أي وما فيها وكذا نفس{[62340]} الأراضي كما تقدم ، فشمل ، ذلك جميع الموجودات لأنه إذا سبح ذلك كله فتسبيح العرش بطريق الأولى وتنزيه هذه الأشياء بما فيها من الآيات الدالة على أنه سبحانه لا يلم بجنابه شائبة نقص ، وأن كل شيء واقف على الباب يشاهد الطلب ، قال القشيري : التسبيح : التقديس والتنزيه ، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال ، فيظفرون بجواهر التوحيد ، وينظمونها في عقد الإيمان ، ويرصعونها في أطواق الوصلة .

ولما قرر ذلك ، دل على أنه لا قدرة لشيء على الانفكاك عنه ، وأن له كل كمال ، فهو المستحق للتسبيح والحمد فقال : { وهو } أي وحده { العزيز } الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء { الحكيم * } الذي أتقن كل شيء صنعه .

وقال الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير العاصمي في برهانه : لما تقدم قوله سبحانه{[62341]} وتعالى { فلولا تصدقون }[ الواقعة : 57 ] وفيه من التقريع والتوبيخ لمن قرع به ما لا خفاء به ، ثم اتبع بقوله تعالى { أفرءيتم ما تمنون }[ الواقعة : 58 ] الآيات إلى قوله

{ ومتاعاً للمقوين }[ الواقعة : 73 ] فعزروا ووبخوا على سوء جهلهم وقبح ضلالهم ، ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك { أبهذا الحديث أنتم مدهنون }[ الواقعة : 81 ] واستمر توبيخهم{[62342]} إلى قوله :{ إن كنتم صادقين }[ الواقعة : 87 ] فلما أشارت هذه الآيات إلى قبائح مرتكباتهم ، أعقب تعالى ذلك{[62343]} تنزيهه عز وجل عن سوء ما انتحلوه و{[62344]}ضلالهم فيما{[62345]} جهلوه فقال تعالى

{ فسبح باسم ربك }[ الواقعة : 69 ] أي نزهه عن عظيم ضلالهم وسوء اجترائهم ، ثم أعقب ذلك بقوله { سبح لله ما في السماوات والأرض } أي سبح باسم ربك ، فهي سنة العالم بأسرهم

( وله أسلم من في السماوات والأرض }[ آل عمران : 83 ] { سبح لله ما في السماوات والأرض } ثم أتبع ذلك بقوله : { له الملك وله الحمد } فبين تعالى انفراده بصفة الجلال ونعوت الكمال ، وأنه المتفرد بالملك والحمد{[62346]} وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن إلى قوله : { وهو عليم بذات الصدور } فتضمنت هذه الآيات إرغام من أشير إلى حاله في الآية المتقدمة من سورة الواقعة وقطع ضلالهم والتعريف بما جهلوه من صفاته العلى وأسمائه الحسنى جل وتعالى ، وافتتحت آي السورتين واتصلت معانيها ثم صرف الخطاب إلى عباده المؤمنين فقال تعالى { آمنوا بالله ورسوله } واستمرت الآي على خطابهم إلى آخر السورة - انتهى .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[10]:- في م وظ: اخرجه.
[11]:- ليس في م.
[12]:- ليس في م.
[62336]:- زيد من ظ.
[62337]:- في ظ: هنا.
[62338]:- زيد من ظ.
[62339]:- زيد من ظ.
[62340]:- من ظ، وفي الأصل: تنزيهه.
[62341]:- زيد من ظ.
[62342]:- من ظ، وفي الأصل: توبيخه.
[62343]:-زيد من ظ.
[62344]:- من ظ، وفي الأصل: ضلال ما.
[62345]:- من ظ، وفي الأصل: ضلال ما.
[62346]:- زيد من ظ.