التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحديد :

في هذه السورة دعوة إلى الإخلاص في الإيمان ، والبذل في سبيل الله ، وتحذير للمسلمين من قسوة القلوب والاستغراق في الدنيا وأغراضها كما صار إليه أهل الكتاب ، وحض على الخير والتسابق فيه مع الاعتماد على الله ، وتنديد بالبخلاء المختالين ، وتنويه بالمؤمنين المخلصين ، وتقريع وإنذار للمنافقين بمناسبة موقف ممض وقفه بعض مرضى القلوب المنافقين . وفيها تشبيهات واستطرادات إلى حكمة إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد العدل ، وما كان من أمر الأمم السابقة وانحراف أكثرهم مما فيه توطيد لفكرة السلطان وهدفه . وفيها إشارة تنويهية إلى أخلاق الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، مع الإشارة إلى فسق كثير منهم أيضا .

وفصول السورة غير منقطعة عن بعضها بحيث يسوغ القول بأنها نزلت متابعة . والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أنها نزلت بعد سورة الزلزلة التي يروى أن سورة النساء نزلت بعدها وقبل سورة محمد . ومعظم رواة ترتيب النزول يجعلون ترتيبها مثل ترتيبها في هذا المصحف ( 1 ){[1]} ، في حين أن فيها آية تفيد بصراحة أنها نزلت بعد الفتح الذي يتفق معظم المؤولين على أنه فتح مكة ( 2 ){[2]} . وليس في السورة ما يمكن أن يساعد على القول بأن فصولا منها نزلت قبل هذا الفتح . وهذا ما جعلنا نؤخر ترتيبها عن الترتيب المروي ؛ للتوفيق بين ظروف نزولها ونزول سورة الممتحنة التي نزلت بعد صلح الحديبية وقبيل الفتح المكي .

ولقد وردت كلمة الفتح في سورة النصر ، والجمهور على أنه فتح مكة أيضا غير أن الإشارة جاءت فيها بأسلوب التذكير والتنويه ، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن السورة هي آخر سور القرآن نزولا . وقد ذكر ذلك الزمخشري . وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أنها نزلت في حجة الوداع التي لم يعش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها إلا نحو ثمانين يوما . وروى حديثا عن ابن عباس أن السورة لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة رضي الله عنها وقال : إنه قد نعيت إلى نفسي . وحديثا عن عبد الله بن عقبة : ( أن ابن عباس سأله : أتعلم آخر سورة نزلت من القرآن ؟ قال : نعم . إنها : ( إذا جاء نصر الله } . فقال : صدقت . وحديثا عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( نعيت إلي نفسي بها وإني مقبوض هذه السنة ) . وقال النيسابوري : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعش بعد نزولها إلا سبعين يوما ؛ حيث تتضافر هذه الروايات على أنها نزلت قبل قليل من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت بعد فتح مكة بنحو سنتين ، ولقد احتوت سورة التوبة آيات تفيد بصراحة أنها نزلت بعد فتح مكة منها هذه الآية : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ . . . . . . . . . } ( 3 ) وهذه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } ( 28 ) .

وبناء على ما تقدم وضعنا سورة الحديد بعد سورة الممتحنة ؛ لأن الفتح المكي وقع بعد نزول هذه السورة وفي ظروف نزول سورة الحديد . والله تعالى أعلم .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 2 ) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 3 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 4 ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( 5 ) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 6 ) } ( 1 – 6 ) .

عبارة الآيات واضحة . وباستثناء صفتي الظاهر والباطن ، فقد ورد مثلها في سور عديدة مكية ومدنية . وهي هنا مجموعة رائعة قوية بسبيل تعداد صفات الله تعالى وعظمته وما أودعه في كونه من نواميس وبيان شمول ملكه وعلمه وقدرته . وإحاطته بجميع ما في الكون من مخلوقات وما يقع من هذه المخلوقات من أعمال وحركات ظاهرة وخفية وباطنة . وتقرير كون مرد كل شيء إليه أولا وآخرا .

وليس هناك روايات خاصة في مناسبتها . والمتبادر أن مما استهدفته لفت نظر الإنسان وإيقاظ ضميره وتوجيهه نحو الله ، وأنها مقدمة تمهيدية لما احتوته الآيات التالية من دعوة وأمر وتقرير وحث وعتاب ، وهذا من أساليب القرآن المألوفة المتكررة .

وصفتا { والظاهر والباطن } تأتيان في الآيات لأول مرة . ولقد شرحهما الطبري فقال : إن الظاهر بمعنى الظاهر على كل شيء دونه ، أو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه . وإن الباطن بمعنى باطن جميع الأشياء ، فلا شيء أقرب إلى شيء منه . وروى البغوي أن عمر رضي الله عنه سأل عنها كعبا فقال : معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن . وروى بطرقه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بدعاء فيه تفسير للصفتن وهو : ( اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء . اقض عني الدين واغنني من الفقر ) . وقد روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا عن أبي هريرة الذي قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر فاطمة بترديد الدعاء الذي تضمنه حينما جاءت تسأله خادما .

ولقد علقنا على موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار . وإن كان من شيء يحسن قوله هنا : هو أن الآية التي ذكر فيها ذلك مع الآيات الأخرى هي بسبيل التنبيه على عظمة الله وقدرته وإحاطته بكل شيء في كونه وتسبيح كل ما في السماوات والأرض له . وكون ذلك يوجب على الإنسان الخضوع له وتقديسه وتسبيحه من باب الأولى ؛ لما اختصه الله به من خصائص وكرم من تكرمات .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.