التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

هذه السورة تسمى في عهد الصحابة { سورة الحديد } ، فقد وقع في حديث إسلام عمر بن الخطاب عند الطبراني والبزاز أن عمر دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } فأسلم ، وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة ، لوقوع لفظ { الحديد } فيها في قوله تعالى { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } .

وهذا اللفظ وإن ذكر في سورة الكهف في قوله تعالى { آتوني زبر الحديد } وهي سابقة في النزول على سورة الحديد على المختار ، فلم تسم به لأنها سميت باسم الكهف للاعتناء بقصة أهل الكهف ، ولأن الحديد الذي ذكر هنا مراد به حديد السلاح من سيوف ودروع وخوذ ، تنويها به إذا هو أثر من آثار حكمة الله في خلق مادته وإلهام الناس صنعه لتحصل به منافع لتأييد الدين ودفاع المعتدين كما قال تعالى { فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } .

وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي لم يختلف مثله في غيرها ، فقال الجمهور : مدنية . وحكى ابن عطية عن النقاش : أن ذلك إجماع المفسرين ، وقد قيل : إن صدرها مكي لما رواه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { ألم يإن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلى قوله { وكثير منهم فاسقون } إلا أربع سنين . عبد الله بن مسعود أول الناس إسلاما ، فتكون هذه الآية مكية .

وهذا يعارضه ما رواه ابن مردويه عن أنس وابن عباس : أن نزول هذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة من ابتداء نزول القرآن ، فيصار إلى الجمع بين الروايتين أو الترجيح ، ورواية مسلم وغيره عن ابن مسعود أصح سندا ، وكلام ابن مسعود يرجح على ما روي عن أنس وابن عباس لأنه أقدم إسلاما وأعلم بنزول القرآن ، وقد علمت آنفا أن صدر هذه السورة كان مقروءا قبل إسلام عمر بن الخطاب . قال ابن عطية يشبه صدرها أن يكون مكيا والله أعلم ، ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا اهـ .

وروي أن نزولها كان يوم ثلاثاء استنادا إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبد الله .

وأقول الذي يظهر أن صدرها مكي كما توسمه ابن عطية وأن ذلك ينتهي إلى قوله { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } وأن ما بعد ذلك بعضه نزل بالمدينة كما تقتضيه معانيه مثل حكاية أقوال المنافقين ، وبعضه نزل بمكةمثل آية { ألم يإن للذين آمنوا } الآية كما في حديث مسلم . ويشبه ان يكون آخر السورة قوله { إن الله قوي عزيز } نزل بالمدينة ألحق بهذه السورة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها أو في آخرها .

قلت : وفيها آية { لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح } الآية ، وسواء كان المراد بالفتح في تلك الآية فتح مكة أو فتح الحديبية . فإنه أطلق عليه اسم الفتح وبه سميت { سورة الفتح } ، فهي متهينة لأن تكون مدنية فلا ينبغي الاختلاف في أن معظم السورة مدني .

وروي أن نزولها كان يوم الثلاثاء استنادا إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبد الله .

وقد عدت السورة الخامسة والتسعين في ترتيب نزول السور جريا على قول الجمهور : إنها مدنية فقالوا : نزلت بعد سورة الزلزال وقبل سورة القتال ، وغذا روعي قول ابن مسعود : إنها نزلت بعد البعثة بأربع سنين . وما روي من أن سبب إسلام عمر بن الخطاب أنه قرأ صحيفة لأخته فاطمة فيها صدر سورة الحديد لم يستقم هذا العد لأن العبرة بمكان نزول السورة لا نزول آخرها فيشكل موضعها في عد نزول السورة .

وعلى قول ابن مسعود يكون ابتداء نزولها آخر سنة أربع من البعثة فتكون من أقدم السور نزولا فتكون نزلت قبل سورة الحجر وبعد غافر ، فالوجه أن معظم آياتها نزل بعد سورة الزلزال .

وعدت آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام ثمانا وعشرين ، وفي عد أهل البصرة والكوفة تسعا وعشرين .

وورد في فضلها مع غيرها من السور المفتتحة بالتسبيح ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول : إن فيهن ىية افضل من ألف آية وقال الترمذي حديث حسن غريب .

وظن ابن كثير أن الآية المشار إليها في حديث العرباض هي قوله تعالى { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } لما ورد في الآثار من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .

أغراضها

الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة : التذكير بجلال الله تعالى ، وصفاته العظيمة ، وسعة قدرته وملكوته ، وعموم تصرفه ، ووجوب وجوده ، وسعة علمه ، والأمر بالإيمان بوجوده ، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليه من الآيات البينات .

والتنبيه لما في القرآن من الهدي وسبيل النجاة ، والتذكير برحمة الله ورأفته بخلقه .

والتحريض على الإنفاق في سبيل الله ، وأن المال عرض زائل لا يبقى منه لصاحبه إلا ثواب ما انفق منه في مرضاة الله .

والتخلص إلى ما أعد الله للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة من خير وضد ذلك للمنافقين والمنافقات .

وتحذير المسلمين من الوقوع في مهواة قساوة القلب التي وقع فيها أهل الكتاب من قبلهم من إهمال ما جاءهم من الهدى حتى قست قلوبهم وجر ذلك إلى الفسوق كثيرا منهم .

والتذكير بالبعث .

والدعوة إلى قلة الاكتراث بالحياة الفانية .

والأمر بالصبر على النوائب والتنويه بحكمة إرسال الرسل والكتب لإقامة أمور الناس على العدل العام .

والإيماء إلى فضل الجهاد في سبيل الله .

وتنظير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم برسالة نوح وإبراهيم عليهما السلام على أن في ذريتهما وهتدين وفاسقين .

وأن الله أتبعهما برسل آخرين منهم عيسى عليه السلام الذي كان آخر رسول أرسل بشرع قبل الإسلام ، وأن أتباعه كانوا على سنة ن سبقهم ، منهم مؤمن ومنهم كافر .

ثم أهاب بالمسلمين أن يخلصوا الإيمان تعريضا بالمنافقين ووعدهم بحسن العاقبة وأن الله فضلهم على الأمم لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء .

افتتاح السورة بذكر تسبيح الله وتنزيهه مؤذن بأن أهم ما اشتملت عليه إثبات وصف الله بالصفات الجليلة المقتضية أنه منزّه عما ضل في شأنه أهل الضلال من وصفه بما لا يليق بجلاله ، وأول التنزيه هو نفي الشريك له في الإِلهية فإن الوحدانية هي أكبر صفة ضل في كنهها المشركون والمانوية ونحْوهم من أهل التثنية وأصحاب التثليث والبراهمة ، وهي الصفة التي ينبىء عنها اسمه العَلَم أعني « الله » لما علمت في تفسير الفاتحة من أن أصله الإِله ، أي المنفرد بالإِلهية .

وأتبع هذا الاسم بصفات ربانية تدل على كمال الله تعالى وتنزّهُهُ عن النقص كما يأتي بيانه فكانت هذه الفاتحة براعة استهلال لهذه السورة ، ولذلك أتبع اسمهُ العلَم بعشر صفات هي جامعة لصفات الكمال وهي : العزيز ، الحكيم ، له ملك السماوات والأرض ، يحيي ، ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، هو الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، وهو بكل شيء عليم .

وصيغ فعل التسبيح بصيغة الماضي للدلالة على أن تنزيهه تعالى أمر مقرر أمر الله به عباده من قبل وألهمه الناس وأودعَ دلائله في أحوال ما لا اختيار له ، كما دل عليه قوله تعالى : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] وقوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] .

ففي قوله : { سبح } تعريض بالمشركين الذين أهملوا أهم التسبيح وهو تسبيحه عن الشريك والند .

واللام في قوله : { لله } لام التبيين . وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله لأن فعل التسبيح متعدَ بنفسه لا يحتاج إلى التعدية بحرف ، قال تعالى : { فاسجد له وسبحه } [ الإنسان : 26 ] ، فاللام هنا نظيره اللام في قولهم : شكرتُ لك ، ونصحتُ لك ، وقوله تعالى : { ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] ، وقولهم سَقْيا لك ورعيا لك ، وأصله : سقَيَك ورَعْيَك .

و { ما في السموات والأرض } يعم الموجودات كلها فإن { ما } اسم موصول يعمّ العقلاء وغيرهم ، أو هو خاص بغير العقلاء فجرى هنا على التغليب ، وكلها دال على تنزيه الله تعالى عن الشريك فمنها دلالة بالقول كتسبيح الأنبياء والمؤمنين ، ومنها دلالة بالفعل كتسبيح الملائكة ، ومنها دلالة بشهادة الحال كما تنبىء به أحوال الموجودات من الافتقار إلى الصانع المنفرد بالتدبير ، فإن جُعل عموم { ما في السموات والأرض } مخصوصاً بمن يتأتى منهم النطق بالتسبيح وهم العقلاء كان إطلاق التسبيح على تسبيحهم حقيقة .

وإن حمل العموم على ظاهره لزم تأويل فعل { سبح } بما يشمل الحقيقة والمجاز فيكون مستعملاً في حقيقته ومجازه .

والعزيز : الذي لا يغلب ، وهذا الوصف ينفي وجود الشريك في الإِلهية .

و { الحكيم } الموصوف بالحكمة ، وهي وضع الأفعال حيثُ يليق بها ، وهي أيضاً العلم الذي لا يخطىء ولا يتخلف ولا يحول دون تعلقه بالمعلومات حائل ، وتقدما في سورة البقرة . وهذا الوصف يثبت أن أفعاله تعالى جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خُلقت لأجله ، فلذلك عززها الله بإرشاده بواسطة الشرائع .