182- أما إذا كانت الوصية زائغة عن العدل وعن الصراط القويم الذي بَيَّنَّاه بأن حَرَم الموصِى الفقيرَ وأعطى الغني ، أو ترك الأقربين وراعى الفقراء غير الوارثين الأجانب ، فسعى ساع في سبيل الخير وأصلح بين الموصي إليهم ليرد الوصية إلى الصواب ، فلا إثم عليه فيما يحدثه من تغيير الوصية وتبديلها على هذا الوجه ، ولا يؤاخذه الله على ذلك ، فإن الله غفور رحيم .
قوله تعالى : { فمن خاف } . أي علم ، كقوله تعالى : ( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ) أي علمتم .
قوله تعالى : { من موص } . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب ، بفتح الواو وتشديد الصاد ، كقوله تعالى : ( ما وصى به نوحاً ) ( ووصينا الإنسان ) وقرأ الآخرون بسكون الواو ، وتخفيف الصاد ، كقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) .
قوله تعالى : { جنفاً } . أي جوراً وعدولاً عن الحق ، والجنف : الميل .
قوله تعالى : { أو إثماً } . أي ظلماً ، قال السدي وعكرمة والربيع : الجنف الخطأ والإثم العمد .
قوله تعالى : { فأصلح بينهم فلا إثم عليه } . واختلفوا في معنى الآية ، قال مجاهد : معناها أن الرجل إذا حضر مريضاً وهو يوصي فرآه يميل : إما بتقصير أو إسراف ، أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى وللورثة ، وقال آخرون : إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو ولى أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته ، وبين الموصى لهم ، ويرد الوصية إلى العدل والحق ، ( فلا إثم عليه ) ، أي : فلا حرج عليه .
قوله تعالى : { إن الله غفور رحيم } . وقال طاووس : جنفة توجيهه ، وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه ولولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنته . وقال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى : ( فمن بدله بعد ما سمعه ) الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق للورثة شيء ، ثم نسخها قوله تعالى : ( فمن خاف من موص جنفاً ) الآية ، قال ابن زيد : فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى ، وعجز الموصي أن يصلح فانتزع الله تعالى ذلك منهم ، ففرض الفرائض .
روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة : ( من بعد وصية إلى قوله غير مضار ) .
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف ، وإثم ، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها ، أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل ، وأن ينهاه عن الجور والجنف ، وهو : الميل بها عن خطأ ، من غير تعمد ، والإثم : وهو التعمد لذلك .
فإن لم يفعل ذلك ، فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم ، ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة ، ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما ، وليس عليهم إثم ، كما على مبدل الوصية الجائزة ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي : يغفر جميع الزلات ، ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه ، ومنه مغفرته لمن غض من نفسه ، وترك بعض حقه لأخيه ، لأن من سامح ، سامحه الله ، غفور لميتهم الجائر في وصيته ، إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته ، رحيم بعباده ، حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون ، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية ، وعلى بيان من هي له ، وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة ، والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة .
ثم استثنى - سبحانه - حالة يجوز فيها التغيير فقال ، { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } .
خاف : من الخوف ، وهو في الأصل حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم .
والجنف : الميل والجور . يقال : جنف في وصيته وأجنف ، مال وجار ، فهو جنف وأجنف . وقيل : أجنف مختص بالوصية وجنف في مطلق الميل عن الحق . ويقال : جنف وجنف عن طريقة جنفاً وجنوفاً .
والإِثم : العمل الذي يبغضه الله . يقال : أثم فهو آثم وأثيم .
قال بعضهم : والمراد بالجنف هنا : الميل عن الحق في الوصية خطأ ، بقرينة مقابلته بالإِثم وهو الميل عن الحق فيها عمداً .
هذا ، ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصي قد حاد في وصيته عن حدود العدل ، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله ، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأي يكون المعنى : أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلا عن الحق خطأ أو عمداً وأصلح بين الموصي لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية .
والضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } عائد على الموصي لهم .
ويرى آخرون أن هذه الآية واردة في شأن كل من يبغي الإِصلاح من الناس ، بأن يرى الموصِي يوصِي ، فظهر له - أي هذا المصلح - أن الموصِي قد جانب العدل والصواب في وصيته ، فيأخذ في الإِصلاح ، بأن يرشده بأن فعله هذا لا يتفق مع شريعة العدل التي أمر بها الله ، ويحاول قدر استطاعته أن يزيل ما حدث من خلاف بين الموصِي والموصَى لهم .
وعلى هذا الرأي يكون المعنى : إن خرج الموصِي في وصيته عن حدود العدالة ، ورأى أمارات ذلك منه من يريد الإِصلاح من الناس ، وتوقع أن شراً سيترتب على هذه الوصية التي فيها جور ، أو شاهد نزاعاً بين الموصى لهم بسبب ذلك ، فلا إثم على هذا المصلح في أن يصلح بين الموصِى والموصَى لهم ، وأن يرشد الموصى إلى سلوك طريق العدل والحق . وعليه فيكون الضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } يعود على الموصى والموصى لهم .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب ، لأن سياق الآية يؤيده ، إذ هي بمنزلة الاستثناء من قوله - تعالى - : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } . . وهذا إنما يكون بعد موت الموصِى لا في حياته .
وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه ، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد عغلى ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكما آخر من أحكامها السامية ، يتعلق بالوصية في الأموال ، وفي هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل ، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض .
إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي . ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد ، أو النكاية بالوريث . فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف ، وهو الحيف ، ويرد الأمر إلى العدل والنصف :
( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .
والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك . ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال ، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف .
وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدودا إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى . والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم : تأويلها : فمن حضر مريضا وهو يوصي عند إشرافه على الموت ، فخاف أن يخطىء في وصيته فيفعل ما ليس له أو أن يعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به ، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه أن يصلح بينه وبين ورثته بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن منعه مما أذن الله له فيه وأباحه له . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَمَن خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أو إثما فأصلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ } قال : هذا حين يحضر الرجل وهو يموت ، فإذا أسرف أمروه بالعدل ، وإذا قصر قالوا افعل كذا ، أعط فلانا كذا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { فَمَنَ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفا أو إثْما } قال : هذا حين يحضر الرجل وهو في الموت ، فإذا أشرف على الموت أمروه بالعدل ، وإذا قصر عن حق قالوا : افعل كذا ، أعط فلانا كذا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف من أوصياء ميت أو والي أمر المسلمين من موص جَنفا في وصيته التي أوصى بها الميت ، فأصلح بين ورثته وبين الموصى لهم بما أوصى لهم به ، فردّ الوصية إلى العدل والحق فلا حَر ج ولا إثم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفا يعني إثما ، يقول : إذا أخطأ الميت في وصيته ، أو حاف فيها ، فليس على الأولياء حرج أن يردّوا خطأه إلى الصواب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوّ إثْما قال : هو الرجل يوصي فيحيف في وصيته فيردها الوليّ إلى الحق والعدل .
حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثمْا } وكان قتادة يقول : من أوصى بجور أو حيف في وصيته فردّها وليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وإلى العدل ، فذاك له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما فمن أوصى بوصية بجور فردّه الوصيّ إلى الحقّ بعد موته فَلا إثْمَ عَلَيْهِ قال عبد الرحمن في حديثه : فأصلَحَ بَيْنَهُمْ يقول : ردّه الوصيّ إلى الحق بعد موته فلا إثم عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنفا أوْ إثما فأصلَحَ بَيْنَهُمْ }قال : ردّه إلى الحق .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن إبراهيم ، قال : سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث ، قال : ارددها ، ثم قرأ : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما } .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ } قال : ردّه الوصيّ إلى الحقّ بعد موته فلا إثم على الوصي .
وقال بعضهم : بل معنى ذلك : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما في عطيته عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض ، فلا إثم على من أصلح بينهم ، يعني بين الورثة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما قال الرجل : يحيف أو يأثم عند موته فيعطي ورثته بعضهم دون بعض ، يقول الله : فلا إثم على المصلح بينهم . فقلت لعطاء : أله أن يعطي وارثه عند الموت ، إنما هي وصية ، ولا وصية لوارث ؟ قال : ذلك فيما يقسم بينهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لمن لا يرثه بما يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان يقول : جَنَفُه وإثمه : أن يُوصِيَ الرجل لبني ابنه ليكون المال لأبيهم ، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها ، وذو الوارث الكثير والمال قليل فيوصي بثلث ماله كله فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير . قلت : أفي حياته ، أم بعد موته ؟ قال : ما سمعنا أحدا يقول إلا بعد موته ، وإنه ليوعظ عند ذلك .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { فَمَنُ خافَ مِنْ مُوصٍ جنَفَا أوْ إثْما فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ }قال : هو الرجل يوصي لولد ابنته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص لاَبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض فأصلح بين الاَباء والأقرباء فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أو إثْما فأصْلحَ بَيْنَهُم فَلا إثمَ عَلَيْهِ } أما جنفا : فخطأ في وصيته وأما إثما : فعمدا يعمد في وصيته الظلم ، فإن هذا أعظم لأجره أن لا ينفذها ، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق ينقص بعضا ويزيد بعضا . قال : ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثمَ عَلَيْهِ }قال : الجنف : أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية ، والإثم أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض ، فأصلح بينهم الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين الابن والبنون هم الأقربون ، فلا إثم عليه ، فهذا الموصَى الذي أوصي إليه بذلك وجعل إليه فرأى هذا قد أجنف لهذا على هذا فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، فيعجز الموصي أن يوصي كما أمره الله تعالى وعجز الموصَى إليه أن يصلح فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم ففرض الفرائض .
وأولى الأقوال في تأويل الآية ، أن يكون تأويلها : فمن خاف من موص جنفا أو إثما ، وهو أن يميل إلى غير الحقّ خطأ منه ، أو يتعمد إثما في وصيته بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله ، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث ، أو بالثلث كله ، وفي المال قلة ، وفي الورثة كثرة ، فلا بأس على من حضره أي يصلح بين الذين يوصَى لهم وبين ورثة الميت وبين الميت ، بأن يأمر الميت في ذلك بالمعروف ، ويعرّفه ما أباح الله له في ذلك ، وأذن له فيه من الوصية في ماله ، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بالمَعْرُوفِ } وذلك هو الإصلاح الذي قال الله تعالى ذكره : { فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ }وكذلك لمن كان في المال فضل وكثرة ، وفي الورثة قلة ، فأراد أن يقصر في وصيته لوالديه وأقاربه عن ثلثه ، فأصلح من حضره بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصي لهم بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم ، ويبلغ بها ما رخص الله فيه من الثلث ، فذلك أيضا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف .
وإنما اخترنا هذا القول لأن الله تعالى ذكره قال : { فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما }يعني بذلك : فمن خاف من موص أن يجنف أو يأثم . فخوف الجنف والإثم من الموصي إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم ، فأما بعد وجوده منه فلا وجه للخوف منه بأن يجنف أو يأثم ، بل تلك حال من قد جنف أو أثم ، ولو كان ذلك معناه قيل : فمن تبين من موص جنفا أو إثما ، أو أيقن أو علم ، ولم يقل فمن خاف منه جنفا .
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال : فما وجه الإصلاح حينئذٍ والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء ؟ قيل : إن ذلك وإن كان من معاني الإصلاح ، فمن الإصلاحِ الإصلاحُ بين الفريقين فيما كان مخوفا حدوث الاختلاف بينهم فيه بما يؤمن معه حدوث الاختلاف ، لأن الإصلاح إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين ، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه .
فإن قال قائل : فكيف قيل : فأصلح بينهم ، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين أو المخوف اختلافهم ذكر ؟ قيل : بل قد جرى ذكر الله الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم ، وهم والدا الموصي وأقربوه والذين أمروا بالوصية في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بالمَعْرُوفِ } ثم قال تعالى ذكره : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ لمن أمرته بالوصية له جنَفَا أوْ إثْما فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ وبين من أمرته بالوصية له ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ . والإصلاح بينه وبينهم هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي .
وقد قرىء قوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ } بالتخفيف في الصاد والتسكين في الواو وبتحريك الواو وتشديد الصاد ، فمن قرأ ذلك بتخفيف الصاد وتسكين الواو فإنما قرأه بلغة من قال : أوصيت فلانا بكذا . ومن قرأ بتحريك الواو وتشديد الصاد قرأه بلغة من يقول : وصيّت فلانا بكذا ، وهما لغتان للعرب مشهورتان وصيتك وأوصيتك .
وأما الجنف فهو الجور والعدول عن الحق في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :
هُمُ المَوْلى وَإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا وَإنّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ
يقال منه : جنف الرجل على صاحبه يجنف : إذا مال عليه وجار جَنَفا . فمعنى الكلام : من خاف من موص جنفا له بموضع الوصية ، وميلاً عن الصواب فيها ، وجورا عن القصد أو إثما ، بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك فأصلح بينهم ، فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا }يعني بالجنف : الخطأ .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا }قال : ميلاً .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ويزيد بن هارون ، قالا : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا الزبيري ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن عطاء مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا أوْ إثْما } أما جنفا : فخطأ في وصيته وأما إثما : فعمد يعمد في وصيته الظلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا } قال : جنفا إثما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر عن أبي جعفر ، عن الربيع : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا أوْ إثْما } قال : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا أوْ إثْما قال : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا قال : خطأ ، أو إثما متعمدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفا }قال : ميلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : جَنَفا حيفا ، والإثم : ميله لبعض على بعض ، وكله يصير إلى واحد كما يكون عفوّا غَفُورا وغفورا رحيما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قال : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد .
وأما قوله : { إنّ الله غٍفُورٌ رَحيمٌ }فإنه يعني : والله غفور رحيم للموصي فيما كان حدّث به نفسه من الجنف والإثم ، إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته ، فتجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الجور ، إذ لم يُمْضِ ذلك ، فيغفل أن يؤاخذه به ، رحيم بالمصلح بين الموصي وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له .
{ فمن خاف من موص } أي توقع وعلم ، من قولهم أخاف أن ترسل السماء . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر { موص } مشددا . { جنفا } ميلا بالخطأ في الوصية . { أو إثما } تعمدا للحيف . { فأصلح بينهم } بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع . { فلا إثم عليه } في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول . { إن الله غفور رحيم } وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم .
تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل ، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيدُ المبدل لها ، وتفرع عن وعيد المِّبدل الإذنُ في تبديلٍ هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقةِ الإصلاح بين الموصَي لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديراً بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديراً بمقدارٍ فأجحف به الموصي ؛ لأن آية الوصية حضرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولاً إلى أمانته بالمعروف ، فإذا حاف حيفاً واضحاً وجَنَف عن المعروف أُمِر ولاة الأمور بالصلح .
ومعنى خاف هنا الظن والتوقع ؛ لأن ظن المكروه خَوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقعُ إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه ، والقرينة هي أن الجنف والإثم لا يخيفان أحداً ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها ، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي مِحْجن الثقفي :
* أخَافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقها *
أي أظن وأَعلم شيئاً مكروها ولذا قال قبله :
* تُرَوِّي عِظَامي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُها *
والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح . والإثم المعصية ، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق ، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق ، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصي به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه .
والإصلاح جعل الشيء صالحاً يقال : أصلحه أي جعله صالحاً ، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة ؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا ، ويقال : أصلح بينهم لتضمينه معنى دخل ، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصي والموصى لهم المفهومين من قوله { موص } إذ يقتضي موصَى لهم ، ومعنى { فلا إثم عليه } [ البقرة : 173 ] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية ؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير .
والمعنى : أن من وجد في وصية الموصي إضراراً ببعض أقربائه ، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسباً ، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصي تبديل وصيته ، فلا إثم عليه في ذلك ؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم ، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصي لأنه آثر بعضهم ، ولذلك عقبه بقوله : { إن الله غفور رحيم } وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجاً للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور .
وقرأ الجمهور : « موص » على أنه اسم فاعل أو أوصى وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « موصٍ » بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل وصى المضاعف .