قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا } . قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء ، فمن قرأ بالياء " فالذين " في محل الرفع على الفاعل تقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيراً ، ومن قرأ بالتاء يعني ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ، وإنما نصب على البدل من الذين .
قوله تعالى : { إنما نملي لهم خير لأنفسهم } . والإملاء الإمهال والتأخير ، يقال : عشت طويلاً حميداً وتمليت حيناً ، ومنه قوله تعالى ( واهجرني مليا ) . أي حيناً طويلاً ، ثم ابتدأ فقال :
قوله تعالى : { إنما نملي لهم } . نمهلهم .
قوله تعالى : { ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } . قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة ، وقال عطاء في قريظة والنضير .
أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال ، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد حمدان الصيرفي ، أنا محمد بن يونس ، أنا أبو داود الطيالسي ، أنا شعبة عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الناس خير ؟ قال : من طال عمره وحسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله " .
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
أي : ولا يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه ، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا ، وعدم استئصالنا لهم ، وإملاءنا لهم خير لأنفسهم ، ومحبة منا لهم .
كلا ، ليس الأمر كما زعموا ، وإنما ذلك لشر يريده الله بهم ، وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم ، ولهذا قال : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } فالله تعالى يملي للظالم ، حتى يزداد طغيانه ، ويترادف كفرانه ، حتى إذا أخذه أخذه{[176]} أخذ عزيز مقتدر ، فليحذر الظالمون من الإمهال ، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال .
ثم بين - سبحانه - أن ما يتمتع به الأشرار فى الدنيا من متع إنما هو استدراج لهم ، فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } .
وقوله { نُمْلِي لَهُمْ } من الإملاء وهو الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه .
يقال : أملى فلان لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء .
ويطلق الإملاء على طول المدة ورغد العيش .
والمعنى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } ، بتطويل أعمارهم ، وبإعطائهم الكثير من وسائل العيش الرغيد هو ، { خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } كلا . بل هو سبب للمزيد من عذابهم ، لأننا { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } بكثرة ارتكابهم للمعاصى { وَلَهْمُ } فى الآخرة { عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى عذاب ينالهم بسببه الذل الذى ليس بعده ذل والهوان الذى يتصاغر معه كل هوان .
وقوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } إلخ . . عطف على قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْزُنكَ } ويكون للنهى عن الظن متجها للذين كفروا ليعلموا سوء عاقبتهم .
ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما أن المصدرية وما بعدها و " ما " فى قوله " أنما نملى لهم " يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون موصولة حذف عائدها .
وقد كتبت متصلة بأن مع أن من حقها أن تكتب منفصلة عنها اتباعا للمصحف الإمام أى لا يحسبن الكافرين أن إملاءنا لهم أو أن الذى نمليه لهم من تأخير حياتهم وانتصارهم فى الحروب فى بعض الأحيان ، هو خير لهم .
وقرأ حمزة " ولا تحسبن الذين كفروا " . فيكون الخطاب بالنهى متجها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويكون المفعول الأول لحسب هو { الذين كَفَرُواْ } وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من الذين كفروا ساداً مسد المفعول الثانى ، أو يكون هو المفعول الثانى .
والمعنى : لا تحسبن يا محمد ولا يحسبن أحد من أمتك أن إملاءنا للذين كفروا هو خير لأنفسهم ، بل هو شر لهم ، لأننا ما أعطيناهم الكثير من وسائل العيش الرغيد إلا على سبيل الاستدراج ، وسنعاقبهم على ما ارتكبوه من آثام عقابا عسيرا .
وقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } استئناف واقع موقع التعليل للنهى عن حسبان الإملاء خيراً للكافرين .
أى إنما نزيدهم من وسائل العيش الرغيد ليزدادوا آثاما بكثرة ارتكابهم للسيئات . فتكون نتيجة ذلك أن نزيدهم من العذاب المهين الذى لا يستطيعون دفعه أو التهرب منه .
و " إنما " فى قوله { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أداة حصر مركبة من " إن " التى هى حرف توكيد ومن " ما " الزائدة الكافة .
واللام فى قوله { ليزدادوا إِثْمَاً } هى التى تسمى بلام العاقبة كما فى قوله - تعالى - { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أى : إنما نملى لهم فيزدادون إثما ، فلما كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء كان كالعلة له ، وكانت نتيجة هذا الإملاء أن وقعوا فى العذاب المهين .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }
( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . ولهم عذاب مهين ) . .
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور ، والشبهة التي تجول في بعض القلوب ، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح ، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق ، متروكين لا يأخذهم العذاب ، ممتعين في ظاهر الأمر ، بالقوة والسلطة والمال والجاه ! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ؛ يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان ، فيملي له ويرخي له العنان ! أو يحسبون أن الله - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل ، فيدع للباطل أن يحطم الحق ، ولا يتدخل لنصرته ! أو يحسبون أن هذا الباطل حق ، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب ؟ ! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض ، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر ! ثم . . يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين ، يلجون في عتوهم ، ويسارعون في كفرهم ، ويلجون في طغيانهم ، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم ، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم ! ! !
وهذا كله وهم باطل ، وظن بالله غير الحق ، والأمر ليس كذلك . وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن . . إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه ، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه . . إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء ، فإنما هي الفتنة ؛ وإنما هو الكيد المتين ، وإنما هو الاستدراج البعيد :
( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما )
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة ، بالابتلاء الموقظ ، لابتلاهم . . ولكنه لا يريد بهم خيرا ، وقد اشتروا الكفر بالإيمان ، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه ! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء !
{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ }
يعني بذلك تعالى ذكره : ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم . ويعني بالإملاء : الإطالة في العمر والإنساء في الأجل¹ ومنه قوله جل ثناؤه : { وَاهجُرْنِي مَلِيّا } : أي حينا طويلاً¹ ومنه قيل : عشت طويلاً وتمليت حينا والملا نفسه : الدهر ، والملوان : الليل والنهار ، ومنه قول تميم بن مقبل :
ألا يا دِيارَ الحَيّ بالسّبُعانِ *** أمَلّ عَلَيها بالبِلَى المَلَوَانِ
يعني بالملوان : الليل والنهار .
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله : «وَلا تَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُملِيَ لهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ » فقرأ ذلك جماعة منهم : { وَلا يَحسَبنّ } بالياء وفتح الألف من قوله { أنّمَا } على المعنى الذي وصفت من تأويله . وقرأه آخرون : «وَلا تَحسَبنّ » بالتاء و{ أنّمَا } أيضا بفتح الألف من «أنما » ، بمعنى : ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم .
فإن قال قائل : فما الذي من أجله فتحت الألف من قوله : { أنّمَا } في قراءة من قرأ بالتاء ، وقد علمت أن ذلك إذا قرىء بالتاء فقد أعلمت تحسبنّ في الذين كفروا ، وإذا أعملتها في ذلك لم يجز لها أن تقع على «أنما » لأن «أنّما » إنما يعمل فيها عامل يعمل في شيئين نصبا ؟ قيل : أما الصواب في العربية ووجه الكلام المعروف من كلام العرب كسر إن قرئت تحسبن بالتاء ، لأن تحسبن إذا إذا قرئت بالتاء ، فإنها قد نصبت الذين كفروا ، فلا يجوز أن تعمل وقد نصبت اسما في أن ، ولكنى أظن أن من قرأ ذلك بالتاء في تحسبن وفتح الألف من أنما ، إنما أراد تكرير تحسبن على أنما ، كأنه قصد إلى أن معنى الكلام : ولا تحسبن يا محمد أنت الذين كفروا ، لا تحسبن أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، كما قال جل ثناؤه : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغتَةً } بتأويل : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة ؟ وذلك وإن كان وجها جائزا في العربية ، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا } بالياء من «يحسبن » ، وبفتح الألف من «أنما » ، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم ، ثم يعمل في «أنما » نصبا¹ لأن «يحسبن » حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه ، وهي تطلب منصوبين . وإنما اخترنا ذلك لإجماع القراء على فتح الألف من «أنما » الأولى ، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة في «يحسبن » بالياء لما وصفنا¹ وأما ألف «إنما » الثانية فالكسر على الابتداء بالإجماع من القراء عليه .
وتأويل قوله : { إنّمَا نُملِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما } : إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثما ، يقول : يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر { ولَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } يقول : ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الاَخرة عقوبة لهم مهينة مذلة .
وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود ، قال : قال عبد الله : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، وقرأ : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُملِي لَهُمْ خَيرٌ لأَنْفُسِهِمْ إنّمَا نُملِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما } وقرأ : { نُزُلاً مِنْ عِندِ الله وما عِندَ اللّهِ خَيرٌ للأبرَارِ } .
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } خطاب للرسول عليه السلام ، أو لكل من يحسب . والذين مفعول و{ أنما نملي } لهم بدل منه ، وإنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل وهو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون } . أو المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم ، أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم ، وما مصدرية وكان حقها أن تفصل في الخط ولكنها وقعت متصلة في الإمام فاتبع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على { إن الذين } فاعل وإن مع ما في حيزه مفعول وفتح سينه في جميع القرآن ابن عامر وحمزة وعاصم . والإملاء الإمهال وإطالة العمر . وقيل تخليتهم وشأنهم ، من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعي كيف شاء . { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، وما كافة واللام لام الإرادة . وعند المعتزلة لام العاقبة . وقرئ { إنما } بالفتح هنا وبكسر الأولى ولا يحسبن بالياء على معنى { ولا يحسبن الذين كفروا } أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان ، و{ إنما نملي لهم خير } اعتراض . معناه أن إملاءنا خير لهم أن انتبهوا وتداركوا فيه ما فرط منهم . { ولهم عذاب مهين } على هذا يجوز أن يكون حالا من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين .
{ نملي } معناه : نمهل ونمد في العمر ، والملاوة : المدة من الدهر والملوان الليل والنهار وتقول : ملاك الله النعمة أي منحكها عمراً طويلاً ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «يحسبن » بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء ، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في السين فإنه فتحها وقرأ حمزة تحسبن . بالتاء من فوق الباء ، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في -السين- فإنه فتحها ، وقرأ حمزة «تحسبن » . بالتاء من فوق وفتح السين ، وقرأ عاصم والكسائي ، كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين ، قوله { ولا يحسبن الذين كفروا } في هذه الآية وبعدها { ولا يحسبن الذين يبخلون } فأما من قرأ «ولا يحسبن » بالياء من أسفل فإن { الذين } فاعل وقوله { إنما نملي لهم خير } بفتح الألف من «أنما » ساد مسد مفعولي حسب ، وذلك أن «حسب » وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد مسد مفعولين ، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث والمحدث عنه ، قال أبو علي : وكسر «إن » في قوله من قرأ «يحسبن » بالياء لا ينبغي ، وقد قرىء فيما حكاه غير أحمد بن موسى{[3730]} وفي غير السبع ، ووجه ذلك أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء ، ويدخلان على الابتداء والخبر ، أعني -اللام- وإن فعلق عن «إنما » عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك : حسبت لزيد قائم ، فيعلق الفعل عن العمل لفظاً ، وأما بالمعنى فما بعد «أن أو اللام » ففي موضع مفعولي «حسب » ، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، ففي { نملي } عائد مستكن ، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى تقدير عائد وأما من قرأ «ولا تحسبن » بالتاء فالذين مفعول أول للحسبان ، قال أبو علي : وينبغي أن تكون الألف من «إنما » مكسورة في هذه القراءة ، وتكون «إن » وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني لتحسبن ، ولا يجوز فتح الألف من «إنما » لأنها تكون المفعول الثاني ، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول بالمعنى ، والإملاء لا يكون إياهم ، قال مكي في مشكله{[3731]} : ما علمت أحداً قرأ «تحسبن » بالتاء من فوق وكسر الألف من «إنما » وجوز الزجّاج هذه القراءة «تحسبن » بالتاء و «أنما » بفتح الألف ، وظاهر كلامه أنها تنصب ، قال وقد قرأ بها خلق كثير وساق عليها مثالاً قول الشاعر : [ الطويل ]
فما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ{[3732]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( الطويل )
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فكذلك يكون { إنما نملي } بدلاً من { الذين كفروا } كقوله تعالى :
{ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره }{[3733]} وقوله { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم }{[3734]} ويكون «خيراً » المفعول الثاني قال أبو علي : لم يقرأ هذه القراءة أحد ، وقد سألت أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد ، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة «خير » بالرفع ، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق ، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره : ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم ، فهذا كقوله تعالى : { واسأل القرية }{[3735]} وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن البادش{[3736]} : إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف المفعول لحسب ، إذ الكلام يدل عليه .
قال القاضي : والمسألة جائزة إذ المعنى لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم أو نحو هذا ومعنى هذه الآية : الرد على الكفار في قولهم : إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده ، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدارج ، ليكتسبوا الآثام ، وقال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله ، وقرأ { وما عند الله خير للأبرار } [ آل عمران : 198 ] وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً ، وقرأ هذه الآية{[3737]} ووصف العذاب بالمهين معناه : التخسيس لهم : فقد يعذب من لا يهان ، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوماً ما .
عطف على قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } [ آل عمران : 169 ] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين : إحداهما تلوح للناظر حالة ضرّ ، والأخرى تلوح حالة خير ، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين .
ويجوز كونه معطوفا على قوله : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ آل عمران : 176 ] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجباً لحزنه ، لأنهم لا يضرّون الله شيئاً ، ثم ألقى إليه خبراً لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين : أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثاماً ، ليكون أخذُهم بعد ذلك أشدّ . وقرأه الجمهور { ولا يَحسبنّ الذين كفروا } بياء الغيبة وفاعلُ الفعل ( الذين كفروا ) ، وقرأه حمزة وحده بتاء الخطاب .
فالخطاب إما للرسول عليه السلام وهو نهي عن حسبان لم يقع ، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلى الله عليه وسلم غير أنّه حسبان تعجّب ، لأنّ الرسول يعلم أنّ الإملاء ليس خيراً لهم ، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره ، ممّن يظنّ ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] ، أو المراد من الخطاب كلّ مخاطب يصلح لذلك .
وعلى قراءة الياء التحتية فالنهي مقصود به بلوغه إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم ، ويُمِرَّ عيشهم بهذا الوعيد ، لأنّ المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل والإملاء : الإمهال في الحياة ، والمراد به هنا تأخير حياتهم ، وعدمُ استئصالهم في الحرب ، حيث فرحوا بالنصر يوم أُحُد ، وبأنّ قتلى المسلمين بوم أحُد كانوا أكثر من قتلاهم .
ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر ، يقال : أملى لفرسه إذا أرخى له الطِّوَل في المرعى ، وهو مأخوذ من الملْو بالواو وهو سيرُ البعير الشديدُ ، ثم قالوا : أمليت للبعير والفرس إذا وسَّعت له في القيد لأنّه يتمكّن بذلك من الخَبَب والركض ، فشُبِّه فعله بشدّة السير ، وقالوا : أمليت لزيد في غيّه أى تركته : على وجه الاستعارة ، وأملى الله لفلان أخّر عقابه ، قال تعالى : { وأملي لهم إن كيدي متين } [ الأعراف : 183 ] واستعير التملّي لطول المدّة تشبيهاً للمعقول بالمحسوس فقالوا : ملأَّك الله حبيبَك تمليئة ، أي أطال عمرك معه .
وقوله : { أنما نملي لهم خير لأنفسهم } ( أَنّ ) أخت ( إنّ ) المكسورة الهمزة ، و ( ما ) موصولة وليست الزائدة ، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنّما المركبة من ( إن ) أخت ( أنّ ) و ( ما ) الزائدةِ الكافّةِ ، التي هي حرف حصر بمعنى ( مَا ) و ( إلاّ ) ، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطّرداً في الرسم القديم ، على هذا اجتمعت كلمات المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين .
وأنا أرى أنّه يجوز أن يكون ( أنّما ) من قوله : { أنما نملي خير لأنفسهم } هي أنّما أخت إنّما المكسورة وأنّها مركّبة من ( أنّ ) و ( ما ) الكافّة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحقّقين ، وأنّ المعنى : ولا يحسبنّ الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنّه خير لهم لأنّهم لمّا فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أنّ بقاءهم ما هو إلاّ خير لهم لأنّهم يحسبون القتل شرّاً لهم ، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث . فهو قصر حقيقي في ظنّهم .
ولهذا يكون رسمهم كلمة ( أنَّما ) المفتوحة الهمزة في المصحف جارياً على ما يقتضيه اصطلاح الرسم . و { أنّما نملي لهم خير لأنفسهم } هو بدل اشتمال من { الذين كفروا } ، فيكون سادّاً مسدّ المفعولين ، لأنّ المبدل منه صار كالمتروك ، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال ، ثمّ التفصيل ، لأنّ تعلّق الظنّ بالمفعول الأول يستدعي تشوّف السامع للجهة التي تعلَّق بها الظنّ ، وهي مدلول المفعول الثاني ، فإذا سمع ما يسدّ مسدّ المفعولين بعد ذلك تمكّن من نفسه فضْل تمكّن وزاد تقريراً .
وقوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء خيراً ، أي ما هو بخير لأنّهم يزدادون في تلك المدّة إثماً .
و ( إنما ) هذه كلمة مركّبة من ( إِنّ ) حرف التوكيد و ( ما ) الزائدة الكافّة وهي أداة حصر أي : ما نملي لهم إلاّ ليزدادوا إثماً ، أي فيكون أخذهم به أشدّ فهو قصر قلب .
ومعناه أنّه يملي لهم ويؤخّرهم وهم على كفرهم فيزدادون إثماً في تلك المدّة ، فيشتدّ عقابهم على ذلك ، وبذلك لا يكون الإملاء لهم خيراً لهم ، بل هو شرّ لهم .
واللام في { ليزدادوا إثماً } لام العاقبة كما هي في قوله تعالى : { ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] أي : إنما نملي لهم فيزدادون إثماً ، فلمّا كان ازدياد الإثم ناشئاً عن الإملاء ، كان كالعلّة له ، لا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملَى لهم علم أنّهم يزدادون به إثماً ، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلّة ، أمّا علّة الإملاء في الحقيقة ونفس الأمر فهي شيء آخر يعلمه الله ، وهو داخل في جملة حكمة خلق أسباب الضلال وأهله والشياطين والأشياء الضارّة . وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام ، وهي ممّا استأثر الله بعلم الحكمة في شأنه . وتعليلُ النهي على حسبان الإملاء لهم خيراً لأنفسهم حاصل ، لأنّ مداره على التلازم بين الإملاء لهم وبين ازديادهم من الإثم في مدّة الإملاء .