{ 10 - 11 } { وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }
أي : قال المكذبون بالبعث على وجه الاستبعاد : { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ } أي : بَلِينَا وتمزقنا ، وتفرقنا في المواضع التي لا تُعْلَمُ .
{ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : لمبعوثون بعثًا جديدًا بزعمهم أن هذا من أبعد الأشياء ، وذلك لقياسهم قدرة الخالق ، بقدرهم .
وكلامهم هذا ، ليس لطلب الحقيقة ، وإنما هو ظلم ، وعناد ، وكفر بلقاء ربهم وجحد ، ولهذا قال : { بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُون } فكلامهم علم{[680]} مصدره وغايته ، وإلا ، فلو كان قصدهم بيان الحق ، لَبَيَّنَ لهم من الأدلة القاطعة على ذلك ، ما يجعله مشاهداً للبصيرة ، بمنزلة الشمس للبصر .
ويكفيهم ، أنهم معهم علم أنهم قد ابتدئوا من العدم ، فالإعادة أسهل من الابتداء ، وكذلك الأرض الميتة ، ينزل اللّه عليها المطر ، فتحيا بعد موتها ، وينبت به متفرق بذورها .
ثم حكى - سبحانه - شبهات المشركين ورد عليها ، وصور أحوالها الليمة عندما تقبض الملائكة أرواحهم ، فقال - تعالى - : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا . . . بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } هذا قول منكرى البعث أى : هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا . وأصله من قول العرب : ضل الماء فى اللبن إذا ذهب ، والعرب تقول للشئ غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره : قد ضل . .
أى : وقال الكافرون على سبيل الإِنكار ليوم القيامة وما فيه من حساب أئذا صارت أجسادنا كالتراب واختلطت به ، أنعاد إلى الحياة مرة أخرى ، ونخلق خلقاً جديداً . .
وقوله - سبحانه - : { هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } إضراب وانتقال من حكاية كفرهم بالبعث والحساب إلى حكاية ما هو أشنع من ذلك وهو كفرهم بلقاء الله - تعالى - الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم . . أى : بل هم لانطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد والجهل عليهم ، بلقاء ربهم يوم القيامة ، كافرون جاحدون ، لأنهم قد استبعدوا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ، مع أن الله - تعالى - قد أوجدهم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً .
وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان ، وأطوار هذه النشأة العجيبة ، الخارقة لكل مألوف ، وإن كانت تتكرر في كل لحظة ، وتقع أمام الأنظار والأسماع . في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة ، وشكهم في البعث والنشور . فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة :
وقالوا : أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ? بل هم بلقاء ربهم كافرون . .
إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقا جديدا ، بعد موتهم ودفنهم ، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض ، ويختلط بذراتها ، ويضل فيها ، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى ? لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين . من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها . فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى ، وليس فيها غريب ولا جديد ! ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) . . ومن ثم يقولون ما يقولون . فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة ، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال المشركون بالله ، المكذّبون بالبعث : أئِذَا ضَلَلْنا في الأرْض أي صارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض وفيها لغتان : ضَلَلْنا ، وضَلِلْنا ، بفتح اللام وكسرها والقراءة على فتحها ، وهي الجوداء ، وبها نقرأ . وذكر عن الحسن أنه كان يقرأ : «أئِذَا صَلَلْنا » بالصاد ، بمعنى : أنتنا ، من قولهم : صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن . وإنما عنى هؤلاء المشركون بقولهم : أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أي إذا هلكت أجسادنا في الأرض ، لأن كلّ شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيما غلب ، فإنه قد ضلّ فيه ، تقول العرب : قد ضلّ الماء في اللبن : إذا غلب عليه حتى لا يتبين فيه ومنه قول الأخطل لجرير :
كُنْتَ القَذَى في مَوْج أكْدَرَ مُزْبدٍ *** قَذَفَ الأَتِيّ به فَضَلّ ضَلالاَ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ يقول : أئذا هلكنا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ هلكنا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد : قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ يقول : أئذا كنا عظاما ورفاتا أنبعث خلقا جديدا ؟ يكفرون بالبعث .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، وَقالُوا أئِذَا ضلَلْنا في الأرْض أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ قال : قالوا : أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ؟ .
وقوله : بَلْ هُمْ بِلِقاء رَبّهِمْ كافِرُونَ يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء ، بل هم بلقاء ربهم كافرون ، حذرا لعقابه ، وخوف مجازاته إياهم على معصيتهم إياه ، فهم من أجل ذلك يجحدون لقاء ربهم في المعاد .
{ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض } أي صرنا ترابا مخلوط بتراب الأرض لا نتميز منه ، أو غبنا فيها . وقرأ " ضللنا " بالكسر من ضل يضل و " ضللنا " من صل اللحم إذا أنتن ، وقرأ ابن عامر " إذا " على الخبر والعامل فيه ما دل عليه . { أئنا لفي خلق جديد } وهو : نبعث أو يجدد خلقنا . وقرأ نافع والكسائي ويعقوب " أنا " على الخبر ، والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به . { بل هم بلقاء ربهم } بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده . { كافرون } جاحدون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا أئذا ضللنا} هلكنا {في الأرض} وكنا ترابا.
{أئنا لفي خلق جديد} إنا لمبعوثون خلقا جديدا بعد الموت، يعنون البعث، ويعنون كما كنا تكذيبا بالبعث...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال المشركون بالله، المكذّبون بالبعث:"أئِذَا ضَلَلْنا في الأرْض" أي صارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض... وإنما عنى هؤلاء المشركون بقولهم: "أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ "أي: إذا هلكت أجسادنا في الأرض، لأن كلّ شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيما غلب، فإنه قد ضلّ فيه، تقول العرب: قد ضلّ الماء في اللبن: إذا غلب عليه حتى لا يتبين فيه... وقوله: "بَلْ هُمْ بِلِقاء رَبّهِمْ كافِرُونَ" يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء، بل هم بلقاء ربهم كافرون، حذرا لعقابه، وخوف مجازاته إياهم على معصيتهم إياه، فهم من أجل ذلك يجحدون لقاء ربهم في المعاد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد} هذا القول منهم يخرج على الاستفهام والسؤال: أإنا نبعث؟ ونخلق خلقا جديدا؟ وعلى الإيجاب والتحقيق: إنا نبعث، لا محالة، فلا يلحقهم بذلك لائمة ولا تعيير لو كان على الظاهر المخرج منهم. لكنهم إنما قالوا ذلك استهزاء وإنكارا للبعث.
لما قال: {قليلا ما تشكرون} بين عدم شكرهم بإتيانهم بضده وهو الكفر وإنكار قدرته على إحياء الموتى.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{بل هم بلقاء ربّهم كافرون} جاحدون. لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كافرون} أي منكرون للبعث عناداً، ساترون لما في طباعهم من أدلته، لما غلب عليهم من الهوى القائد لهم إلى أفعال منعهم من الرجوع عنها الكبرُ عن قبول الحق والأنفة من الإقرار بما يلزم منه نقص العقل.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَقَالُواْ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أباطيلِهم بطريق الالتفاتِ، وإيذاناً بأنَّ ما ذُكر من عدمِ شكرِهم بتلك النِّعمِ، موجبٌ للإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرِهم بطريقِ المباثةِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان، وأطوار هذه النشأة العجيبة، الخارقة لكل مألوف، وإن كانت تتكرر في كل لحظة، وتقع أمام الأنظار والأسماع. في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة، وشكهم في البعث والنشور. فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وختم هذا الربع بالإشارة إلى ما يستغربه منكرو البعث من أن يبعثوا بعد موتهم، وقد تحللت أجسامهم إلى تراب، واختلطت بتراب الأرض، حتى لم يعد من الممكن التمييز بين الاثنين، ناسين أن الله تعالى الذي خلق الإنسان عند نشأته الأولى من تراب، قادر على أن يبعثه عند نشأته الثانية أيضا من تراب