اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ} (10)

قوله تعالى : «أَئِذَا ضَلَلْنَا » تقدم خلاف القراء في الاستفهامين{[42785]} ، والواو للعطف على ما سبق فإنهم قالوا محمد ليس برسول ، والله ليس بواحد وقالوا : الحشر ليس بممكن ، فالعامل في «إذا » محل تقديره{[42786]} «نُبْعَثُ أو نَخْرُجُ » لِدَلاَلَةِ : «خَلْقِ جَدِيدٍ » عليه ولا يعمل فيه «خَلْقٍ جَدِيدٍ » ؛ لأن ما بعد «إنَّ » والاستفهام لا يعمل فيما قبلهما ، وجواب «إذاً » محذوف إذا جعلتها شرطية{[42787]} . وقرأ العامة «ضَلَلْنَا » بضاد معجمة ، ولام مفتوحة بمعنى ذَهَبْنَا{[42788]} ، وضِعْنَا من قولهم : ضَلَّ اللبنُ في الضرع وقيل : غُيِّبْنَا ، قال النابغة :

4063 - فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنِ جَلِيَّة *** وَغُودِرُ بالجُولاَنِ حَزمٌ وَنَائِلُ{[42789]}

والمضارع من هذا : يَضِل بكسر العين وهو كثير ، وقرأ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وابنُ مُحَيْصنٍ وأَبُو رَجَاءٍ : بكسر اللام{[42790]} وهي لغة العالية ، والمضارع من هذا يَضَلُّ بالفتح ، وقرأ علي وأبو حَيْ( وَة ){[42791]} «ضُلِّلْنَا » بضم الضاد وكسر اللام المشددة من «ضَلَّلَهُ » بالتشديد{[42792]} ، وقرأ عَلِيٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد : «صَلَلْنَا » بصاد مهملة ، ولام مفتوحة ، وعن الحسن أيضاً صَلِلْنَا بكسر اللام .

وهما لغتان{[42793]} ، يقال : صَلَّ اللحمُ بفتح الصاد وكسرها لمجيء الماضي مَفْتُوحَ العين ومَكْسُورَها ، ومعنى صَلَّ اللَّحْمُ أنْتَنَ وتَغيَّرتَ رَائِحَتُهُ ويقال أيضاً : أَصَلَّ بالألف قال :

4064 - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فِيهَا أنِيضُ *** أَصَلَّتْ فَهيَ تَحْتَ الكَشْحِ دَاءُ{[42794]}

وقال النحاس : لا يعرف في{[42795]} اللغة «صَلَلْنَا » ولكن يقال : صَلَّ اللَّحْمُ وأَصَلَّ ، وخَمَّ وأَخَمَّ وقد عَرَفَها غَيْرُ أَبِي جَعْفَر{[42796]} .

فصل :

قال في تكذيبهم بالرسالة : «أَمْ يَقُولُونَ » بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم بالحشر : «وَقَالُوا » بلفظ الماضي ؛ لأن تكذيبهم بالرسالة لم يكن قبل وجوده ، وإنما كان حال وجوده فقال : «يَقُولُونَ » يعني هم فيه . وأما إنكار الحشر فكان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال : «وَقَالُوا » وصرح بقولهم في الرسالة فقال : «أَمْ يَقُولُونَ » وفي الحشر فقال : { وقالوا أَئِذَا ضَلَلْنَا } ولم يصرح بقولهم في الوحدانية ؛ لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسالة وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في بعض الأحوال في قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] فلم يقل : قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر .

فإن قيل : إنه ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها ( وهو التنزيل الذي لا ريب{[42797]} فيه وذكر الوحدانية وذكر دليلها وهو ) خَلْقُ السماوات والأرض وخَلْقُ الإنسان من طين ، ولما ذكر إنكارهم الحشرَ لم يذكر الدليل ؟ .

فالجواب : أنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلق الإنسان ابتداءً دليل على قدرته على الإعادة ولهذا استدل ( تعالى ){[42798]} على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال : { ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] وقوله : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] وأيضاً خلق السماوات والأرض كما قال : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى } [ يس : 81 ] .

قوله : { إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } استفهام إنكاري أي إننا كائنونَ في خلق جديد أو واقعون فيه { بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب . أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله فإنهم كَرِهُوهُ فأنكروا المُفْضي إلَيْهِ ،


[42785]:يشير إلى الآية (5) من سورة الرعد وهي قوله: "أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد".
[42786]:انظر: مشكل إعراب القرآن 2/187.
[42787]:بخلاف لو كانت غير شرطية كالظرفية فتكون في موضع نصب "بضللنا" ويؤيد هذا قراءة "أئنا" على الإخبار. والمعنى: أنبعث إذا ضللنا في الأرض.
[42788]:غريب القرآن لابن قتيبة 346 والقرطبي 14/110.
[42789]:له من بحر الطويل وقبله: فإن تحي لا أملك حياتي وإن تمت *** فما في حياة بعد موتك طائل وهو يرثي بهما النعمان بن الحارث الغساني. والشاهد فيه كلمة: "مضلوه" أي دافنوه وهذه الكلمة تؤكد معنى ضللنا فعلى هذا الرأي وهو التغيب كما يغيّب المدفون في التراب. وانظر: ديوان النابغة 121 و 254 و"الجولان" موضع معروف بسوريا، وبعين جلية: أي بخبر صادق فالكرم والجود ذهبا بذهابه. انظر: القرطبي 14/91 واللسان: " ض ل ل" 2604 والكشاف 3/242 ورواية الكشاف: "وآب" بالواو.
[42790]:ذكرها ابن خالويه في مختصره 117، وانظر أيضاً إعراب القرآن للنحّاس 4/293 والبحر 7/200 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/205 ومعاني القرآن للفراء 2/321.
[42791]:تصحيح أبي حيوة فكانت في كلتا النسختين "حياة".
[42792]:مختصر ابن خالويه أيضاً وهي قراءة شاذة 117 وانظر أيضاً معاني الفراء 2/231 ومعاني الزجاج 4/205 وإعراب القرآن للنحاس 3/293 والمحتسب 2/174.
[42793]:انظر: إعراب القرآن للنحاس 4/293 ومعاني الفراء 2/231 ومعاني الزجاج 4/205.
[42794]:من تمام الوافر لزهير بن أبي سلمى، والشاهد فيه" أَصَلَّ" حيث جاء الفعل بهمزة وهو معنى الفعل الثلاثي "صَلَّ" فالمعنى واحد وهو التغير والتنتُّنُ. وانظر: اللسان مادة:" صَ.لَ.لَ" 2487 والمحتسب 2/174 وكامل المبرد 1/14 وديوانه 83، والأنيض مصدر لقولنا: أَنَضَ اللحمُ يأنِضُ إذا تغير.
[42795]:انظر: إعراب القرآن للنحاس 3/293.
[42796]:هذا كلام الشارح أي إنها عرفت لدى العلماء على خلاف زعم أبي جعفر النحاس ووجهة نظر النحاس أن السماع هو المعول عليه ولذلك قال: سمع صَلَلْنَا بالفتح، وانظر: الدر المصون 4/358 والبحر المحيط 7/200.
[42797]:ما بين القوسين ساقط من "ب".
[42798]:ساقط من "ب".