قوله تعالى : { قال } يعني إبليس : { أرأيتك } أي أخبرني ، والكاف لتأكيد المخاطبة ، { هذا الذي كرمت علي } أي : فضلته علي : { لئن أخرتن } أمهلتني { إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته } أي : لأستأصلنهم بالإضلال ، يقال احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله . وقيل : هو من قول العرب حنك الدابة يحنكها : إذا شد في حنكها الأسفل حبلاً يقودها ، أي : لأقودنهم كيف شئت . وقيل : لأستولين عليهم بالإغواء ، { إلا قليلاً } ، يعني المعصومين الذين استثناهم الله عز وجل في قوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر – 42 ] .
ثم فصل - سبحانه - ما قاله إبليس فى اعتراضه على السجود لآدم فقال : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } .
ورأى هنا علمية فتتعدى إلى مفعولين ، أولهما { هذا } والثانى محذوف لدلالة الصلة عليه ، والكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله ، والاسم الموصول { الذى } بدل من { هذا } أو صفة له ، والمراد من التكريم فى قوله { كرمت على } : التفضيل .
والمعنى : قال إبليس فى الرد على خالقه - عز وجل - : أخبرنى عن هذا الإِنسان المخلوق من الطين ، والذى فضلته على ، لماذا فضلته على وأمرتنى بالسجود له مع أننى أفضل منه ، لأنه مخلوق من طين ، وأنا مخلوق من نار ! !
وجملة هذا الذى كرمت على ، واقعة موقع المفعول الثانى .
ومقصود إبليس من هذا الاستفهام ، التهوين من شأن آدم - عليه السلام - والتقليل من منزلته . ولم يجبه - سبحانه - على سؤاله ، تحقيرًا له . وإهمالاً لشخصه ، بسبب اعتراضه على أمر خالقه - عز وجل - .
ثم أكد إبليس كلامه فقال : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } . إذ أن اللام فى قوله { لئن .
. . } موطئة للقسم ، وجوابه لأحتنكن .
وأصل الاحتناك : الاستيلاء على الشئ ؛ أو الاستئصال له . يقال : حنك فلان الدابة يحتنكها - بكسر النون ورفعها - إذا وضع فى حنكها - أى فى ذقنها - الرسن ليقودها به . ويقال : احتنك الجراد الأرض ، إذا أكل نباتها وأتى عليه .
والمعنى : قال إبليس - متوعدًا ومهددًا - : لئن أخرتن - يا إلهى - إلى يوم القيامة ، لأستولين على ذرية آدم ، ولأقودنهم إلى ما أشاء من المعاصى والشهوات ، إلا عدداً قليلاً منهم فإنى لا أستطيع ذلك بالنسبة لهم ، لقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم .
وهذا الذى ذكره - سبحانه - عن إبليس فى هذه الآية من قوله : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } شبيه به قوله - تعالى - : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } وقوله - تعالى - { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } قال بعض العلماء : وقول إبليس فى هذه الآية : { لأحتنكن ذريته . . . } قاله ظنا منه أنه سيقع . وقد تحقق له هذا الظن - فى كثير من بنى آدم - كما قال - تعالى { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين }
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية ، فيقول في تبجح :
( أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك ?
( لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) . . فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم .
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية ، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
وقوله : أرَأيْتَكَ هَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَليّ يقول تعالى ذكره : أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ ، فأمرتني بالسجود له ، ويعني بذلك آدم لئِنْ أخرتّنِ أقسم عدوّ الله ، فقال لربه : لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قَلِيلاً يقول : لأستولينّ عليهم ، ولأستأصلنهم ، ولأستميلنهم . يقال منه : احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك ، ومنه قول الشاعر :
نَشْكُو إلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ *** جَهْدا إلى جَهْدٍ بنا فأضْعَفَتْ
*** واحْتَنَكَتْ أمْوَالَنا وجَلّفَتْ ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قَلِيلاً قال : لأحتوينهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ . عن ابن عباس ، قوله لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قَلِيلاً يقول : لأستولينّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قليلاً قال : لأضلنهم . وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى ، لأن الاستيلاء والاحتواء بمعنى واحد ، وإذا استولى عليهم فقد أضلهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.