قوله تعالى : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا خلاد بن يحيى ، أنا عمر بن ذر قال : سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا فنزلت : { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا }الآية : قال : كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم " . وقال عكرمة ، و الضحاك ، و قتادة ، و مقاتل ، و الكلبي : " احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فقال :أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال له جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فأنزل الله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وأنزل : { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } " . { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } ، أي : له علم ما بين أيدينا . واختلفوا فيه : فقال سعيد بن جبير ، وقتادة ومقاتل : { ما بين أيدينا } : من أمر الآخرة والثواب والعقاب ، { وما خلفنا } : ما مضى من الدنيا . { وما بين ذلك } : ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل { ما بين أيدينا } : ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } أي : ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة . وقيل : { ما بين أيدينا } ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } : مدة حياتنا . وقيل : { ما بين أيدينا } : بعد أن نموت ، { وما خلفنا } : قبل أن نخلق ، { وما بين ذلك } : مدة الحياة . وقيل : { ما بين أيدينا } : الأرض إذا أردنا النزول إليها ، { وما خلفنا } : السماء إذا نزلنا منها ، { وما بين ذلك } : الهواء ، يريد : أن ذلك كله لله عز وجل ، فلا نقدر على شيء إلا بأمره . { وما كان ربك نسياً } ، أي : ناسياً ، يقول : ما نسيك ربك أي : ما تركك ، والناسي التارك .
{ 64 - 65 } { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }
استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة في نزوله إليه فقال له : " لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه ، وتوحشا لفراقه ، وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } أي : ليس لنا من الأمر شيء ، إن أمرنا ، ابتدرنا أمره ، ولم نعص له أمرا ، كما قال عنهم : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فنحن عبيد مأمورون ، { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة ، في الزمان والمكان ، فإذا تبين أن الأمر كله لله ، وأننا عبيد مدبرون ، فيبقى الأمر دائرا بين : " هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه ؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟ ولهذا قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } أي : لم يكن لينساك ويهملك ، كما قال تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } بل لم يزل معتنيا بأمورك ، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة ، وتدابيره الجميلة .
أي : فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد ، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك ، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك ، لما له من الحكمة فيه .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - : { وَمَا نَتَنَزَّلُ . . . } .
التنزل : النزول على مهل . فإنه مطاوع نزل - بالتشديد - ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج . وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقاً ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول .
والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف . وبذى القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قلاه - أى : أبغضه وكرهه - فلما نزل جبريل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة من غياب - قيل خمسة عشر يوماً وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله - تعالى - هذه الآية وسورة الضحى " .
وقال الآلوسى : " ولا يأبى ما تقدم فى سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخارى والترمذى ، والنسائى ، وجماعة ، فى سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ . . } لجواز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فى محاورته السابقة - أيضاً - ، واقتصر فى كل رواية على شىء مما وقع فى المحاورة . . . " .
والمعنى : قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتاً بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذى لا يعصى له أمراً . . .
{ لَهُ } - سبحانه - { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلية ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته .
فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله - تعالى - لكل شىء ، وقدرته على كل شىء وعلمه بكل شىء .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله - تعالى - وعلمه .
أى : وما كان ربك - أيها الرسول الكريم - ناسيا أو تاركاً لك أو مهملاً لشأنك ، ولكنه - سبحانه - محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قال ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد . . . عن أبى الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه هو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّاً } .
ذُكر أن هذه الاَية نزلت من أجل استبطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل بالوحي ، وقد ذكرت بعض الرواية ، ونذكر إن شاء الله باقي ما حضَرنا ذكره مما لم نذكر قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا عبد الله بن أبان العجلي ، وقبيصة ووكيع وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، جميعا عن عمر بن ذرّ ، قال : سمعت أبي يذكر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن محمدا قال لجبرائيل : «ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِمّا تَزُورُنا » فنزلت هذه الاَية : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأَمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال : هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، قال : حدثنا عمر بن ذرّ ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبرائيل : «ما يَمْنَعُكَ أن تَزَوُرَنا أكْثَرَ مِمّا تَزُورُنا ؟ فنزلت ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ » حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ . . . إلى ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال : احتبس جبرائيل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجِد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن ، فأتاه جبرائيل فقال : يا محمد ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لبث جبرائيل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكأن النبيّ استبطأه ، فلما أتاه قال له جبرائيل : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا قال : هذا قول جبرائيل ، احتبس جبرائيل في بعض الوحي ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «ما جِئْتَ حتى اشْتَقْتُ إلَيْكَ » فقال له جبرائيل : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ قال : قول الملائكة حين استراثهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كالتي في الضحى .
حدثنا القاسم ، قال حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : لبث جبرائيل عن محمد اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون : قُلي ، فلما جاءه قال : أيْ جَبْرائِيلُ لَقَدْ رِثْتَ عَليّ حتى لَقَدْ ظَنّ المُشْرِكُونَ كُلّ ظَنّ » فنزلت : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ احتبس عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى تكلم المشركون في ذلك ، واشتدّ ذلك على نبيّ الله ، فأتاه جبرائيل ، فقال : اشتدّ عليك احتباسنا عنك ، وتكلم في ذلك المشركون ، وإنما أنا عبد الله ورسوله ، إذا أمرني بأمر أطعته ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ يقول : بقول ربك . ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ فقال بعضهم : يعني بقوله ما بينَ أيْدِينا من الدنيا ، وبقوله : ومَا خَلْفَنا الاَخرة ومَا بينَ ذلكَ النفختين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع لَهُ ما بينَ أيْدِينا يعني الدنيا ومَا خَلْفَنا الاَخرة ومَا بينَ ذلكَ النفختين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال ما بينَ أيْدِينا من الدنيا ومَا خَلْفَنا من أمر الاَخرة ومَا بينَ ذلكَ ما بين النفختين .
وقال آخرون : ما بينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَلْفَنا الدنيا ومَا بينَ ذلكَ ما بين الدنيا والاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس بينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَلْفَنا من الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَهُ ما بينَ أيْدِينا من أمر الاَخرة ومَا خَلْفَنا من أمر الدنيا ومَا بينَ ذلكَ ما بين الدنيا والاَخرة ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة لَهُ ما بينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَلْفَنا من الدنيا وَما بينَ ذلكَ ما بين النفختين .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما بينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَلْفَنا من الدنيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ما بينَ أيْدِينا قال : ما مضى أمامنا من الدنيا وَما خَلْفَنا ما يكون بعدنا من الدنيا والاَخرة وَما بينَ ذلكَ قال : ما بين ما مضى أمامهم ، وبين ما يكون بعدهم .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يتأوّل ذلك له ما بينَ أيْدِينا قبل أن نخلق وَما خَلْفَنا بعد الفناء وَما بينَ ذلكَ حين كنا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : له ما بين أيدينا من أمر الاَخرة ، لأن ذلك لم يجيء وهو جاء ، فهو بين أيديهم ، فإن الأغلب في استعمال الناس إذا قالوا : هذا الأمر بين يديك ، أنهم يعنون به ما لم يجيء ، وأنه جاء ، فلذلك قلنا : ذلك أولى بالصواب . وما خلفنا من أمر الدنيا ، وذلك ما قد خلفوه فمضى ، فصار خلفهم بتخليفهم إياه ، وكذلك تقول العرب لما قد جاوزه المرء وخلفه هو خلفه ، ووراءه وما بين ذلك : ما بين ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الاَخرة ، لأن ذلك هو الذي بين ذينك الوقتين .
وإنما قلنا : ذلك أولى التأويلات به ، لأن ذلك هو الظاهر الأغلب ، وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه ، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له . فتأمل الكلام إذن : فلا تستبطئنا يا محمد في تخلفنا عنك ، فإنا لا نتنزّل من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا بالنزول إليها ، لله ما هو حادث من أمور الاَخرة التي لم تأت وهي آتية ، وما قد مضى فخلفناه من أمر الدنيا ، وما بين وقتنا هذا إلى قيام الساعة . بيده ذلك كله ، وهو مالكه ومصرّفه ، لا يملك ذلك غيره ، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا يقول : ولم يكن ربك ذا نسيان ، فيتأخر نزولي إليك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزُب عنه شيء في السماء ولا في الأرض فتبارك وتعالى ولكنه أعلم بما يدبر ويقضي في خلقه . جل ثناؤه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال : ما نسيك ربك .
قرأ الجمهور «وما نتنزل » بالنون كأن جبريل عن نفسه والملائكة ، وقرأ الأعرج وما «يتنزل » بالياء على أنه خبر من الله أن جبريل لا يتنزل ، قال هذا التأويل بعض المفسرين ، ويرده قوله { ما بين أيدينا } لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبراً من جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها . ورويت قراءة الأعرج بضم الياء ، وقرأ ابن مسعود «إلا بقول ربك » ، وقال ابن عباس وغيره : سبب هذه الآية ، أن النبي عليه السلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت اليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا »{[7992]} فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد والضحاك : سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف{[7993]} «غداً أخبركم » حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلى عليه وسلم ، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى ، فهي كالتي في الضحى{[7994]} ، وهذه الواو التي في قوله { وما نتنزل } هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم يكن معناهما واحداً . وحكى النقاش عن قوم أن قوله { وما نتنزل } متصل بقوله { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } [ مريم : 19 ] ، وهذا قول ضعيف ، وقوله { ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب ، واختلف المفسرون فيها ، فقال أبو العالية «ما بين الأيدي » في الدنيا بأسرها الى النفخة الأولى ، «وما خلف » الآخرة من وقت البعث { وما بين ذلك } ما بين النفختين . وقال ابن جريج «ما بين الأيدي » هو ما مر من الزمن قبل إيجاد من في الضمير ، «وما خلف » هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة { وما بين ذلك } هو مدة الحياة .
قال القاضي أبو محمد : والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكه وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان ، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له ، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب «ما بين الأيدي وما خلف » الأمكنة التي فيها تصرفهم ، والمراد ب { ما بين ذلك } هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك{[7995]} . وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه صحيحاً عنهما «ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا » وهذا مختل المعنى إلا على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة التوارة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله .
وقوله { وما كان ربك نسياً } أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح المشركين بذلك على التأويل الثاني و { نسياً } فعيل من النسيان والذهول عن الأمور ، وقالت فرقة { نسياً } هنا معناه تاركاً ، ع : وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان مطلقاً فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقاً ألا ترى قوله تعالى : { وتركهم في ظلمات }{[7996]} [ البقرة : 17 ] وقوله { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض }{[7997]} [ الكهف : 99 ] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله على الترك ، ولا حاجة لنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر . وقرأ ابن مسعود «وما بين ذلك وما نسيك ربك » وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا » ثم تلا هذه الآية{[7998]} .
موقع هذه الآية هنا غريب . فقال جمهور المفسرين : إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه السلام أبطأ أياماً عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل : " ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا " فنزلت : { ومَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية . أي إلى قوله { نَسِيَّاً } ، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس . وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا . ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها .
والمعنى : أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جواباً عنه ، فالنظم نظم القرآن بتقدير : وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك ، أي قل يا جبريل ، فكان هذا خطاباً لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً . فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب ، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا ، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن .
ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن .
والضمير لجبريل والملائكة ، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل ، قال تعالى : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] .
و { نتنزل } مرادف ننزّل ، وأصل التنزّل : تكلّف النزول ، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف . قال تعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها } [ القدر : 4 ] .
واللاّم في « له » للملك ، وهو ملك التصرف .
والمراد ب { مَا بَينَ أيْدِينَا } ما هو أمامنا ، وب { وَمَا خَلْفَنا : } ما هو وراءنا ، وب { ومَا بَينَ ذَلِكَ : } ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم ، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف . والمقصود استيعاب الجهات .
ولمّا كان ذلك مخبراً عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات ، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول ، مثل { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ، فيعمّ جميع الكائنات ، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي . ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال ، وقد فسر بها قوله { ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ } .
وجملة { ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جواباً للنبيء صلى الله عليه وسلم
و { نسِيّاً } : صيغة مبالغة من نَسيَ ، أي كثيرَ النسيان أو شديده .
والنسيان : الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها ، وقد فسروه هنا بتارك ، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان . وفسر بمعنى شديد النسيان ، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله ، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله : { وما ربّك بظلام للعبيد } [ فصّلت : 46 ] فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله ، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك ، فنحن لا نتنزل إلاّ بأمره . وهو لا يأمرنا بالتنزل إلاّ عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به .
وجوز أبو مسلم وصاحب « الكشاف » : أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالاً من قوله { من كان تقياً } [ مريم : 63 ] ، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلاّ بأمر ربّك الخ ، وهو تأويل حسن .
وعليه فكاف الخطاب في قوله { بأمر ربك } خطاب كلّ قائل لمخاطبه ، وهذا التجويز بناء على أنّ ما روي عن ابن عباس رأي له في تفسير الآية لا تتعيّن متابعته .
وعليه فجملة { ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } من قول الله تعالى لرسوله تذييلاً لما قبله ، أو هي من كلام أهل الجنّة ، أي وما كان ربّنا غافلاً عن إعطاء ما وعدنا به .