قوله تعالى : { فلما قضينا عليه الموت } أي : على سليمان . قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر . يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخل في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتاً فعلموا بموته . قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } وهي الأرضة التي { تأكل منسأته } يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : منسأته بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره . { فلما خر } أي : سقط على الأرض ، { تبينت الجن } أي : علمت الجن وأيقنت ، { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل عليهم . وذكر الأزهري : أن معناه ( تبينت الجن ) أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك . وقرأ يعقوب : تبينت بضم التاء وكسر الياء أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، وتبين لازم ومتعد . وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتداء في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ، عليه الصلاة والسلام ، كل بناء ، وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات ، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم ، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام ، واتَّكأ على عصاه ، وهي المنسأة ، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه .
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها ، حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم ، فلو علموا الغيب ، لعلموا موت سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه .
ثم ختم - سبحانه - النعم التى أنعم بها على داود وسليمان ، ببيان مشهد وفاة سليمان ، فقال : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } .
والمراد بدابة الأرضة : قيل هى الأَرَضَة التى تأكل الخشب وتتغذى به ، يقال : أرضتا لدابة الخشب أرضا - من باب ضرب - ، إذا أكلته . فإضافة الدابة إلى الأرض - بمعنى الأكل والقطع - من إضافة الشئ إلى فعله .
و { مِنسَأَتَهُ } أى : عصاه التى كان مستندا عليها . وسميت العصا بذلك لأنها تزجر بها الأغنام إذا جاوزت مرعاها . من نسأ البعير - كنع - إذا زجره وساقه ، أو إذا أخره ودفعه .
والمعنى : فلما حكنا على سليمان - عليه السلام - بالموت ، وأنفذناه فيه ، وأوقعناه عليه ، { مَا دَلَّهُمْ } أى : الجن الذين كانوا فى خدمته { على مَوْتِهِ } بعد أن مات وظل واقفا متكئا على عصاه { إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } .
أى : انهم لم يدركوا أنه مات ، واستمروا فى أعمالهم الشاقة التى كلفهم بها ، حتى جاءت الدابة التى تفعل الأرْضَ - أى الأكل والقطع - فأكلت شيئا من عصاه التى كان متكئا عليها ، فصقط واقعا عبد أن كان واقفا .
{ فَلَمَّا خَرَّ } أى : فلما سقط سليمان على الأرض { تَبَيَّنَتِ الجن } أى : ظهر لهم ظهورا جليا { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب } كما يزعم بعضهم .
{ مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين } أى : ما بقوا فى الأعمال الشاقة التى كلفهم بها سليمان .
وذلك أن الجن استمروا فيما كلفهم به سليمان من اعمال شاقة ، ولم يدركوا أنه قد مات ، حتى جاءت الأرضة فأكلت شيئا من عصاه ، فسقط على الأرض وهنا فقط علموا انه قد مات .
قال ابن كثير : يذكر - تعالى - فى هذه الآية كيفية موت سليمان - عليه السلام - وكيف عمَّى الله موته على الجان المسخرين له فى الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئا على عصاه ، وهى منسأته - مدة طويلة نحواً من سنة ، فلما أكلتها دابة الأرض ، - وهى الأرضة - ضعف وسقط إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة - تبينت الجن والإِنس أيضاً - أن الجن لا يعلمون الغيب ، كما كانوا يتوهمون ويواهمون الناس ذلك .
هذا هو النموذج الأول الذى ساقه الله - تعالى - للشاكرين ، متمثلا فى موقف داود وسليمان - عليهما السلام - مما أعطاهما - سبحانه - من نعم جزيله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
يقول تعالى ذكره : فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ يقول : لم يدلّ الجنّ على موت سليمان إلاّ دَابّةُ الأرْضِ وهي الأَرَضَة وقعت في عصاه ، التي كان متكئا عليها فأكلتها ، فذلك قول الله عزّ وجلّ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى وعليّ ، قالا : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ يقول : الأَرَضَة تأكل عصاه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ دَابّةُ الأرْضِ قال : الأَرَضَة تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد تأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، في قوله : تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ أكلت عصاه حتى خرّ .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : المنسأة : العصا بلسان الحبشة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المنسأة : العصا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِنْسأتَهُ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة : «مِنْساتَهُ » غير مهموزة وزعم من اعتلّ لقارىء ذلك كذلك من أهل البصرة أن المنِساة : العصا ، وأن أصلها من نسأت بها الغنم ، قال : وهي من الهمز الذي تركته العرب ، كما تركوا همز النبيّ والبرية والخابية ، وأنشد لترك الهمز في ذلك بيتا لبعض الشعراء :
إذَا دَبَبتَ عَلى المِنساةِ مِنْ هَرَمٍ *** فَقَدْ تَباعَدَ عَنْكَ اللّهْوُ والغَزَلُ
وذكر الفراء عن أبي جعفر الرّوَاسِيّ ، أنه سأل عنها أبا عمرو ، فقال : «مِنْساتَهُ » بغير همز .
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : مِنْسأتَهُ بالهمز ، وكأنهم وجهوا ذلك إلى أنها مِفْعَلة ، من نسأت البعير : إذا زجرته ليزداد سيره ، كما يقال : نسأت اللبن : إذا صببت عليه الماء ، وهو النّسيء . وكما يقال : نسأ الله في أجلك أي أدام الله في أيام حياتك .
قال أبو جعفر : وهما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وأن كنت أختار الهمز فيها لأنه الأصل .
وقوله : فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ يقول عزّ وجلّ : فلما خرّ سليمان ساقطا بانكسار منسأته تبيّنت الجنّ أنْ لو كانوا يعلمون الغَيْبَ الذي يدّعون علمه ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ المذلّ حولاً كاملاً بعد موت سليمان ، وهم يحسبون أن سليمان حيّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «كانَ سُلَيْمانُ نَبِيّ اللّهِ إذَا صَلّى رأَى شَجَرَةً نابِتَةً بينَ يَدَيْهِ ، فَيَقُولُ لَهَا : ما اسمُكِ ؟ فَتَقُولُ : كَذَا ، فَيَقُولُ : لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ ؟ فإنْ كانَتْ تُغْرَسُ غُرِسَتْ ، وَإنْ كانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ ، فَبَيْنَما هُوَ يُصَلّي ذَاتَ يَوْمٍ ، إذْ رأى شَجَرَةً بينَ يَدَيْهِ ، فَقالَ لَهَا : ما اسمُكِ ؟ قالَتْ : الخَرّوب ، قالَ : لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ ؟ قالَتْ : لخَرَابِ هَذَا البَيْتِ ، فَقالَ سُلَيْمانُ : اللّهُمّ عَمّ على الجِنّ مَوْتِي حتى يَعْلَمَ الإنْسُ أنّ الجِنّ لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ، فَنَحَتَها عَصا فَتَوَكّأَعَلَيْها حَوْلاً مَيّتا ، والجِنّ تَعْمَلُ ، فأكَلَتْها الأرَضَةُ ، فَسَقَطَ ، فَتَبَيّنَتِ الإنْسُ أنّ الجِنّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا حَوْلاً فِي العَذَابِ المُهِينِ » قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك ، قال : فشكرت الجنّ للأرضة ، فكانت تأتيها بالماء .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمْدانيّ ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان سليمان يتجرّد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقلّ من ذلك وأكثر ، يَدْخل طعامه وشرابه ، فدخله في المرّة التي مات فيها ، وذلك أنه لم يكن يوم يُصبح فيه ، إلا تنبت فيه شجرة ، فيسألها ما اسمك ، فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها : لأيّ شيء نبتّ ؟ فتقول : نبتّ لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت نبتت لدواء ، قالت : نبتّ دواء لكذا وكذا ، فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها الخرّوبة ، فسألها : ما اسمك ؟ فقالت له : أنا الخرّوبة ، فقال : لأيّ شيء نبتّ ؟ قالت : لخراب هذا المسجد قال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب ، فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولا تعلم به الشياطين في ذلك ، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كُوًى بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جَلدا إن دخلتُ ، فخرجتُ من الجانب الاَخر فدخل شيطان من أولئك فمرّ ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق ، فمرّ ولم يسمع صوت سليمان عليه السلام ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق ، ونظر إلى سليمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته ، وهي العصا بلسان الحبشة ، قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة . وهي في قراءة ابن مسعود : «فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً » فأيقن الناس عند ذلك أن الجنّ كانوا يكذِبونهم ، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي العَذابِ المُهِينِ يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذِبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين ، فالذي يكون في جوف الخشب ، فهو ما تأتيها به الشياطين شكرا لها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الجنّ تخبر الإنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ، فابتلوا بموت سليمان ، فمات ، فلبث سنة على عصاه وهم لا يشعرون بموته ، وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبين فَلَمّا تَبَيّنَتِ الْجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ ولقد لبثوا يدأبون ، ويعملون له حولاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : قال سليمان لملك الموت : يا ملك الموت ، إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني قال : فأتاه فقال : يا سليمان ، قد أُمرت بك ، قد بقيت لك سُويعة ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ، ليس له باب ، فقام يصلي ، واتكأ على عصاه قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت ، قال : والجنّ تعمل بين يديه ، وينظرون إليه ، يحسبون أنه حيّ ، قال : فبعث الله دابة الأرض ، قال : دابة تأكل العِيدان يقال لها القادح ، فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ، ضعفت وثقل عليها ، فخرّ ميتا ، قال : فلما رأت الجنّ ذلك ، انفضوا وذهبوا ، قال : فذلك قوله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : والمنسأة : العصا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، قال : كان سليمان بن داود يصلي ، فمات وهو قائم يصلي والجنّ يعملون لا يعلمون بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه ، فخرّ ، و«أن » في قوله : أن لَوْ كانُوا في موضع رفع بتبين ، لأن معنى الكلام : فلما خرّ تبين وانكشف ، أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ، ما لبثوا في العذاب المهين .
وأما على التأويل الذي تأوّله ابن عباس من أن معناه : تبينت الإنس الجنّ ، فإنه ينبغي أن يكون في موضع نصب بتكريرها على الجنّ ، وكذلك يجب على هذه القراءة أن تكون الجنّ منصوبة ، غير أني لا أعلم أحدا من قرّاء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الجنّ ، ولو نصب كان في قوله تَبَيّنَت ضمير من ذكر الإنس .
{ فلما قضينا عليه الموت } أي على سليمان . { ما دلهم على موته } ما دل الجن وقيل آله { إلا دابة الأرض } أي الأرضة أضيفت إلى فعلها ، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال : أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا { تأكل منسأته } عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا على غير قياس إذ القياس إخراجها بين ، و { منساءته } على مفعالة كميضاءة في ميضاة و { منسأته } أي طرف عصاه مستعار من سأة القوس ، وفيه لغتان كما في قحة وقحة ، وقرأ نافع وأبو عمرو " منساته " بألف بدلا من الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة وحمزة إذا وقف جعلها بين بين . { فلما خر تبينت الجن } علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم . { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا حولا في تسخيره إلى أن خرّ ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب . وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه ، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به ، أراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها ، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخر ثم فتحوا عنه أرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجوده قد مات منذ سنة ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة ، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .
تفريع على قوله : { ومن الجن من يعمل بين يديه } إلى قوله : { وقدور راسيات } [ سبأ : 12 ، 13 ] أي دام عملهم له حتى مات { فلما قضينا عليه الموت } إلى آخره . ولا شك أن ذلك لم يطل وقتُه لأن مثله في عظمةِ ملكه لا بد أن يفتقده أتباعُه ، فجملة { ما دلهم على موته } الخ جواب « لمَّا قضينا عليه الموت » .
وضمير { دلهم } يعود إلى معلوم من المقام ، أي أهلَ بَلاطه .
والدلالة : الإِشْعار بأمر خفيّ . وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل } [ سبأ : 7 ] .
و { دابة الأرض } هي الأَرَضَة ( بفتحات ثلاث ) وهي السُّرْفة بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء لا محالة وهاء تأنيث : سوس ينخر الخشب . فالمراد من الأرض مصدرُ أَرَضَت السُّرفَة الخَشَبَ من باب ضَرب ، وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيراً من السُرْف فتعَجَّل لها النخر .
وجملة { فلما خر } مفرعة على جملة { ما دلهم على موته } . وجملة { تبينت الجن } جواب « لمّا خرّ » . والمِنساة بكسر الميم وفتحها وبهمزة بعد السين ، وتخفَّفُ الهمزة فتصير ألفاً هي العَصا العظيمة ، قيل : هي كلمة من لغة الحبشة .
وقرأ نافع وأبو عَمرو بألف بعد السين . وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وهشام عن ابن عامر بهمزة مفتوحة بعد السين . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة بعد السين تخفيفاً وهو تخفيف نادر .
وقرأ الجمهور : { تبينت الجن } بفتح الفوقية والموحدة والتحتية . وقرأه رُويس عن يعقوب بضم الفوقية والموحدة وكسر التحتية بالبناء للمفعول ، أي تبين الناس الجنّ . و { أن لو كانوا يعلمون } بدل اشتمال من الجن على كلتا القراءتين .
وقوله : { تبينت الجن } إسنادُ مُبهم فصَّله قوله : { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } ف { أَن } مصدرية والمصدر المنسبك منها بدل من { الجن } بدلَ اشتمال ، أي تبينت الجنُّ للناس ، أي تبين أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، أي تبين عدم علمهم الغيب ، ودليل المحذوف هو جملة الشرط والجواب .
و { العذاب المهين } : المذل ، أي المؤلم المتعب فإنهم لو علموا الغيب لكان علمهم بالحاصل أزَليًّا ، وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذٍ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب فلذلك كان المشركون يستعلِمون المغيبات من الكهان ، ويزعمون أن لكل كاهن جِنِّيًّا يأتيه بأخبار الغيب ، ويسمونه رَئيًّا إذ لو كانوا يعلمون الغيب لكان أن يعلموا وفاة سليمان أهونَ عليهم .