32- ولا يتطلع الرجال إلى ما مَيَّز الله به النساء ، ولا النساء إلى ما ميز الله به الرجال ، فإن لكل فريق حظاً ملائماً لما طبع عليه من العمل وما أضيف إليه من الحقوق ، فليتجه كل إلى رجاء الاستزادة من فضل الله بتنمية مواهبه والاستعانة على ما نيط به . إن الله كان عالماً أتم العلم بكل شيء ، وقد أعطى كل نوع ما يصلح له .
قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } الآية . قال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، إن الرجال يغزون ولا نغزو ، ولهم ضعف ما لنا من الميراث ، فلو كنا رجالاً غزونا كما غزوا ، وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا . فنزلت هذه الآية .
وقيل : لما جعل الله عز وجل للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث ، قالت النساء : نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال ، لأنا ضعيفات وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منا ، فأنزل الله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } . وقال قتادة والسدي : لما أنزل قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، قال الرجل إنا لنرجو أن نفضل على السناء بحسناتنا في الآخرة ، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث .
قوله تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } من الأجر .
قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما اكتسبن } . معناه : أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء ، وذلك أن الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي فيها الرجال ، والنساء ، وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء . وقيل معناه : ( للرجال نصيب مما اكتسبوا ) من أمر الجهاد ( وللنساء نصيب مما اكتسبن ) من طاعة الأزواج ، وحفظ الفروج . قوله تعالى : { واسألوا الله من فضله } ، قرأ ابن كثير والكسائي : ( وسلوا ، وسل ، وفسل ) إذا كان قبل السين واو ، أو فاء بغير همز ، ونقل حركة الهمزة إلى السين ، والباقون بسكون السين مهموزاً ، فنهى الله تعالى عن التمني لما فيه من دواعي الحسد ، والحسد : أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبه ، سواء تمناها لنفسه أم لا ، وهو حرام والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز . قال الكلبي : لا يتمنى الرجل مال أخيه ، ولا امرأته ، ولا خادمه ، ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله ، وهو كذلك في التوراة وذلك في القرآن . قوله : { واسألوا الله من فضله } قال ابن عباس : ( واسألوا الله من فضله ) أي : من رزقه ، وقال سعيد بن جبير : من عبادته ، فهو سؤال التوفيق للعبادة . قال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي . { إن الله كان بكل شيء عليماً } .
{ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة . فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء ، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه ، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها . ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب . وإنما المحمود أمران : أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية ، ويسأل الله تعالى من فضله ، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه . ولهذا قال تعالى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا } أي : من أعمالهم المنتجة للمطلوب . { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه . { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } أي : من جميع مصالحكم في الدين والدنيا . فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل ، أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه ، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } فيعطي من يعلمه أهلا لذلك ، ويمنع من يعلمه غير مستحق .
ثم نهى - سبحانه - عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه مما يجرى فيه التنافس ، وبين - سبحانه - أنه قد جعل لكم إنسان حقا معينا فيما تركه الوالدان والأقربون فقال - تعالى - : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ . . . شَهِيداً } .
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 32 ) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 33 )
روى المفسرون فى سبب نزول الآية الأولى روايات منها ما رواه الإِمام أحمد والترمذى عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } .
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ، فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال . وقال الرجال : إنا لنرجوا أن نفضل على النساء بحسناتنا فى الآخرة كما فضلنا عليهن فى الميراث فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } .
والتمنى المنهى عنه هنا : هو الذى يتضمن معنى الطمع فيما فى يد الغير ، والحسد له على ما أعطاه الله من مال أو جاه أو غير ذلك مما يجرى فيه التنافس بين الناس وذلك لأن التمنى بهذه الصورة يؤدى إلى شقاء النفس ، وفساد الخلق والدين ، ولأنه أشبه ما يكون بالاعتراض على قسمة الخالق العليم الخبير بأحوال خلقه وبشئون عباده .
ولا يدخل فى التمنى المنهى عنه ما يسميه العلماء بالغبطة ، وهى أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما عند غيره من خير دون أن ينقص شئ مما عند ذلك الغير .
قال صاحب الكشاف : قوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ } نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال ، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ، وبما يصلح المقسوم له من بسط فى الرزق أو قبض { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم الله به ، علماً بأن ما قسم له هو مصلحته ، ولو كان خلافه لكان مفسدة له ، ولا يحسد أخاه على حظه .
وقوله - تعالى - { بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } تعليل للنهى السابق . أى لكل من فريقى الرجال والنساء حظ مقدر مما اكتسبوه من أعمال ، ونصيب معين فيما ورثوه أو أصابوه من أموال ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يليق بعاقل أن يتمنى خلاف ما قسم الله له من رزق ، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له . فالله - تعالى - هو الذى قدر أرزاق الرجال والنساء على حسب ما تقتضيه حكمته وعلمه ، وهو الذى كلف كل فريق منهم بواجبات وأعمال تليق باستعداده وتكوينه .
وقوله { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } عطف على النهى . فكأنه قيل : لا تتمنوا ولا تتطلعوا إلى ما فى أيدى غيركم ، ولا تحسدوه على ما رزقه الله ، بل اجعلوا تجاهكم إلى الله وحده ، والتمسوا منه ما تشاءوه من نعمه الجليلة ، ومن حظوظ الدنيا والآخرة ، فهو القائل
{ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم } وحذف المفعول من الجملة الكريمة لإِفادة العموم . أى : واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد ، وإنعامه المتكاثر حتى تطمئن نفوسكم ، ويبتعد عنها الطمع والقلق والألم .
قال ابن كثير : قوله { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } أى لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض ؛ فإن التمنى لا يجدى شيئاً ، ولكن سلونى من فضلى أعطكم فإنى كريم وهاب . روى أبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أحب عباد الله إلى الله للذى يحب الفرج " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أى إن الله - تعالى - كان وما زال عليما بكل شئ من شئون هذا الكون ، وقد وزع - سبحانه - أرزاقه ومواهبه على عباده بمقتضى علمه وحكمته ، فجعل فيهم الغنى والفقير ، فيحتاج بعضهم إلى بعض ، وليتبادلوا المنافع التى لا غنى لهم عنها ، وكلف كل فريق منهم بما يتناسب مع تكونيه واستعداده { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }
القول في تأويل قوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبوُا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا تتشهّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ، وذكر أن ذلك نزل في نساء تَمَنِّين منازل الرجال ، وأن يكون لهم ما لهم ، فنهى الله عباده عن الأمانيّ الباطلة ، وأمرهم أن يسألوه من فضله إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد ، والغي بغير الحقّ .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله لا نعطى الميراث ، ولا نغزو في سبيل الله فنقتل ، فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض } .
حدثناأبو كريب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله : تغزو الرجال ، ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبوُا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } ، ونزلت : { إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } يقول : لا يتمنى الرجل يقول : ليت أن لي مال فلان وأهله ، فنهى الله سبحانه عن ذلك ، ولكن ليسأل الله من فضله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال : قول النساء : ليتنا رجال فنغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قول النساء يتمنين ، ليتنا رجال فنغزو ، ثم ذكر مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عُيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : أيْ رسولَ الله ، أتغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن شيخ من أهل مكة ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال : كان النساء يقلن : ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال ، ونغزو في سبيل الله ! فقال الله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : تتمنى مال فلان ومال فلان ، وما يدريك لعلّ هلاكه في ذلك المال .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا : نزلت في أمّ سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة .
وبه قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : هو الإنسان يقول : وددت أن لي مال فلان ! قال : واسألوا الله من فضله ، وقول النساء : ليتنا رجال فنغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يتمنّ بعضكم ما خصّ الله بعضاً من منازل الفضل . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان ، فنريد أن يكون لنا في الأجر أجران ، وقال النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل الرجال ، فأنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا .
فأنزل الله تعالى الآية ، وقال لهم : سلوا الله من فضله ، يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : نهيتم عن الأمانيّ ، ودُللتم على ما هو خير منه ، واسألوا الله من فضله .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عارم ، قال : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا ، قال : قد نهاكم الله عن هذا ، { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } ودلكم على خير منه ، واسألوا الله من فضله .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على هذا التأويل : ولا تتمنوا أيها الرجال والنساء الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ، ودرجات الخير وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب ، ولكن سلو الله من فضله .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وللنساء نصيب من ذلك مثل ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئاً ولا الصبيّ شيئاً ، وإنما يجعلون الميراث لمن يحترف وينفع ويدفع ، فلما لحق للمرأة نصيبها وللصبيّ نصيبه ، وجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، قال النساء : لو كان جعل أنصباءنا في الميراث كأنصباء الرجال ! وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة ، كما فضلنا عليهنّ في الميراث ! فأنزل الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } ، يقول : المرأة تجزى بحسنتها عشر أمثالها كما يجزي الرجل ، قال الله تعالى : { وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنى أبو ليلى ، قال : سمعت أبا جرير يقول : لما نزل : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ } قالت النساء : كذلك عليهم نصيبان من الذنوب ، كما لهم نصيبان من الميراث ! فأنزل الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } يعني الذنوب ، واسألوا الله يا معشر النساء من فضله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم ، وللنساء نصيب منهم .
ذكر من قال ذلك : حدثنا المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } يعني : ما ترك الوالدان والأقربون ، يقول :
{ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأُنْثَيَيْنِ }
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة أو غيره ، في قوله : { بَعْضٍ لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } قال : في الميراث كانوا لا يورّثون النساء .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال معناه : للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا ، فعملوه من خير أو شرّ ، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال .
وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال تأويله : للرجال نصيب من الميراث ، وللنساء نصيب منه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن لكلّ فريق من الرجال والنساء نصيباً مما اكتسب ، وليس الميراث مما اكتسبه الوارث ، وإنما هو مال أورثه الله عن ميته بغير اكتساب ، وإنما الكسب العمل ، والمكتسب : المحترف ، فغير جائز أن يكون معنى الآية ، وقد قال الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } للرجال نصيب مما ورثوا ، وللنساء نصيب مما ورثن ؛ لأن ذلك لو كان كذلك لقيل : للرجال نصيب مما لم يكتسبوا ، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } . يعني بذلك جلّ ثناؤه : واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته ، ففضله في هذا الموضع : توفيقه ومعونته . كما : حدثنا محمد بن مسلم الرازي ، قال : ثنا أبو جعفر النفيلي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن سعيد : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } قال : العبادة ليست من أمر الدنيا .
حدثنا محمد بن مسلم ، قال : ثنى أبو جعفر ، قال : ثنا موسى ، عن ليث ، قال : فضله العبادة ليس من أمر الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هشام ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : { وَاسْئَلُواْ مِن فَضْلِهِ } قال : ليس بعرض الدنيا . حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل لم يسمه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أنْ يُسألَ ، وإنَّ مِنْ أفْضَلِ العِبادَةِ انْتِظارَالفَرَج "
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله كان بما يصلح عباده فيما قسم لهم من خير ، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا ، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم { عَلِيماً } يقول : ذا علم ، ولا تتنموا غير الذي قضى لكم ، ولكن عليكم بطاعته والتسليم لأمره ، والرضا بقضائه ومسئلته من فضله .
{ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } من الأمور الدنيوية كالجاه والمال ، فلعل عدمه خير والمقتضي للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي ، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له ، وأنه تشه لحصول الشيء له من غير طلب وهو مذموم ، لأن تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر ، وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال . { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } بيان لذلك أي لكل من الرجال والنساء فضل ونصيب بسبب ما اكتسب ومن أجله ، فاطلبوا الفضل من الله تعالى بالعمل لا بالحسد ، والتمني كما قال عليه الصلاة والسلام " ليس الإيمان بالتمني " . وقيل المراد نصيب الميراث وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه ، وجعل ما قسم لكل منهم على حسب ما عرف من حاله الموجبة للزيادة والنقص كالمكتسب له . { وأسالوا الله من فضله } أي لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله مثله من خزائنه التي لا تنفذ . وهو يدل على أن المنهي عنه هو الحسد ، أو لا تتمنوا واسألوا الله من فضله بما يقربه ويسوقه إليكم . وقرأ ابن كثير والكسائي { واسلوا الله من فضله } وسلهم فسل الذين وشبهه إذا كان أمرا مواجها به ، وقبل السين واو أو فاء بغير همز وحمزة في الوقف على أصله والباقون بالهمز . { إن الله كان بكل شيء عليما } فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان .
سبب الآية أن النساء قلن : ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو ، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أونحوه{[3988]} ، وقال الرجال : ليت لنا في الآخرة حظاً زائداً على النساء ، كما لنا عليهن في الدنيا ، فنزلت الآية .
قال القاضي أبو محمد : لأن في تمنيهم هذا تحكماً على الشريعة ، و تطرقاً إلى الدفع في صدر حكم الله ، فهذا نهي عن كل تمنٍّ لخلاف حكم شرعي ، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا ، على أن يذهب ما عند الآخر ، إذ هذا هو الحسد بعينه ، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنَّ زوال حاله ، وهذا في نعم الدنيا ، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن ، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز ، وذلك موجود في حديث النبي عليه السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل »{[3989]} وفي غير موضع ، ولقوله تعالى : { واسألوا الله من فضله } .
وقوله تعالى : { للرجال نصيب } الآية قال قتادة : معناه من الميراث ، لأن العرب كانت لا تورث النساء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف ولفظة الاكتساب ترد عليه رداً بيناً ، ولكنه يتركب على قول النساء : ليتنا ساوينا الرجال في الميراث ، فكأنه قيل بسببهن : لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه ، وقالت فرقة : معناه من الأجر والحسنات ، فكأنه قيل للناس : لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به ، لاختيار ترونه أنتم ، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيباً من الأجر والفضل ، بحسب اكتسابه فيما شرع له .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول الواضح البيِّن الأعم ، وقالت فرقة : معناه : لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله ، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به ، فهي نصيبه ، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال ، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت اللنساء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كقول الذي قبله ، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال ، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل ، وتنبيه على كسب الخير ، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا » بالهمز وسكون السين ، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا » ألقيا حركة الهمزة على السين ، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله { واسألوا ما أنفقتم }{[3990]} فإنهم أجمعوا على الهمز فيه ، قال سعيد بن جبير ، وليث بن أبي سليم : هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا ، وقال الجمهور : ذلك على العموم ، وهو الذي يقتضيه اللفظ{[3991]} ، وقوله : { واسألوا } يقتضي مفعولاً ثانياً ، فهو عند بعض النحويين في قوله : { من فضله } التقدير واسألوا الله فضله ، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من » في الواجب ، والمفعول عنده مضمر ، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيراً أو حظاً من فضله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الأصح ، ويحسن عندي أن يقدر المفعول - أمانيكم ، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير ، وقوله : { بكل شيء عليماً } معناه : أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام ، فلا تعارضوا بتمن ولا غيره ، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء ، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء ، والآية لا تناقض ذلك ، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض .