هذه السورة مكية ، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية : قص اله فيها قصة يوسف في ثمان وتسعين آية ، وقد لها بثلاث آيات ذكر فيها هذا الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، فسماه في الآية الأولى كتابا مبينا ، وفي الثانية قرآنا عربيا : إشارة إلى أن من حقه أن يحفظ في السطور والصدور معا . ثم ذكر في الآية الثالثة ما اشتمل عليه من أحسن القصص ، وذكر النبي بأنه لم يكن يعلمه قبل تنزل الوحي به عليه ، وذلك دليل على أنه من عند الله .
وقد ختمت القصة والسورة بتأكيد ما بدئت به ، فوجه الله نظر نبيه في عشر آيات إلى أن هذه القصة من أنباء الغيب ، لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلمها ويعلم حقائقها ودقائقها ، قبل أن ينزل عليه الوحي بها ، ولم يكن عند إخوة يوسف حين أجمعوا أمرهم ودبروا الشر لأخيهم من أبيهم ، ثم أخبره بأن العناد والحسد يحمل أكثر الناس على الكفر ، وإن حرصه عليه السلام على إيمان أكثرهم لا يجديه . وعزاه عن ذلك بأنه لا يطلب أجرا ، وإنما يحمل إليهم القرآن هدى وذكرى للناس أجمعين . وأشار في ختام السورة إلى الرسل الذين ذكر له قصصهم ومواقف أقوامهم منهم ، وانتصارهم في النهاية على الكافرين المجرمين ، وأكد أن في قصص هؤلاء الأنبياء عبرا لأصحاب العقول ، وأن هذا القرآن الذي تحدث بهذه القصص وغيرها ما كان حديثا يختلق وينسب إلى الله كذبا . وإنما هو الحق والصدق ، والكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية ، والهدى والرحمة لقوم يفكرون ويعتبرون ويؤمنون .
وأظهر خصائص هذه السورة أنها ذكرت قصة يوسف بتمامها ، وأظهرت شيوع الحسد في الأسرة إذ ظهرت المحبة لبعضهم ، فكان حسد أولاد يعقوب لأخيهم قد حملهم على إلقائه في غيابة الجب ، ولكن الله حفظه من مكرهم . كما حفظه من إغراء امرأة العزيز حين بلغ أشده في بيت العزيز ، ومكن له أرض مصر ، وجعله ملاذ الذين ائتمروا به . . . وكذلك شأنه سبحانه مع أنبيائه وأوليائه ينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض ، ما تمسكوا بالحق ، وآمنوا به ، واعتصموا بحبله .
1- ألف . لام . راء . تلك الحروف وأمثالها يتكون منها كلامكم - أيها العرب - هي التي تتكون منها آيات الكتاب المعجز بكل ما فيه . الواضح الموضح لمن يسترشد به ، ويستهديه . وفي هذه الحروف الصوتية تنبيه لهم ، فيستمعوا ولو اتفقوا على عدم السماع .
{ 1 - 3 ْ } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ْ }
يخبر تعالى أن آيات القرآن هي { آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ْ } أي : البين الواضحة ألفاظه ومعانيه .
تعريف بسورة يوسف –عليه السلام-
1- سورة يوسف –عليه السلام- هي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود . .
أما ترتيبها في النزول ، فكانت السورة الثالثة والخمسين ، وكان نزولها بعد سورة هود –عليه السلام- .
وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية .
وجه تسميتها بهذا الاسم ظاهر ، لأنها مشتملة على قصته –عليه السلام- مع إخوته ، ومع امرأة العزيز ، ومع ملك مصر في ذلك الوقت . .
ولم يذكر اسم يوسف –عليه السلام- في غير هذه السورة سوى مرتين : إحداهما في سورة الأنعام في قوله –تعالى- [ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ، ونوحا هدينا من قبل ، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون . . . ] الآية 84 .
والثانية في سورة غافر في قوله –تعالى- [ ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات . . . ] الآية 34 .
والقول الصحيح أن سورة يوسف جميعها مكية ، ولا التفات إلى قول من قال بأن فيها آيات مدنية ، لأن هذا القول لا دليل عليه .
قال الآلوسي : سورة يوسف مكية كلها على المعتمد ، وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : هي مكية إلا ثلاث آيات من أولها . واستثنى بعضهم رابعة وهي قوله –تعالى- : [ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ] .
2- وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه ، وما اعتمدناه –كغيرنا- من أنها كلها مكية – هو الثابت عن الحبر أي عن ابن عباس " ( {[1]} ) .
3- وقد ورد في سبب نزولها روايات متعددة ، منها ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه على أصحابه زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا فنزلت سورة يوسف . . . " ( {[2]} ) .
4- طبيعة الفترة التي نزلت فيها هذه السورة : قلنا إن سورة يوسف كان نزولها بعد سورة هود ، وسبق أن بينا عند تفسيرنا لسورة هود ، أن هذه السورة الكريمة كان نزولها –على الراجح- في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج . .
ويبدو أن سورة يوسف –أيضا- كان نزولها في هذه الفترة ، التي تعتبر من أشق الفترات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذ تعرض خلالها للكثير من أذى المشركين ، بعد أن فقد صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة عمه أبا طالب ، وزوجه السيدة خديجة – رضي الله عنها .
ونزول سورة يوسف في هذه الفترة ، كان من أعظم المسليات التي واسى الله –تعالى- بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقد أخبره عما دار بين يوسف وإخوته ، وعما تعرض له هذا النبي الكريم من مصائب وأذى . .
ولاشك أن في قصة يوسف وما يشبهها ، تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه .
5- والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها قد اشتملت على أوضح الدلائل ، وأنصع البراهين ، التي تشهد بأن هذا القرآن من عند الله . . .
فقد قصت علينا قصة يوسف –عليه السلام- مع إخوته ومع غيرهم بأسلوب مشوق حكيم ، يهدي النفوس ، ويشرح الصدور ، ويكشف عن الخفايا التي لا يعلمها أحد إلا الله –تعالى- ، ويصور أحوال النفس الإنسانية تصويرا بديعا معجزا . .
كما يراها قد ساقت ما ساقت من حكم وأحكام ، وعبر وعظات ، بأسلوب يمتاز بحسن التقسيم ، وجمال العرض ، حتى إننا لنستطيع أن نقسم أهم الموضوعات التي تحدثت عنها إلى عشرة أقسام .
( أ ) أما القسم الأول( {[3]} ) منها ، فنراها تتحدث فيه عن جانب من فضائل القرآن الكريم ، وعن رؤيا يوسف –عليه السلام- وعن نصيحة أبيه له بعد أن قصها عليه . .
قال –تعالى- [ ألر . تلك آيات الكتاب المبين* إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون* نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين* إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين* قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين ] .
( ب ) وفي القسم الثاني( {[4]} ) منها نراها تحدثنا عن مكر إخوة يوسف به ، وحسدهم له ، وتآمرهم على الانتقام منه وإجماعهم على أن يلقوا به في الجب ، وتنفيذهم لذلك بعد خداعهم لأبيهم ، وزعمهم له بأنهم سيحافظون على أخيهم يوسف . . .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي كل ذلك بأسلوبه البديع المعجز فيقول : [ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين* إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ، إن أبانا لفي ضلال مبين* اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين* قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب . يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ] .
إلى أن يقول –سبحانه- : [ وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ] .
( ج ) ثم نراها في القسم الثالث( {[5]} ) منها تحدثننا عن انتشال السيارة ليوسف من الجب ، وعن بيعهم له بثمن بخس دراهم معدودة ، وعن وصية من اشتراه لامرأته بإكرام مثواه ، وعن محنته مع تلك المرأة التي راودته عن نفسه [ وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ] وعن خروجه من هذه المحنة بريئا ، نقي العرض ، طاهر الذيل . . . بعد أن شهد ببراءته شاهد من أهلها .
قال –تعالى- : [ وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ، قال يا بشرى هذا غلام ، وأسروه بضاعة ، والله عليم بما يعملون* وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين* وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . . . ] .
إلى أن يقول –سبحانه- : [ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون . . . ] .
ثم يختم –سبحانه- هذا القسم من السورة بحكاية ما قاله الزوج لامرأته وليوسف ، بعد أن تبين له صدق يوسف وكذب امرأته فيقول : [ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم* يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ] .
( د ) ثم تحدثنا السورة بعد ذلك في القسم الرابع( {[6]} ) منها عن شيوع خير امرأة العزيز مع فتاها ، وعما فعلته تلك المرأة مع من أشاع هذا الخبر ، وعن لجوء يوسف –عليه السلام- إلى ربه يستجير به من كيد هؤلاء النسوة . .
قال –تعالى- حاكيا هذا المشهد بأسلوب معجز : [ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ، قد شغفها حبا ، إنا لنراها في ضلال مبين* فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن . فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن ، وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم* قالت فذلكن الذي لمتني فيه ، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين* قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين* فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم* ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ] .
( ه ) ثم تحدثنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم( {[7]} ) الخامس منها ، عن يوسف السجين المظلوم ، وكيف أنه لم يمنعه السجن من دعوة رفاقه فيه إلى وحدانية الله ، وإلى إخلاص العبادة له –سبحانه- .
[ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار* ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ] .
( و ) ثم تحدثنا السورة الكريمة في القسم( {[8]} ) السادس منها عن الرؤيا المفزعة التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت ، وكيف أن حاشيته عجزت عن تفسيرها ، ولكن يوسف الصديق فسرها تفسيرا صحيحا أعجب الملك ، وحمخله على دعوته للالتقاء به ، إلا أن يوسف –عليه السلام- أبى الالتقاء به إلا بعد أن يحقق الملك في قضيته بنفسه ، ويعلن براءته على رءوس الأشهاد . .
وبعد أن استجاب الملك لطلب يوسف ، وثبتت براءته –عليه السلام- حضر معززا مكرما وقال للملك بعزة وإباء : [ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ] .
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي هذا المشهد بأسلوبها الزاخر بالمحاورات والمفاجآت ، فتقول : [ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، يأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون* قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين* وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون* يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون* قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون . . . ] .
وينتهي هذا المشهد ببيان سنة من سنن الله –تعالى- التي لا تتخلف ، والتي تتمثل في حسن عاقبة المؤمنين حيث يقول –سبحانه- : [ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين* ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ] .
( ز ) ثم تنتقل السورة الكريمة في القسم السابع( {[9]} ) منها إلى الحديث عن اللقاء الأول الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا من بلادهم بفلسطين إلى مصر يلتمسون الزاد والطعام . . . وكيف أنه عرفهم دون أن يعرفوه . . وكيف أنه –عليه السلام- طلب منهم بعد أن أكرمهم أن يحضروا إليه من بلادهم ومعهم أخوهم من أبيهم –وهو شقيقه " بنيامين " .
وكيف أن أباهم وافق على إرسال " بنايمين " معهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق لكي يحافظوا عليه . .
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي كل ذلك فتقول : [ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون* ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين* فإن لم تأتوني به فلا كيف لكم عندي ولا تقربون* قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون* وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون* فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون* قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . . . ] .
( ح ) ثم حدثتنا السورة الكريمة في القسم الثامن( {[10]} ) منها عن اللقاء الثاني الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا إلي في هذه المرة ومعهم " بنيامين " شقيق يوسف ، وكيف قام يوسف بالتعرف عليه ، ثم كيف احتجزه عنده بحيلة دبرها بإلهام من الله –تعالى- وكيف رد على إخوته الذين طلبوا منه أن يأخذ أحدهم مكان " بنيامين " . . .
وماذا قال " يعقوب " –عليه السلام- بعد أن عاد إليه أبناؤه ، وليس معهم " بنيامين " .
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي كل هذه المشاهد والأحداث فتقول :
[ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون* فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ، ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون* قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون* قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمخل بعير وأنا به زعيم* قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين* قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين* قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين* فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ، كذلك كدنا ليوسف ، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله ، نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم . . . ] .
وينتهي هذا القسم بقول يعقوب –عليه السلام- لأبنائه بعد أن عادوا إليه وليس معهم أخوهم بنيامين : [ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم* وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم* قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين . قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون . يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ] .
( ط ) ثم حدثتنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم التاسع( {[11]} ) منها عن اللقاء الثالث والأخير بين يوسف وإخوته ، فحكت لنا أن يوسف –عليه السلام- كشف لإخوته عن نفسه في هذا اللقاء . وأمرهم بأن يذهبوا بقميصه ليلقوا به على وجه أبيه . . . كما أمرهم أن يعودوا إليه ومعه جميع أهلهم .
كما حكت لنا لقاء يوسف بأبويه ، وإكرامه لهما ، وشكره لله –تعالى- على ما وهبه من نعم . .
قال –تعالى- حاكيا ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يوسف وأبيه في هذا اللقاء : [ فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين* قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون* قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ] .
[ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا . وأتوني بأهلكم أجمعين . . . ] .
[ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ] .
ثم ختم –سبحانه- قصة يوسف بهذا الدعاء الذي حكاه –سبحانه- عنه في قوله : [ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السموات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما وألحقني بالصالحين ] .
( ي ) أما القسم العاشر( {[12]} ) والأخير من السورة الكريمة ، فقد كان تعقيبا على ما جاء في تلك القصة من حكم وأحكام ، ومن عبر وعظات ، ومن آداب وهدايات . .
وقد بين –سبحانه- في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله ، وما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه . .
كما بين –سبحانه- في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله ، وما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه . .
كما بين –سبحانه- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف المشركين من دعوته وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وأن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين .
قال تعالى : [ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون* وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين* وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين* وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون* وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . . . ] .
ثم يختتم –سبحانه- هذه السورة الكريمة بقوله : [ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ] .
6- هذا عرض مجمل لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة يوسف –عليه السلام- ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أهمها ما يأتي :
( أ ) إبراز الحقائق والهدايات ، بأسلوب المحاورات والمجادلات والمناقشات . . . ومن مظاهر ذلك :
المحاورات التي دارت حول إخوة يوسف في شأن الانتقام منه ، والتي منها قوله –تعالى- : [ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين* إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين* اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ، وتكونوا من بعده قوما صالحين* قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ] .
والمحاورات التي دارت بينهم وبين أبيهم في شأن اصطحابهم ليوسف ، والتي منها قوله –تعالى- : [ قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون* أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون* قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون* قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ] .
والمحاورات التي دارت بين يوسف وإخوته ، بعد أن عرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن ترددوا عليه ثلاث مرات للحصول على حاجتهم من الزاد . . والتي منها قوله –تعالى- : [ فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين . قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون* قالوا أئنك لأنت يوسف ، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين* قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين* قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ] .
وهكذا نجد السورة الكريمة زاخرة بأسلوب المحاورات والمناقشات والمجادلات . تارة بين يوسف وإخوته ، وتارة بين إخوته فيما بينهم ، وتارة بينهم وبين أبيهم ، وتارة بين يوسف وامرأة العزيز ، وتارة بينه وبين ملك مصر في ذلك الوقت .
وهذه المحاورات التي حفلت بها السورة الكريمة ، قد أكسبتها لونا من العرض المشوق ، الذي يجعل القارئ لها يتعجل حفظ كل موضوع من موضوعاتها ، ليصل إلى الموضوع الذي يليه .
وهذا الأسلوب في عرض الحقائق من أسمى الأساليب التي تعين القارئ على حفظ القرآن الكريم ، وعلى تدبر معانيه ، وعلى الانتفاع بهداياته . . .
( ب ) إبرازها لجوهر الأحداث ولبابها . . أما تفاصيل هذه الأحداث . فتركت معرفتها لفهم القارئ وفطنته ، وسلامة تفكيره ، وحسن تدبره لكلام الله –تعالى- . .
وهذا اللون من العرض للأحداث ، يسمى في عرف البلغاء ، بأسلوب الإيجاز بالحذف والقارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها على رأس السور القرآنية التي كثر فيها هذا الأسلوب البليغ .
فمثلا قوله –تعالى- : [ وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل . . . ] معطوف على كلام محذوف يفهم من السياق .
والتقدير : وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وانصرفوا لشئونهم " جاءوا على قميصه بدم كذب " لكي يخدعوا أباهم ، فلما أخبروه بأن الذئب قد أكله قال : [ بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل . . . ] .
وكذلك قوله –تعالى- : [ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه . . . ] مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات .
والتقدير : وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عندما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز ، وسمع تهديد هذه المرأة له بقولها : [ قالت فذلكن الذي لمتني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ] .
بعد أن سمع يوسف كل ذلك ، وتيقن من مكرهن به ، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال : [ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه . . . ] .
وأيضا قوله –تعالى- : [ وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئتكم بتأويله فأرسلون* يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان . . . ] . يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف ، إذ تقدير الكلام :
وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك ، وقالوا له : إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، قال الذي نجا منهما ، أي : من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي [ وادكر بعد أمة ] أي وتذكر بعد نسيان طويل [ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ] إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا –وهو يوسف- فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف ، فذهب إليه في السجن ، فلما دخل عليه قال له : يا يوسف يأيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان . . . إلخ .
وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة ، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف ، من شأنه أنه ينشط العقول ، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه ، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار . .
وهو أسلوب أيضا تقتضيه هذه السورة الكريمة ، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء الله –تعالى- . والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها ، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره .
فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ ، هو من باب رعاية الكلام لمقتضى الحال ، وهو أصل البلاغة وركنها الركين .
( ج ) السورة الكريمة اهتمت اهتماما واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حال رضاها وغضبها ، وفي حال صفائها وحقدها . .
وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا ، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلاقهم ، وسلوكهم ، وميولهم ، وأفكارهم . . وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه .
( 1 ) فيوسف –عليه السلام- وهو الشخصية الرئيسية في القصة –حدثتنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلاله ، أن نرى له –عليه السلام- مناقب ومزايا متنوعة من أهمها ما يأتي :
امتلاكه لنفسه ولشهوته مهما كانت المغريات ، بسب خوفه لمقام ربه ، ونهيه لنفسه عن الهوى . .
ولا أدل على ذلك من قوله –تعالى- : [ وراودتته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ، قال معاذ الله ، إنه ربي وأحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون . . ] .
قال الشيخ القاسمي : قال الإمام ابن القيم ما ملخصه : " لقد كانت دواعي متعددة تدعو يوسف إلى الاستجابة لطلب امرأة العزيز منها : ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة . .
ومنها : أنه كان شابا غير متزوج . . ومنها : أنها كانت ذات منصب وجمال . . وأنها كانت غير آبية ولا ممتنعة . . بل هي التي طلبت وأرادت وبذلت الجهد . .
ومنها : أنه كان في دارها وتحت سلطانها . . فلا يخشى أن تنم عليه .
ومنها : أنها استعانت عليه بآئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن . .
ومنها : أنها توعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما تأمره به . .
ومع كل هذه الدواعي ، فقد آثر يوسف مرضاة الله ومراقبته ، وحمله خوفه من خالقه على أن يختار السجن على ارتكاب ما يغضبه . . " ( {[13]} ) .
2- صبره الجميل على المحن والبلايا ، ولجوؤه إلى ربه ليستجير به من كيد امرأة العزيز وصواحبها : [ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . . ] .
3- نشره للدين الحق ، ودعوته لعبادة الله وحده ، حتى وهو بين جدران السجن ، فهو القائل لمن معه في السجن : [ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير ، أم الله الواحد القهار* ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . . . ] .
4- حسن تدبيره للأمور ، وتوصله إلى ما يريده بأحكم الأساليب ، وحرصه الشديد على إنقاذ الأمة مما يضرها ويعرضها للهلاك ، [ قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون . . . ] .
5- عزة نفسه ، وسمو خلقه ، فقد أبى أن يذهب لمقابلة الملك إلا بعد إعلان براءته [ وقال الملك ائتوني به ، فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم . . ] .
6- تحدثه بنعمة الله ، ومعرفته لنفسه قدرها ، وطلبه المنصب الذي يناسبه ، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه [ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ] .
7- تحدثه بنعمة الله ، ومعرفته لنفسه قدرها ، وطلبه المنصب الذي يناسبه ، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه [ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ] .
7- ذكاؤه وفطنته ، فقد تعرف على إخوته مع طول فراقه لهم : [ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون . . . ] .
8- عفوه وصفحه عمن أساء إليه [ قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين . . ] .
9- وفاؤه لأسرته ولعشيرته [ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ] .
10- شكر الله –تعالى- على نعمه ومننه [ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ] .
هذا جانب من حديث السورة الكريمة عن يوسف –عليه السلام- ، وهو حديث يدل على أنه كان في الذروة العليا من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم . .
( د ) وتحدثت السورة الكريمة عن يعقول –عليه السلام- فذكرت من بين ما ذكرت عنه ، صفات الصبر الجميل ، والأمل في رحمة الله مهما اشتدت الخطوب ، والحرص على سلامة أبنائه من كل ما يؤذيهم حتى ولو أساءوا إليه ، والنظر إلى الأمور بعين تختلف عن عيون أبنائه ، والحكم عليها بحكم يختلف عن أحكامهم . .
يدل على ذلك قوله –تعالى- [ وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل ] .
وقوله –تعالى- : [ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا . . . ] .
وقوله -تعالى- : [ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة . . . ] .
وقوله –تعالى- : [ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون . قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم . فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ] .
( ه ) وتحدثت عن إخوة يوسف حديثا مستفيضا ، تبدو فيه غيرتهم من يوسف ، وحسدهم له ، وتآمرهم على حياته ، وحقدهم عليه حتى وهو بعيد عنهم . . ثم ندمهم في النهاية على ما فرط منهم في حقه بعد أن مكن الله له في الأرض . .
نرى ذلك في مثل قوله –تعالى- : [ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم . . ]
وفي قوله : [ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ] .
وفي قوله –سبحانه- : [ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . . . ] .
وفي قوله –سبحانه- : [ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ] .
( و ) وتحدثت عن امرأة العزيز حديثا يكشف عن حال المرأة عندما تحب . . وكيف أنها في سبيل الحصول على رغبتها تحطم كل الموانع النفسية والاجتماعية . . وتستخدم كل الوسائل التي تظن أنها ستوصلها إلى مرادها . حتى ولو كانت هذه الوسائل تخالف ما عرف عن المرأة من أنها حريصة على أن تكون مطلوبة من الرجل لا طالبة له . .
( ز ) وتحدثت عن العزيز حديثا قصيرا يناسب حجمه وسلوكه وتبلد شعوره ، فهو مع إيقانه بخطأ امرأته لم يزد على أن قال ليوسف ولها [ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ] .
( ح ) وتحدثت عن ملك مصر في ذلك الوقت . . . وعن البيئة التي وصل الحال بها أن تزج بيوسف البريء في السجن ، إرضاء لشهوات النفوس الجامحة . .
قال –تعالى- : [ ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ] .
وهكذا نجد السورة الكريمة تحدثنا عن نماذج من البشر ، فتصف كل نموذج بما يناسبه من صفات ، بصدق وأمانة ، وتحكم عليه بالحكم الذي يناسبه .
قال صاحب الظلال ما ملخصه : والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وإيحاءاتها ، بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة . .
ففي الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش –منذ عام الحزن- كان الله –تعالى- يقص عليه قصة أخ له كريم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات . .
محنة كيد الإخوة ، ومحنة الجب ، ومحنة الرق ، ومحنة كيد امرأة العزيز ، ومحنة السجن ، ثم محنة الرخاء والجاه والسلطان . .
فلا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك . . تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه عما أصابهم من أعدائهم ، وتسرية لقلوبهم وتطمينا لنفوسهم .
ولكأن الله –تعالى- يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : كما أخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه هذه الابتلاءات كلها ، ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين . .
كذلك أنت يا محمد ستخرج من بلدك مكة مهاجرا . . . ثم تعود إليها في الوقت الذي يشاؤه الله ظافرا منتصرا( {[14]} ) .
وبعد : فهذا تعريف لسورة يوسف ، رأينا أن نسوقه قبل البدء في تفسيرها ، لعله يعين على فهم ما اشتملت عليه من حكم وأحكام . ومن عبر وعظات . .
افتتحت سورة يوسف - عليه السلام - ببعض الحروف المقطعة . وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء في هذه الحروف في سورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود .
وقلنا ما ملخصه : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الايقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن الكريم .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله - تعالى - : هاكم ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الجهائية التي تنظمون منها حروفكم . . فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم في ذلك .
ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة تراها تتحدث - صراحة أو ضمنا - عن القرآن الكريم وعن كونه من عند الله - تعالى - وعن كونه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ففى مطلع سورة البقرة : { الاما . ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ . . . } وفى مطلع سورة آل عمران : { الاما . الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل . . } وفى أول سورة يونس : { الار تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم . أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ . . . } وفى أول سورة هود : { الار كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . . . } وهكذا نجد أن معظم الآيات التي تلى الحروف المقطعة ، منها ما يتحدث عن أن هذا الكتاب من عند الله - سبحانه - ومنها ما يتحدث عن وحدانية الله - تعالى - ، ومنها ما يتحدث عن صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته . .
وهذا كله لتنبيه الغافلين إلى أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه المعجزة الخالدة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم قال - تعالى - : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين }
و " تلك " اسم إشارة ، المشار إليه الآيات ، والمراد بها آيات القرآن الكريم ويندرجح فيها آيات السورة التي معنا .
والكتاب : مصدر كتب كالكتب . وأصل الكتب ضم أديم إلى آخر بالخياطة . واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، والمراد به القرآن الكريم .
والمبين : أى الواضح الظاهر من أبان بمعنى بان أى ظهر .
والمعنى : تلك الآيات التي نتلوها عليك - أيها الرسول الكريم - في هذه السورة اوفى غيرها ، هي آيات الكتاب الظاهر أمره ، الواضح إعجازه ، بحيث لا تشتبه على العقلاء حقائقه ، ولا تلتبس عليهم هداياته .
وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب الكريم ، مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها ، لأن الإِشارة إلى بعضها كالإِشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإِنزال ، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنزول القرآن عليه ، كما في قوله { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ووعد الله - تعالى - لا يتخلف .
{ الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } .
قال أبو جعفر محمد بن جرير : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، والقول الذي نختاره في تأويل ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .
وأما قوله : { تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : تلك آيات الكتاب المبين : بين حلاله وحرامه ، ورشده وهداه . ذكر من قال ذلك :
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : أخبرني عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، في قول الله تعالى : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين حلاله وحرامه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، أي : والله لمبين تركيبه هداه ورشده .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين الله رشده وهداه .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ ، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ : { الكِتابِ المُبِينِ } ، قال بين الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ؛ وهي : ستة أحرف .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معناه : هذه آيات الكتاب المبين ، لمن تلاه وتدبر ما فيه من حلاله وحرامه ونهيه وسائر ما حواه من صنوف معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه مبين ، ولم يخصّ إبانته عن بعض ما فيه دون جميعه ، فذلك على جميعه ، إذ كان جميعه مبينا عما فيه .