وإذا أصاب الإنسان مكروه - من مكاره الدنيا - دعا ربه راجعاً إليه بعد أن كان معرضاً عنه ، ثم إذا أعطاه ربه نعمة عظيمة نسى الضر الذي كان يدعو ربه إلى إزالته وكشفه من قبل أن يمن عليه بهذه النعمة ، وجعل لله شركاء متساوين معه في العبادة ، فعل هذا الإنسان ذلك ليضل نفسه وغيره عن طريق الله . قل - يا محمد - لمن هذه صفته متوعداً : تمتع بكفرك بنعم الله عليك زمناً قليلاً ، إنك من أهل النار .
قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه } راجعاً إليه مستغيثاً به . { ثم إذا خوله نعمةً منه } أعطاه نعمة منه . { نسي } ترك . { ما كان يدعو إليه من قبل } أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه . { وجعل لله أندادا } يعني : الأوثان . { ليضل عن سبيله } ليزل عن دين الله . { قل } لهذا الكافر { تمتع بكفرك قليلاً } في الدنيا إلى أجلك . { إنك من أصحاب النار } قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، وقال مقاتل : نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وقيل : عام في كل كافر .
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } : يخبر تعالى عن كرمه بعبده وإحسانه وبره ، وقلة شكر عبده ، وأنه حين يمسه الضر ، من مرض أو فقر ، أو وقوع في كربة بَحْرٍ أو غيره ، أنه يعلم أنه لا ينجيه في هذه الحال إلا اللّه ، فيدعوه متضرعا منيبا ، ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك .
{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } اللّه { نِعْمَةً مِنْهُ } بأن كشف ما به من الضر والكربة ، { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ } أي : نسي ذلك الضر الذي دعا اللّه لأجله ، ومر كأنه ما أصابه ضر ، واستمر على شركه .
{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : ليضل بنفسه ، ويضل غيره ، لأن الإضلال فرع عن الضلال ، فأتى بالملزوم ليدل على اللازم .
{ قُلْ } لهذا العاتي ، الذي بدل نعمة اللّه كفرا : { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } فلا يغنيك ما تتمتع به إذا كان المآل النار .
{ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمّ إِذَا خَوّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوَ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلّهِ أَندَاداً لّيُضِلّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنّكَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ } :
يقول تعالى ذكره : وإذا مسّ الإنسان بلاء في جسده من مرض ، أو عاهة ، أو شدّة في معيشته ، وجهد وضيق دَعا رَبّهُ يقول : استغاث بربه الذي خلقه من شدّة ذلك ، ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدّة ذلك . وقوله : مُنِيبا إلَيْهِ يقول : تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به ، وإشراك الاَلهة والأوثان به في عبادته ، راجعا إلى طاعته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإذَا مَسّ الإنْسانَ ضُرّ ) : قال : الوجع والبلاء والشدّة دَعا رَبّهُ مُنِيبا إلَيْهِ قال : مستغيثا به .
وقوله : ( ثُمّ إذَا خَوّلَهُ نَعْمَةً مِنْهُ ) : يقول تعالى ذكره : ثم إذا منحه ربه نعمة منه ، يعني عافية ، فكشف عنه ضرّه ، وأبدله بالسقم صحة ، وبالشدة رخاء . والعرب تقول لكلّ من أعطى غيره من مال أو غيره : قد خوّله ومنه قول أبي النجْم العِجْلِيّ :
أعْطَى فَلْم يَبْخَلْ ولَمْ يُبَخّلِ *** كُومَ الذّرَا مِنْ خَوَلِ المُخَوّلِ
وحدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى أنه قال : سمعت أبا عمرو يقول في بيت زُهَيْر :
هُنالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْوِلوا *** وإنْ يُسْأَلُوا يُعْطوا وَإنْ يَيْسِرُوا يُغْلوا
قال معمر : قال يونس : إنما سمعناه :
هُنالكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا المَالَ يُخْبِلوا ***
قال : وهي بمعناها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( ثُمّ إذَا خَوّلَهُ نِعْمَةً مِنْه )ُ : إذا أصابته عافية أو خير .
وقوله : ( نَسِيَ ما كانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) : يقول : ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ وَجَعَلِ لِلّهِ أنْدَادا يعني : شركاء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ نَسِيَ يقول : ترك ، هذا في الكافر خاصة .
ول«ما » التي في قوله : نَسِيَ ما كانَ وجهان : أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ويكون معنى الكلام حينئذٍ : ترك الذي كان يدعوه في حال الضرّ الذي كان به ، يعني به الله تعالى ذكره ، فتكون «ما » موضوعة عند ذلك موضع «مَنْ » كما قيل : وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ يعني به الله ، وكما قيل : فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ . والثاني : أن يكون بمعنى المصدر على ما ذكرت . وإذا كانت بمعنى المصدر ، كان في الهاء التي في قوله : إلَيْهِ وجهان : أحدهما : أن يكون من ذكر ما . والاَخر : من ذكر الربّ .
وقوله : وَجَعَلَ لِلّهِ أنْدَادا يقول : وجعل لله أمثالاً وأشباها .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا ، قال بعضهم : جعلوها له أندادا في طاعتهم إياه في معاصي الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَجَعَلَ لِلّهِ أنْدَادا قال : الأنداد من الرجال : يطيعونهم في معاصي الله .
وقال آخرون : عنى بذلك أنه عبد الأوثان ، فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عَنَى به أنه أطاع الشيطان في عبادة الأوثان ، فجعل له الأوثان أندادا ، لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها .
وقوله : ( لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِهِ ) : يقول : ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به عن توحيده ، والإقرار به ، والدخول في الإسلام .
وقوله : ( قُلْ تَمَتّعْ بكُفْرِكَ قَلِيلاً ) : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لفاعل ذلك : تمتع بكفرك بالله قليلاً إلى أن تستوفَي أجلك ، فتأتيك منيتك إنّكَ مِنْ أصحَابِ النّارِ : أي إنك من أهل النار الماكثين فيها .