قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، كانوا يسمونه رحمان اليمامة . { أنسجد لما تأمرنا } قرأ حمزة والكسائي يأمرنا بالياء ، أي : لما يأمرنا محمد بالسجود له ، وقرأ الآخرون بالتاء ، أي : لما تأمرنا أنت يا محمد ، { وزادهم } يعني : زادهم قول القائل لهم : اسجدوا للرحمن { نفوراً } عن الدين والإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرّحْمََنِ قَالُواْ وَمَا الرّحْمََنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } .
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم : اسْجُدُوا لِلرّحْمَنِ : أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الاَلهة والأوثان ، قالوا : أنَسْجُدُ لِمَا تَأمُرُنَا .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : لمَا تَأْمُرُنا بمعنى : أنسجد نحن يا محمد لما تأمرنا أنت أن نسجد له ؟ وقرأته عامة قرّاء الكوفة : «لمَا يَأْمُرُنا » بالياء ، بمعنى : أنسجد لما يأمر الرحمن ؟ . وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن ، فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : اسجدوا للرحمن ، قالوا : أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة ؟ يعنون مُسَيلمة بالسجود له .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقوله : وَزَادَهُمْ نُفُورا يقول : وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم : اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله ، وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا .
لما جرى وصف الله تعالى بالرحمان مع صفات أخر استطرد ذكر كُفر المشركين بهذا الوصف . وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم ( الرحمان ) هو من وضع القرآن ولم يكن معهوداً للعرب ، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مُسيلمة :
سموْتَ بالمجد يابن الأكرمين أباً *** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة ، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصداً بالتورّك على النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جارياً على مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء ؛ فكانوا يقولون : انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن . وفي ذلك نزل قوله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيّاً مَّا تدعوا فله الأسماء الحسنى } وقد تقدم في آخر سورة الإسراء ( 110 ) وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء .
والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عِنادهم وبهتانهم ، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم .
والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام ، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام ، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مراداً هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يُسلِموا . ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبيءُ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم قال : فإن هم أطاعوا لِذلك فأعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة الخ . ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها .
وواو العطف في قولهم { وما الرحمن } لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وُجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمان ، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى : { قال إني جاعلُك للناس إماماً قال ومِن ذرّيّتي } [ البقرة : 124 ] . و { ما } من قوله { وما الرحمن } استفهامية .
والاستفهام مستعمل في الاستغراب ، يعنون تجاهل هذا الاسم ، ولذلك استفهموا عنه بما دون ( مَن ) باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم .
والاستفهام في { أنسجد لما تأمرنا } إنكار وامتناع ، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن { ما } نكرة موصوفة ، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت { ما } موصولة ، وحُذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه ، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنيّة انفراد الله به دون غيره ، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى : { وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون } [ القلم : 43 ] ، أي فيأبَون ، وقال : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } [ المرسلات : 48 ] . ويدل على ذلك قوله { وزادهم نفوراً } فالنفور من السجود سابق قبل سماع اسم الرحمن .
وقرأ الجمهور { تأمرنا } بتاء الخطاب . وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافِهون به النبي صلى الله عليه وسلم .
والضمير المستتر في { زادهم } عائد إلى القول المأخوذ من { وإذا قيل لهم } . والنفور : الفرار من الشيء . وأطلق هنا على لازمه وهو البعد . وإسناد زيادة لنفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بُعداً من الإيمان ، وهذا كقوله في سورة نوح ( 6 ) { فلم يَزدْهم دُعائي إلا فراراً } .
وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق . ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمان ، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عُزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي هنا مخالفاً لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله : { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان : 58 ] الآيات الثلاث . وسنّ الرسول عليه السلام السجود في هذا المَوضع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.