4- يسألك المؤمنون - أيها الرسول - ماذا أحل الله لهم من طعام وغيره فقل لهم : أحلّ الله لكم كل طيب تستطيبه النفوس السليمة ، وأحلّ لكم ما تصطاده الجوارح التي علمتموها الصيد بالتدريب ، مستمدين ذلك مما علمكم الله . فكلوا من صيدها الذي أرسلتموها إليه وأمسكته عليكم ، واذكروا اسم الله عند إرسالها ، واتقوا الله بالتزام ما شرع لكم ، ولا تتجاوزوه ، واحذروا مخالفة الله فيه ، فإنه سريع الحساب .
قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } الآية . قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم ، وزيد بن المهلهل الطائيين ، وهو زيد الخيل ، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية . وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية . فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الزيادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، والأول أصح في نزول الآية .
قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } . يعني الذبائح على اسم الله تعالى ، وقيل : كل ما تستطيبه العرب وتستلذه ، من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة .
قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } . يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح . واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك والسدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن تدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من السباع البهائم ، كالفهد ، والنمر ، والكلب . ومن سباع الطير كالبازي ، والعقاب ، والصقر ، ونحوها مما يقبل التعليم ، فيحل صيد جميعها . سميت جارحة : لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد ، أي : كسبها ، يقال : فلان جارحة أهله أي : كاسبهم .
قوله تعالى : { مكلبين } . والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ، ويقال للذي يعلمها أيضاً مكلب ، والكلاب صاحب الكلاب ، ويقال : الصائد بها أيضا كلاب ، ونصب مكلبين على الحال ، أي : في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد ، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم ، والمراد جميع جوارح الصيد .
قوله تعالى : { تعلمونهن } . تؤدبونهن آداب أخذ الصيد .
قوله تعالى : { مما علمكم الله } . أي : من العلم الذي علمكم الله . قال السدي : أي كما علمكم الله ، فمن بمعنى الكاف .
قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } . أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها ، فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً ، والتعليم هو : أن يوجد بها ثلاثة أشياء ، إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ، ولم تأكل ، وإذا وجد ذلك منه مراراً ، وأقله ثلاث مرات ، كانت معلمة يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أن ثابت ابن زيد ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت ، فأمسك وقتل فكل ، وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه ، وإذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيها قتل ، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل ، وإن وقع في الماء فلا تأكل .
واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئاً : فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ، روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والشعبي ، وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه " . ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وقال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك ، وذكرت اسم الله تعالى فكل ، وإن أكل منه " .
أما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيداً ، والمعلم إذا جرح بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل ، فلا يكون حلالاً ، إلا أن يدركه صاحبه حياً فيذبحه ، فيكون حلالاً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن يزيد ، أنا حيوة ، أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي ، عن أبي إدريس ، عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : قلت : يا نبي الله ، إنا بأرض قوم أهل الكتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ، وبكلبي المعلم ، فما يصح لي ؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوا وامسكوا فيها ، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " .
قوله تعالى : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } ، ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة ، حدثنا عمر بن شيبة ، أنا أبو عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعاً قدمه على صفاحهما ، ويذبحهما بيده ويقول : بسم الله والله أكبر " .
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَمَا عَلّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يسألك يا محمد أصحابك ما الذي أُحلّ لهم أكله من المطاعم والمآكل ، فقل لهم : أحلّ منها الطيبات ، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح ، وأحلّ لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح ، وهن الكواسب من سباع البهائم والطير ، سميت جوارح لجرحها لأربابها وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد ، يقال منه : جرح فلان لأهله خيرا : إذا أكسبهم خيرا ، وفلان جارحة أهله : يعني بذلك : كاسبهم ، ولا جارحة لفلانة إذا لم يكن لها كاسب ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
ذَاتَ خَدّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهُ ***يُذْكِرُ الجارحَ ما كانَ اجْتَرَحْ
يعني : اكتسب . وترك من قوله : وَما عَلّمْتُمْ : «وصيد » ما علمتم من الجوارح اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما ترك ذكره . وذلك أن القوم فيما بلغنا كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب عما يحلّ لهم اتخاذه منها وصيده ، فأنزل الله عزّ ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الاَية فاستثنى مما كان حرم اتخاذه منها ، وأمر بقُنية كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن لهم باتخاذ ذلك . ذكر الخير بذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن حباب العكلي ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، قال : أخبرنا صالح عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع ، قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه ، فأذن له ، فقال : «قد أذنّا لَكَ يا رَسُولَ اللّه » ، قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب . قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فأمرني ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرتَ بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب ، فقتل حتى بلغ العوالي ، فدخل عاصم بن عديّ وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أُحلّ لنا يا رسول الله ؟ فنزلت : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مكَلّبِينَ .
حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، قال : حدثونا عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، قالوا : يا رسول الله ، فماذا يحلّ لنا من هذه الأمة ؟ فنزلت : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ . . . الاَية .
ثم اختلف أهل التأويل في الجوارح التي عنى الله بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ فقال بعضهم هو كلّ ما علّم الصيد فتعلمه من بهيمة أو طائر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن في قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : كل ما عُلّم فصاد : من كلب ، أو صقر ، أو فَهِد ، أو غيره .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن : مُكَلّبِينَ قال : كلّ ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في صيد الفهد ، قال : هو من الجوارح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد في قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : الطير ، والكلاب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الحجاج ، عن عطاء ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد : مُكَلّبِينَ قال : من الكلاب والطير .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : من الطير والكلاب .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعبة ( ح ) وثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الهيثم ، عن طلحة بن مصرف ، قال : خيثمة بن عبد الرحمن : هذا ما قد بينت لك أن الصقر والبازي من الجوارح .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت الهيثم يحدّث عن طلحة الإيامي ، عن خيثمة ، قال : أنبئت أن الصقر ، والباز ، والكلب : من الجوارح .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن عليّ بن حسين ، قال : الباز الصقر من الجوارح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الباز والصقر من الجوراح المكلّبين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ يعني بالجوارح : الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِح مُكَلّبِينَ قال : من الكلاب وغيرها ، من الصقور والبِيزان وأشباه ذلك مما يعلّم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ الجوارح : الكلاب والصقور المعلمة .
حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار سمع عبيد بن عمير يقول في قوله : مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : الكلاب والطير .
وقال آخرون : إنما عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ الكلاب دون غيرها من السباع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : هي الكلاب .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ يقول : أحلّ لكم صيد الكلاب التي علمتموهن .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أما ما صاد من الطير والبُزاة من الطير ، فما أدركت فهو لك ، وإلا فلا تطعَمه .
وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : كلّ ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح ، وإن صيد جميع ذلك حلال إذا صاد بعد التعليم ، لأن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ : كلّ جارحة ، ولم يخصص منها شيئا ، فكل جارحة كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع فحلال أكل صيدها . وقد روِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحو ما قلنا في ذلك خبر ، مع ما في الاَية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك ، وهو ما :
حدثنا به هناد ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبيّ عن عديّ بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازيّ ، فاقل : «ما أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ » .
فأباح صلى الله عليه وسلم صيد البازي وجعله من الجوارح ، ففي ذلك دلالة بينة على فساد قول من قال : عنى الله بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ : ما علمنا من الكلاب خاصة دون غيرها من سائر الجوارح .
فإن ظنّ ظانّ أن في قوله مُكَلّبِينَ دلالة على أن الجوارح التي ذكرت في قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ : هي الكلاب خاصة ، فقد ظنّ غير الصواب ، وذلك أن معنى الاَية : قل أحلّ لكم أيها الناس في حال مصيركم أصحاب كلاب الطيبات وصيد ما علّمتموه الصيد من كواسب السباع والطير . فقوله : مُكَلّبِينَ صفة للقانص ، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه ، وهو نظير قول القائل يخاطب قوما : أحلّ لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك إخبار القوم أن الله جلّ ذكره أحلّ لهم في حال كونهم أهل إيمان الطيبات ، وصيد الجوارح التي أعلمهم أنه لا يحلّ لهم منه إلا ما صادوه بها ، فكذلك قوله : أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مكَلّبِينَ لذلك نظيره في أن التكليب للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها ، لا أنه إعلام من الله عزّ ذكره أنه لا يحلّ من الصيد إلا ما صادته الكلاب .
القول في تأويل قوله تعالى : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : تُعَلّمُونَهُنّ : تؤدّبون الجوارح ، فتعلمونهنّ طلب الصيد لكم مما علمكم الله ، يعني بذلك : من التأديب الذي أدبكم الله والعلم الذي علمكم .
وقد قال بعض أهل التأويل : معنى قوله : مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ : كما علمكم الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ يقول : تعلمونهنّ من الطلب كما علمكم الله .
ولسنا نعرف في كلام العرب «من » بمعنى الكاف ، لأن «من » تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض ، والكاف بمعنى التشبيه . وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره إذا تقارب معنياهما ، فأما إذا اختلفت معانيهما فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عقيب الاَخر ، وكتاب الله وتنزيله أحرى الكلام أن يجنب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل بلسانه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح ، قال : حدثنا أبو هانىء ، عن أبي بشر ، قال : حدثنا عامر ، أن عديّ بن حاتم الطائي ، قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب ، فلم يدر ما يقول له ، حتى نزلت هذه الاَية : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ .
قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : هو أن يُسْتَشْلَى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه ، ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه ، ويستجيب له إذا دعاه ، ولا يفرّ منه إذا أراده ، فإذا تتابع ذلك منه مرارا كان معلّما . وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عصام ، قال : أخبرنا ابن جرج ، قال : قال عطاء : كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلّم ويمسك ويصيد فهو ميَتة ، ولا يكون قتله إياه ذكاة حتى يعلّم ويُمسك ويصيد ، فإن كان ذلك ثم قَتَل فهو ذكاته .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : المعلّم من الكلاب أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه ، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل من صيده .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو المعلى ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : إذا أرسل الرجل الكلب فأكل من صيده فقد أفسده ، وإن كان ذكر اسم الله حين أرسله فزعم أنه إنما أمسك على نفسه والله يقول مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلمُوَنهنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ . فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلم ، وأنه ينبغي أن يضرب ويعلم حتى يترك ذلك الخلق .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معمر الرقي ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : إذا أخذ الكلب فقتل فأكل ، فهو سبع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : لا يأكل منه ، فإنه لو كان معلما لم يأكل منه ولم يتعلم ما علمته ، إنما أمسك على نفسه ولم يمسك عليك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن الشعبيّ ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس ، قال : إذا أكلت الكلاب فلا تأكل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : فعلت لعامر الشعبيّ : الرجل يرسل كلبه فيأكل منه ، أنأكل منه ؟ لا ، لم يتعلم الذي علمته .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : إذا أكل الكلب من صيد فاضربه ، فإنه ليس بمعلّم .
حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : إذا أكل الكلب فهو ميتة ، فلا تأكله .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير وسيار ، عن الشعبيّ ومغيرة ، عن إبراهيم أنهم قالوا في الكلب : إذا أكل من صيده فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد ، فما وجدته ميتا فدعه ، فإنه مما لم يمسك عليك صيدا ، إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك ، وإن كان قد علم .
حدثنا محمد بن الحسن ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بنحوه .
وقال آخرون نحو هذه المقالة ، غير أنهم حدّوا لمعرفة الكَلاّب بأن كلبه قد قبل التعليم ، وصار من الجوارح الحلال صيدها أن يفعل ذلك كلبه مرّات ثلاثا ، وهذا قول محكيّ عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن .
وقال آخرون ممن قال هذه المقالة : لا حدّ لعلم الكلاّب بذلك من كلبه أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم قالوا : فإذا فعل ذلك فقد صار معلّما حلالاً صيده . وهذا قول بعض المتأخرين .
وفرّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة ، وتعليم الكلب وضاري السباع الجارحة ، فقال : جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد . قالوا : وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلي ، ويجب إذا دُعي ، ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذه . قالوا : وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وحجاج ، عن عطاء ، قال : لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أسباط ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، الشبيانيّ ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يعُد وإن تعليم الطير : أن يرجع إلى صاحبه ، وليس يضرب فإذا أكل من الصيد ونتف من الريش فكُلْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن الشعبي ، قال : ليس البازي والصقر كالكلب ، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك ، فكُلْ منه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو زبيد ، عن مطرّف ، عن حماد ، قال إبراهيم : كُل صيد البازي وإن أكل منه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، وجابر عن الشعبيّ ، قالا : كل من صيد البازي وإن أكل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : إذا أكل البازي والصقر من الصيد ، فكل ، فإنه لا يعُلّم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : لا بأس بما أكل منه البازي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، أنه قال في البازي : إذا أكل منه فكُلْ .
وقال آخرون منهم : سواء تعليم الطير والبهائم والسباع ، لا يكون نوع من ذلك معلّما إلا بما يكون به سائر الأنواع معلما . وقالوا : لا يحلّ أكل شيء من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه ، كائنة ما كانت تلك الجارحة بهيمة أو طائرا . قالوا : لأن من شروط تعليمها . الذي يحلّ به صيدها ، أن تمسك ما صادت على صاحبها فلا تأكل منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : حدثنا محمد بن سالم ، عن عامر ، قال : قال عليّ : إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن جعفر ، عن شعبة ، عن مجاهد بن سعيد ، عن الشعبي ، قال : إذا أكل البازي منه فلا تأكل .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا أكل البازي فلا تأكل .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع عن عمرو بن الوليد السهميّ ، قال : سمعت عكرمة ، قال : إذا أكل البازي فلا تأكل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الكلب والبازي كلّه واحد ، لا تأكل ما أكل منه من الصيد إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه . قال : قلت لعطاء : البازي ينتف الريش ؟ قال : فما أدركته ولم يأكل ، فكُلْ . قال ذلك غير مرّة .
وقال آخرون : تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد ، قالوا : وتعليمه الذي يحلّ به صيده أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشْلِي ويأخذ الصيد ، ويدعوه صاحبه فيجيب ، أو لا يفرّ منه إذا أخذه . قالوا : فإذا فعل الجارح ذلك كان معلما داخلاً في المعنى الذي قال الله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعْلّمونهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قالوا : وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد ، قالوا : وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه وهو يؤدّب بأكله ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد أو سعد ، عن سلمان ، قال : إذا أرسلت كلبك على صيد ، وذكرت اسم الله فأكل ثلثيه وبقي ثلثه ، فكل ما بقي .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا حميد ، قال : ثني القاسم بن ربيعة ، عمن حدّثه ، عن سلمان وبكر بن عبد الله ، عمن حدثه ، عن سلمان : أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه ، قال : كُلْ وإن أكل ثلثيه إذا أرسلته وذكرت اسم الله وكان معلّما .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث عن سعيد بن المسيب ، قال : قال سلمان : كل وإن أكل ثلثيه يعني : الصيد إذا أكل ثلثيه يعني : الصيد إذا أكل منه الكلب .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان ، نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ وعبد العزيز بن عبد الصمد ، عن شعبة ( ح ) وحدثنا هناد قال : حدثنا عبدة جميعا ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال سلمان : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فأكل ثلثه فكُلْ .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد ، عن سلمان ، نحوه .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم ، أن سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي الفرات ، عن محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال سلمان : إذا أرسلت كلبك المعلم أو بازك ، فسمتَ ، فأكَل نصفه أو ثلثيه ، فكل بقيته .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي ، أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كُلْ وإن لم يبق منه إلا حذْية ، يعني بَضْعة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنى عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، قال : سمعت بكير بن الأشج يحدّث عن سعد ، قال : كل وإن أكل ثلثيه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، قال : سمعت بكير بن الأشجّ ، عن سعيد بن المسيب قال شعبة ، قلت : سمعت من سعيد ؟ قال : لا قال : كل وإن أكل ثلثيه . قال : ثم إن شعبة قال في حديثه عن سعد ، قال : كل وإن أكل نصفه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنى عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن أبي هريرة ، قال : إذا أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكُلْ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن إبي هريرة ، بنحوه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن أبي هريرة ، نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني سالم بن نوح العطار ، عن عمر ، يعني ابن عامر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلم فأخذ فقلت ، فكُلْ وإن أكل ثلثيه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت عبد الله ( ح ) وحدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكُلْ ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، بنحوه .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب أن نافعا حدثهم : أن عبد الله بن عمر كان لا يرَى بأكل الصيد بأسا ، إذا قتله الكلب أكل منه .
حدثني يونس به مرة أخرى ، فقال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد ، أن نافعا حدثهم عن عبد الله بن عمر ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا محمد بن أبي ذئب ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان لا يرى بأسا بما أكل الكلب الضاري .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن حميد بن عبد الله ، عن سعد ، قال : قلت : لنا كلاب ضوار يأكلن ويبقين ؟ قال : كل وإن لم يبق إلا بَضْعة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشجّ ، عن حميد ، قال : سألت سعدا ، فذكر نحوه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ أن التعليم الذي ذكره الله في هذه الاَية للجوارح ، إنما هو أن يعلم الرجل جارحه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد ، وطلبه إياه أغري ، أو إمساكه عليه إذا أَخذ من غير أن يأكل منه شيئا ، وألا يفرّ منه إذا أراده ، وأن يجيبه إذا دعاه ، فذلك هو تعليم جميع الجوارح طيرها وبهائمها . وإن أكل من الصيد جارحة صائد ، فجارحه حينئذٍ غير معلم . فإن أدرك صاحبه حيّا فذكّاه حلّ له أكله ، وإن أدركه ميتا لم يحلّ له ، لأنه مما أكله السبع الذي حرّمه الله تعالى بقوله : وَما أكَلَ السّبُع ولم يدرك ذكاته .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم بن سليمان الأحول ، عن الشعبيّ ، عن عديّ بن حاتم ، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصيد ، فقال : «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ فاذْكُرِ اسْمَ اللّه عَلَيْهِ ، فإنْ أدْرَكْتَهُ وقد قَتَلَ وأَكَلَ مِنْهُ ، فلا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئا ، فإنّما أمْسَكَ على نَفْسِهِ » .
حدثنا أبو كريب ، وأبو هشام الرفاعي ، قالا : حدثنا محمد بن فضيل ، عن بيان بن بشر ، عن عامر ، عن عديّ بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب ؟ فقال : «إذَا أرْسَلْتَ كِلابَكَ المُعَلّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْها ، فَكُلْ ما أمْسَكْنَ عَلَيْكَ وَإنْ قَتَلْنَ ، إلاّ أنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ ، فإنْ أكَلَ تَأْكُلْ ، فإنّي أخافُ أنْ يَكُونَ إنّمَا حَبَسَهُ على نَفْسِهِ » .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما :
حدثك به عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن موسى ، قال : حدثنا محمد بن دينار ، عن أبي إياس ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إذَا أرْسَلَ الرّجُلُ كَلْبَهُ على الصّيْدِ فَأدْرَكَهُ وَقَدْ أكَلَ مِنْهُ ، فَليْأكُلْ ما بَقِيَ » .
قيل : هذا خبر في إسناده نظر ، فإن سعيدا غير معلوم له سماع من سلمان ، والثقات من أهل الاَثار يقفون هذا الكلام على سلمان ويروونه عنه من قِبَله غير مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . والحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم ، كانت الجماعة الأثبات أحقّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم . وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرت من أنه إذا أكل من الصيد فغير معلّم ، فكذلك حكم كلّ جارحة في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلّم ، لا يحلّ له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته .
القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ .
يعني بقوله : فَكُلُوا مِما أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ : فكلوا أيها الناس مما أمسكتْ عليكم جوارحكم .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله حلال أكل كل ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلمة من الصيد الحلال أكله ، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه ، أدركت ذكاته فذُكي أو لم تدرك ذكاته حتى قتلته الجوارح ، بجرحها إياه أو بغير جرح . وهذا قول الذين قالوا : تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلّم الاستشلاء على الصيد وطلبه إذا أُشليت عليه وأخذَه ، وترك الهرب من صاحبها دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته . وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفا .
وقال آخرون : بل ذلك على الخصوص دون العموم ، قالوا : ومعناه : فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه . قالوا : فإن أكلت الجوارح منه بعضا وأمسكت بعضا ، فالذي أمسكت منه غير جائز أكله وقد أكلت بعضه لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه على أنفسها لا علينا ، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كل ما أمسكته جوارحنا المعلّمة عليه بقوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ دون ما أمسكته على أنفسها ، وهذا قول من قال : تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها ، أن تَسْتَشْلي للصيد إذا أُشليت فتطلبه وتأخذه ، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئا ، ولا تفرّ من صاحبها وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة ، ونذكر منهم جماعة آخرين في هذا الموضع .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يقول : كلوا مما قلتن . قال عليّ : وكان ابن عباس يقول : إن قتل وأكل فلا تأكل ، وإن أمسك فأدركته حيّا فذَكّه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن أكل المعلم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل من صيده .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَكُلوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ إذا صاد الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه ، فهو حلّ ، فإن أكل منه ، فيقال : إنما أمسك على نفسه ، فلا تأكل منه شيئا ، إنه ليس بمعلّم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحلّ لَهُمْ إلى قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ قال : إذا أرسلت كلبك المعلم أو طيرك أو سهمك ، فذكرت اسم الله ، فأخذ أو قتل ، فكل .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله فأمسك أو قتل فهو حلال ، فإذا أكل منه فلا تأكله ، فإنما أمسكه على نفسه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الشعبيّ ، عن عديّ ، قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قال : قلت يا رسول الله إن أرضى أرض صيد ؟ قال : «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمّيْتَ فكُلْ مما أَمْسَكَ عَلَيْكَ كَلْبَكَ ، وإنْ قَتَلَ ، فإنْ أَكَلَ فلا تَأْكُلْ فإنّه إنّما أمْسَكَ على نَفْسِهِ » .
وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره .
فإن قال قائل : وما وجه دخول «مِن » في قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، وقد أحلّ الله لنا صيد جوارحنا الحلال ، «ومن » إنما تدخل في الكلال مبعضة لما دخلت فيه ؟ قيل : قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية ، فقال بعض نحويي البصرة حين دخلت «من » في هذا الموضع لغير معنى ، كما تدخله العرب في قولهم : كان من مطر ، وكان من حديث . قال : ومن ذلك قوله : وَيُكفَرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ ، وقوله : ويُنزّلُ مِنَ السّماء مِنَ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ . قال : وهو فيما فسر : وينزل من السماء جبالاً فيها برد . قال : وقال بعضهم : وُينزّل مِنَ السّماء مِنْ جِبالٍ فيها مِنْ بَرَدٍ أي من السماء من برد ، بجعل الجبال من برد في السماء ، وبجعل الإنزال منها . وكان غيره من أهل العربية يُنكر ذلك ويقول : لم تدخل «من » إلا لمعنى مفهوم لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به ، وذلك أنها دالة على التبعيض . وكان يقول : معنى قولهم : «قد كان من مطر ، وكان من حديث » : هل كان من مَطَرٍ مَطَر عندكم ، وهل من حَدِيثٍ حُدّث عندكم . ويقول : معنى وَيُكَفّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ أي ويكفر عنكم من سيئاتكم ما يشار ويريد ، وفي قوله : ويُنَزّلُ مِنَ السّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فيجيز حذف «مِنْ » من مِنْ بَرَدٍ ولا يجز حذفها من «الجبال » ، ويتأوّل معنى ذلك : وينزّل من السماء أمثال جبال بردَ ، ثم أدخلت «من » في البرَد ، لأن البرَد مفسر عنده عن الأمثال : أعني : أمثال الجبال ، وقد أقيمت الجبال مقام الأمثال ، والجبال وهي جبال برَد ، فلا يجيز حذف «من » من الجبال ، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد أمثال جبال برد ، وأجاز حذف «مِنْ » من «البرد » ، لأن «البرد » مفسر عن الأمثال ، كما تقول : عندي رطلان زيتا ، وعندي رطلان من زيت ، وليس عندك الرطل وإنما عندك المقدار ، ف«مِنْ » تدخل في المفسر وتخرج منه . وكذلك عند قائل هذا القول : من السماء ، من أمثال جبال ، وليس بجبال . وقال : وإن كان أنزل من جبال في السماء من برد جبالاً ، ثم حذف «الجبال » الثانية و«الجبال » الأوّل في السماء جاز ، تقول : أكلت من الطعام ، تريد : أكلت من الطعام طعاما ، ثم تحذف الطعام ولا تسقط «من » .
والصواب من القول في ذلك ، أن «مِنْ » لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم ، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة لدلالة ما يظهر من الكلام عليها ، فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها ، فذلك قد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صحّ من الكلام . ومعنى دخولها في قوله : فَكُلُوا ممّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ للتبعيض إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحلّ الله لهم لحومه وحرم عليهم فرثه ودمه ، فقال جلّ ثناؤه : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ جوارحكم الطيبات التي أحللت لكم من لحومها دون ما حرّمت عليكم من خبائثه من الفَرْث والدم وما أشبه ذلك مما لم أطيبه لكم ، فذلك معنى دخول «من » في ذلك .
وأما قوله : وَيُكَفّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وأما دخولها في قوله : ويُنزّلُ مِنَ السّماءِ مِنْ جِبالٍ فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : واذْكُرُوا اسْمَ الله على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : واذكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : بسم الله ، وإن نسيت فلاحرج .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ قال : إذا أرسلته فسمّ عليه حين ترسله على الصيد .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ .
يعني جلّ ثناؤه : واتقوا الله أيها الناس فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه ، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها ، أو تَطعَموا ما لم يسمّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحد الله من خلقه ، أو ذبحوه ، فإن الله قد حرّم ذلك عليكم فاجتنبوه . ثم خوّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره فقال : اعلموا أن الله سريع حسابه لمن حاسبه على نعمته عليه منكم وشكر الشاكر منكم ربه ، على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى ، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم فيحيط به ، لا يخفى عليه منه شيء ، فيجازي المطيع منك بطاعته والعاصي بمعصيته ، وقد بين لكم جزاء الفريقين .
وسبب نزول قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد في البيت كلباً فلم يدخل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ادخل فقال أنا لا أدخل بيتاً فيه كلب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب{[4452]} ؟ .
قال القاضي أبو محمد : وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كان المتولي لقتل الكلاب ، وحكاه أيضاً عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفاً عليهما وظاهر الآية أن سائلاً سأل عما أحل للنا س من المطاعم لأن قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك ، وهو صلى الله عليه وسلم مبين الشرع ، فإنما يجاوب مادّاً أطناب التعليم لأمته ، و { الطيبات } الحلال ، هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراعى مستلذاً كان أم لا ، وقال الشافعي : { الطيبات } الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام .
وقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي{[4453]} ، ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده ، فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيماً فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم ، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف ، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال : جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار }{[4454]} أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة ، وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك ، وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال : وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال : لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال ( إذا أمسك عليك فكل ){[4455]} ، وقال الضحاك والسدي : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيماً فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي . وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال ابن راهويه ، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم .
وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه ، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم : وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ، وتأول هؤلاء قوله تعالى : { مما أمسكن عليكم } [ المائدة : 4 ] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه ، خاصة في البازي .
قال القاضي أبو محمد : كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب وأن يشلى فينشلي ، وإذا كان الجارح يشرب من دم الصيد فجمهور الناس على أن ذلك الصيد يؤكل ، وقال عطاء : ليس شرب الدم بأكل . وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري .
قال القاضي أبو محمد : وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذاً وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم . وأما الطير فقال ربيعة : ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري .
قال القاضي أبو محمد : لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي ، وقال أصحاب أبي حنيفة : إذا صار الكلب وأمسك ثلاث مرات ولاًء فقد حصل منه التعليم ، قال ابن المنذر : وكان النعمان لا يحد في ذلك عدداً ، وقال غيرهم : إذ فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلماً وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري ، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه ، ومالك رحمه الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلماً قالوا : وذلك مثل شفرته ، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى : { تناله أيديكم ورماحكم }{[4456]} قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى ، وقال ابن وهب وأشهب : صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته ، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابىء ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسياً فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس ، وقال أبو ثور فيها قولين : أحدهما كقول هؤلاء ، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز ، وقرأ جمهور الناس «وما عَلمتم » بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «عُلِّمتم » بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها ، و { الجوراح } الكواسر على ما تقدم ، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا { الجوارح } مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف ، أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكَلّبين » بفتح الكاف وشد اللام ، والمكلب معلم الكلاب وُمضريها ، ويقال لمن يعلم غير كلب : مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب ، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكْلبين » بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال : أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه ، وقال بعض المفسرين : المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب .
قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بمحرر .
{ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
أي يعلمونهن من الحيلة في الاصطياد والتأني لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه الله الإنسان و «من » للتبعيض ، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية وأنث الضمير في { تعلمونهن } مراعاة للفظ { الجوارح } إذ هو جمع جارحة ، وقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } يحتمل أن يريد مما أمسكن فلم يأكلن منه شيئاً . ويحتمل أن يريد مما «أمسكن » وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك ، وقوله تعالى : { واذكروا اسم الله عليه } أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد ، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد ، فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمداً أو نسياناً لم تؤكل ، وممن رويت عنه كراهية ما لم يسم عليه الله نسيانا الشعبي ، نسياناً الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور ، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفاً لم تؤكل وإن تركها عامداً لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم : أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامداً فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسياً سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة ، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر ، وقال قوم : إن صلى مع ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فجائز ، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة ، وتحتمل الآية أن تكون وعيداً بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب ، ويحتمل أن يريد ب { الحساب } المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله .