28- إذا كان الله - سبحانه وتعالى - هو - وحده - مالك الملك ، ويعز ويذل ، وبيده وحده الخير والخلق والرزق ، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم ، متجاوزين نصرة المؤمنين ؛ لأن في هذا خذلاناً للدين وإيذاء لأهله ، وإضعافاً للولاية الإسلامية ، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شيء ، ولا يرضى مؤمن بولايتهم إلا أن يكون مضطرا لذلك ، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم . وعلى المؤمنين أن يكونوا في الولاية الإسلامية دائماً وهي ولاية الله ، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة . وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه في الدنيا ولا في الآخرة .
قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } . قال ابن عباس رضي الله عنه : كان الحجاج بن عمرو ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد يبطنون ، بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في المنافقين ، عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم .
قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين . فقوله تعالى : { فليس من الله في شيء } أي ليس من دين الله في شيء ، ثم استثنى .
قوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } يعني : إلا أن تخافوا منهم مخافة ، قرأ مجاهد ، ويعقوب " تقية " على وزن بقية لأنهم كتبوها بالياء ولم يكتبوها بالألف ، مثل حصاة ونواة وهي مصدر يقال : تقيت تقاة ، وتقى تقية وتقوى ، فإذا قلت : اتقيت كان المصدر الاتقاء ، وإنما قال : " تتقوا " من الاتقاء ، ثم قال : " تقاة " ولم يقل اتقاء ، لأن معنى اللفظين إذا كان واحداً يجوز إخراج مصدر أحدهما على لفظ الآخر ، كقوله تعالى ( وتبتل إليه تبتيلا ) ومعنى الآية أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً ، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين . والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل ، وسلامة النية . قال الله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثم هذا رخصة ، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم ، وأنكر قوم التقية اليوم ، قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في جدة بالإسلام قبل استحكام الدين ، وقوة المسلمين . فأما اليوم ، فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم . وقال يحيى البكاء : قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج إن الحسن كان يقول : لكم تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان ؟ فقال سعيد : ليس في الإسلام تقية إنما التقية في أهل الحرب .
قوله تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار ، وارتكاب المنهي ، ومخالفة المأمور .
وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده مالك الملك ، وأنه على كل شيء قدير ، عقب ذلك بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه بسبب قرابة أو صداقة أو نحوهما ، فقال - تعالى- : { لاَّ يَتَّخِذِ . . . ) .
أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات :
منها أن جماعة من اليهود كانوا يصادقون جماعة من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعيد بن خيشمة لأولئك النفر من الأنصار : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا ملازمتهم ومباطنتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية " .
وقوله { أَوْلِيَآءَ } جمع ولي ، والولاء والتوالى - كما يقول الراغب : أن يحصل شيئان فصاعداً حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ، ومن حين النسبة ومن حين الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد .
والولاية - بكسر الواو - النصرة والولاية - تولى الأمر ، وقيل هما بمعنى واحد " .
و " لا " ناهية . والفعل " يتخذ " مجزوم بها ، وهو متعد لمفعولين :
والمعنى : لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء ونصراء ، بل عليهم أن يراعوا ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين ، وأن يقدموها على ما بينهم وبين الكفار من قرابة أو صداقة أو غير ذلك من ألوان الصلات لأن في تقديم مصلحة الكافرين على مصلحة المؤمنين تقديما للكفر على الإيمان ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يصدر منه ذلك .
وقد ورد مثل هذا النهي فى كثير من الآيات ومن ذلك قوله - تعالى - { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } وقوله- تعالى- { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال الألوسي : وقوله { مِن دُونِ المؤمنين } حال من الفاعل ، أى متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ، ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والَوْا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع . أو لأن ذكره للإشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون ، وفى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار " .
قالوا : والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم ، وأما ما عدا ذلك كالنجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهي ، لأنها ليس معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين " .
وكرر - سبحانه - لفظ " المؤمنين " بأداة التعريف أل للإشارة إلى أن الثاني هو عين الأول ، وفي ذلك إشعار بأن المؤمنين الذين يتخذون الكافرين أولياء ونصراء ، يتركون أنفسهم ويهملونها ويتخذون من عدونهم نهاية لها .
ثم قال - تعالى - { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أى : ومن يتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين ، فإنه في هذه الحالة يكون بعيدا عن ولايته لله ، ومنسلخا منها رأسا وليس بينه وبين الله صلة تذكر .
فاسم الإشاراة { ذلك } يعود على الاتخاذ المفهوم من الفعل يتخذ ؟
والتنوين في { شَيْءٍ } للتحقير أى ليس في شىء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية ، لأن موالاة الولى وموالاة عدوه متنافيان كما قال الشاعر :
تود عدوى ثم تزعم أنني . . . صديقك ليس النوك عنك بعازب
و " من " شرطية ، و { يَفْعَلْ } فعل الشرط ، وجوابه " فليس من الله في شيء " واسم ليس ضمير يعود على " من " وقوله { فِي شَيْءٍ } خبرها . أى فليس الموالى في شيء كائن من الله - تعالى - والجملة معترضى بين المستثى والمستثنى منه .
وقال - سبحانه - { فَلَيْسَ مِنَ الله } ولم يقل " فليس من ولاية الله " للإشعار بأن من اختار مناصرة المشركين وموالاتهم فقد ترك ذات الله - تعالى - وكان مؤثرا لقوة الكفار على قوة العزيز الجبال ، فهو في هذه الحالة يعاند الله نفسه ، ثم استثنى - سبحانه - من أحوال النهى حال التقية فقال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } وقوله : { تَتَّقُواْ } من الاتقاء بمعنى تجنب المكروه ، وعدى بمن لتضمينه معنى تخافوا { تُقَاةً } مصدر تقيته - كرميته - بمعنى اتقيته ووزنه فعلة ويجمع على تقى : كرطبة ورطب . وأصل تقاة : وقية من الوقاية . فأبدلت الواو المضمومة تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها .
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال ، والتقدير : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين أولياء في أى حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم منهم أى إلا أن تخافوا منهم مخافة . أو إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه من الضرر في النفس أو المال أو العرض .
كأن يكون الكفار غالبين ظاهرين . أو كنتم في قوم كفار فيرخص لكم في مداراتهم باللسان ، على ألا تنطوى قلوبكم على شيء من مودتهم ، بل دارونهم وأنتم لهم كارهون . وألا تعملوا ما هو محرم كشرب الخمر ، أو إطلاعهم على عورات المسلمين أو الانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين ، وإذن فلا رخصة إلا في المداراة باللسان . ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال - تعالى - { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير } .
والتحذير : هو التخويف لأجل الحذر واليقظة ، من أن يقع الإنسان في قول أو عمل منهى عنه .
ونفسه : منصوب على نزع الخافض . والمصير : المرجع والمآب .
أى : ويحذركم الله - تعالى - من نفسه أى من عقابه وانتقامه ، وإليه - سبحانه - مرجعكم ومصيركم فيحاسبكم على أعمالكم .
وقوله { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } فيه ما فيه من التهديد والتخويف من موالاة الكافرين ، لأن التحذير من ذات الله ، يقتضى الخوف ووقع الرهبة في النفس من الذات العلية ، وذلك كما يقال : - والله المثل الأعلى - احذر الأسد ، فإن هذا القائل يريد أن ذات الأسد في كل أحوالها موهوبة ، ولأن كلمة " نفس " تقال لتأكيد التعبير عن الذات .
أى أن التحذير قد جاءكم من الله - تعالى - لا من غيره فعليكم أن تمتثلوا أمره ، فإن إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد .
وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقون فاحذروا التعرض لعقابه ، وقوله { وَإِلَيَّ المصير } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه . هذا ، ولبعض العلماء كلام طويل عن التقية - وهى أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن مخافة الأذى الشديد - فقد قال الآلوسى ما ملخصه :
" وفي الآية دليل على مشروعية التقية ، وعرفوها بالمحافظة على النفس أو العرض من شر الأعداء . .
الأول : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم .
والثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والإمارة ، ومن هنا صارت التقية قسمين :
أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له فيه أن يظهر دينه لتعرض المخالفين له بالعداوة فإنه يجب عليه أن يهاجر من ذلك المكان إلى مكان يستطيع فيه أن يظهر دينه ، إلا إذا كان ممن لهم عذر شرعي كالنساء والصبيان والعجزة فقد قال تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } وإذا كان التخويف بالقتل ونحوه جاز له المكث والموافقة لهم ظاهرا بقدر الضرورة مع السعى في حيلة للخروج والفرار بدينه .
والموافقة لهم حينئذ رخصة ، وإظهار ما في قلبه عزيمة فلو مات مات شهيداً بدليل ما روي من أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : " أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، نعم ، نعم فقال له : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم . ثم دعا الثاني فقال له أتشهد أني رسول الله ؟ قال إنى أصم ، قالها ثلاثا ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه فهنيئا له . وأما الآخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه " .
وأما القسم الثانى وهو من كانت عداواته بسبب المال والإمارة وما إلى ذلك ، فقد اختلف فى وجوب هجرة صاحبه ، فقال بعضهم تجب لأن الله قد نهى عن إضاعة المال . وقال آخرون لا تجب ، لأنها لمصلحة دنيوية ولا يعود على من تركها نقصان في الدين .
وعد قوم من باب التقية الجائزة مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم - بشرط أن لا تكون هذه المدارة مخالفة لأصول الدين وتعاليمه - فإن كانت مخالفة لذلك فلا تجوز .
روى البخاري عن عائشة قالت : " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس أخو العشيرة ، ثم أذن له فألان له القول ، فقلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ؟ فقال : " يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه " إلى غير ذلك من الأحاديث . لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ، ويرتكب المنكر ، وتسيء الظنون .
استئناف عُقب به الآي المتقدمة ، المتضمّنة عداء المشركين للإسلام وأهله ، وحسد اليهود لهم ، وتولّيهم عنه : من قوله : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم } [ آل عمران : 116 ] إلى هنا .
فالمناسبة أنّ هذه كالنتيجة لما تقدمها :
نَهى الله المؤمنين بعد ما بيّن لهم بغي المخالفين وإعراضهم أنْ يتخذوا الكفّار أولياءَ من دون المؤمنين ؛ لأنّ اتّخاذهم أولياء بعد أنْ سَفَّه الآخرون دينهم وسَفَّهوا أحلامهم في اتِّباعه يعدّ ضعفاً في الدين وتصويباً للمعتدين .
وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك ، والكافرين والذين كفروا على المشركين ، ولعلّ تعليق النهي عن الاتّخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأنّ المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات ، وأنساب ، ومودّات ، ومخالطات مالية ، فكانوا بمظنّة الموالاة مع بعضهم . وقد علم كل سامع أنّ من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولّي المؤمنين إياه كتولّيهم المشركين . وقد يكون المراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين : مثل المراد من قوله : { ومن يكفر بآيات اللَّه فإنّ اللَّه سريع الحساب } [ آل عمران : 19 ] ، فلذلك كله قيل : إن الآية نزلت في « حاطب بن أبي بلتعه » وكان كان من أفاضل المهاجرين وخلّص المؤمنين ، إلا أنه تأول فكتب كتاباً إلى قريش يعلمهم بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، وقيل : نزلت في أسماءَ ابنة أبي بكر لما استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بِرّ والدتها وصِلتِها ، أي قبل أن تجيء أمّها إلى المدينة راغبة ؛ فإنّه ثبت في « الصحيح » أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : صِلِي أمَّكِ . وقيل : نزلت في فريق من الأنصار كانوا متولِّين لكعْب بن الأشرف ، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيق ، وهما يهوديان بيثرب . وقيل : نزلت في المنافقين وهم ممّن يتولى اليهود ؛ إذ هم كفّار جهتهم ، وقيل : نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلف مع اليهود ، فلما كان يوم الأحزاب ، قال عُبادة للنبيء صلى الله عليه وسلم إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يَخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو . وقيل : نزلت في عمار بن ياسر لما أخذه المشركون فعذّبوه عذاباً شديداً ، فقال ما أرادوه منه ، فكَفُّوا عنه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " كيف تجد قلبك " قال : « مطمئناً بالإيمان » فقال : فإنْ عَادُوا فعُد .
وقوله : { من دون المؤمنين } ( من ) لتأكيد الظرفية .
والمعنى : مباعدين المؤمنين أي في الولاية ، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر ، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياءَ دون المؤمنين ، أي ولاية المؤمن الكفّار التي تنافي ولايته المؤمنين ، وذلك عندما يكون في تولّي الكافرين إضرار بالمؤمنين ، وأصل القيود أن تكون للاحتراز ، ويدل لذلك قوله بعده : « ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء » لأنّه نفيٌ لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال ، والعرب تقول : « أنت منّي وأنا منك » في معنى شدة الاتّصال حتى كأنّ أحدهما جزء من الآخر ، أو مبتدأ منه ، ويقولون في الانفصال والقطيعة : لست منّي ولست منك ؛ قال النابغة :
فقوله : { في شيء } تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتّصال بأغلب الأحوال فالمعنى أنّ فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله ، وهذا ينادي على أنّ المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر ، وهو الحال التي كان عليها المنافقون ، وكانوا يظنّون ترويجها على المؤمنين ، ففضحهم الله تعالى ، ولذلك قيل : إنّ هذه الآية نزلت في المنافقين ، ومِمَّا يدل على ذلك أنّها نظير الآية الأخرى : { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً إنّ المنافقين في الدّرَك الأسفل من النار } [ النساء : 144 ، 145 ] .
وقيل : لا مفهوم لقوله : { من دون المؤمنين } لأنّ آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقاً : كقوله : { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } [ المائدة : 51 ] وقوله { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء } [ المائدة : 57 ] وإلى هذا الوجه مالَ الفخر .
واسم الإشارة في قوله : { ذلك } بمعنى ذلك المذكور ، وهو مضمون قوله : { أولياء من دون المؤمنين } .
والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقاً ، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط ، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام ، وقد استخلصتُ من ذلك ثمانية أحوال .
الحالة الأولى : أن يتّخذ المسلم جماعة الكفر ، أو طائفته ، أولياء له في باطن أمره ، ميلاً إلى كفرهم ، ونواء لأهل الإسلام ، وهذه الحالة كفر ، وهي حال المنافقين ، وفي حديث عتبان بن مالك : أنّ قائلاً قال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين مالك بن الدُّخْشُن " ، فقال آخر : « ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله » فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقل ذلك أما سمعتَه يقول لا إله إلاّ الله يبْتغي بذلك وجه الله " فقال القائل : « الله ورسوله أعلم فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين » . فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلاّ الله .
الحالة الثانية : الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم ، في وقت يكون فيه الكفّار متجاهرين بعداوة المسلمين ، والاستهزاء بهم ، وإذاهم كما كان معظم أحوال الكفّار ، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين ، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها ، إلاّ أنّ ارتكبها إثم عظيم ، لأنّ صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام ، على أنّه من الواجب إظهار الحميّة للإسلام ، والغيرة عليه ، كما قل العتابي :
تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني *** صديقك إنّ الرأي عنك لَعَازب
وفي مثلها نزل قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء } [ المائدة : 9 ] قال ابن عطية : كانت كفّار قريش من المستهزئين » وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى : { إنّما ينهاكم اللَّه عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم } [ الممتحنة : 9 ] الآية وقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] الآية نزلت في قوم كان ، بينهم وبين اليهود ، جوار وحلف في الجاهلية ، فداوموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم ، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف ، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيْق ، وكانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحالة الثالثة : كذلك ، بدون أن يكون طوائف الكفّار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم ، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى : { ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا ، الذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] وكذلك كان حال الحبشة فإنّهم حموا المؤمنين ، وآووهم ، قال الفخر : وهذه واسطة ، وهي لا توجب الكفر ، إلاّ أنّه منهيّ عنه ، إذ قد يجرّ إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين .
الحالة الرابعة : موالاة طائفة من الكفّار لأجل الإضرار بطائفة معيّنة من المسلمين مثل الانتصار بالكفّار على جماعة من المسلمين ، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة ، فقد قال مالك ، في الجاسوس يتجسس للكفّار على المسلمين : إنّه يُوكل إلى اجتهاد الإمام ، وهو الصواب لأنّ التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غروراً ، ويفعله طمعاً ، وقد يكون على سبيل الفلتة ، وقد يكون له دأباً وعادة ، وقال ابن القاسم : ذلك زندقة لا توبة فيه ، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق ، وهو الذي يُظهر الإسلام ويسر الكفار ، إذَا اطُّلع عليه ، وقال ابن وهب رِدّة ويستتاب ، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر .
وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمْتونيين ، فيقال : إنّ فقهاء الأندلس أفتوا أميرَ المسلمين علياً بنَ يوسف بنِ تاشفين ، بكفر ابن عبّاد ، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنّه استتابه .
الحالة الخامسة : أن يتّخذ المؤمنون طائفة من الكفّار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم ، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعَرْضِهم النصرة لهم ، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها : ففي المدوّنة قال ابن القاسم : لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافرٍ تبعه يوم خروجه إلى بدر : " ارجع فلن أستعين بمشرك " وروى أبو الفرج ، وعبد الملك بن حبيب : أنّ مالكاً قال : لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة ، قال ابن عبد البر : وحديث « لَن أستعين بمشرك » مختلف في سنده ، وقال جماعة : هو منسوخ ، قال عياض : حملُه بعض علمائنا على أنّه كان في وقت خاص واحتجّ هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين ، وفي غزوة الطائف ، وهو يومئذ غير مسلم ، واحتجوا أيضاً بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنّ أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود : « إنَّا وأنتم أهل كتاب وإنّ لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإمّا قاتلتم معنا وإلاّ أعرتمونا السلاح » وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، والليث ، والأوزاعي ، ومن أصحابنا من قال : لا نطلب منهم المعونة ، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم : لأنّ الإذن كالطلب ، ولكن إذا أخرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم ، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج ، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد ، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة : أنّه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين ، قال ابن رشد : وهذا لا وجه له ، وعن أصبغ المنع مطلقاً بلا تأويل .
الحالة السادسة : أن يتّخذ واحد من المسلمين واحداً من الكافرين بعينه وَليّاً له ، في حسن المعاشرة أو لقرابة ، لكمال فيه أو نحو ذلك ، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين ، وذلك غير ممنوع ، فقد قال تعالى في الأبوين : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } [ لقمان : 15 ] واستأذنتْ أسماءُ النبي صلى الله عليه وسلم في برّ والدتها وصِلتها ، وهي كافرة ، فقال لها : « صِلِي أمّك » وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم } [ الممتجنة : 8 ] قيل نزلت في والدة أسماءَ ، وقيل في طوائف من مشركي مكة : وهم كنانة ، وخزاعة ، ومزينة ، وبنو الحرث ابن كعب ، كانوا يودّون انتصار المسلمين على أهل مكة . وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي ، لما يبديه من محبة النبي ، والتردّد عليه ، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة ، وكانوا ثلاثمائة فارس ، عن قتال المسلمين ، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } الآية .
الحالة السابعة : حالة المعاملات الدنيوية : كالتجارات ، والعهود ، والمصالحات ، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه .
الحالة الثامنة : حالة إظهار الموالاة لهم لاتّقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } .
والاستثناء في { إلاّ أن تتّقوا } منقطع ناشىء عن جملة { فليس من الله في شيء } لأنّ الاتّقاء ليس ممّا تضمنه اسم الإشارة ، ولكنّه أشبَه الولاية في المعاملة .
والاتّقاء : تجنّب المكروه ، وتعديته بحرف ( مِن ) إمّا لأنّ الاتّقاء تستّر فعديّ بمن كما يعدّى فعل تستّر ، وإمّا لتضمينه معنى تخافوا .
و { تُقاةً } قرأه الجمهور : بضم المثنّاة الفوقية وفتح القاف بعدها ألف ، وهو اسم مصدر الاتّقاء ، وأصله وُقَيَة فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة تبعاً لفعل اتّقى إذ قلبت واوه تاء ليتأتّى إدغامها في تاء الافتعال ، ثم أتبعوا ذلك باسم مصدره كالتُّجاة والتكْلة والتوءَدَة والتخْمة إذ لا وجه لإبدال الفاء تاء في مثل تقاة إلاّ هذا . وشذّ تُراث . يدل لهذا المقصد قول الجوهري : « وقولهم تُجاهك بني على قولهم اتّجه لهم رأي » . وفي « اللسان » في تخمة ، « لأنّهم توهّموا التاء أصلية لكثرة الاستعمال » . ويدل لذلك أيضاً قرن هذه الأسماء مع أفعالها في نحو هذه الآية ، ونحو قوله : { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] وقرأه يعقوب بفتح الفوقية وكسر القاف وفتح التحتية مشدّدة بوزن فَعِيلة .
وفائدة التأكيد بالمفعول المطلق هنا : الإشارة إلى تحقّق كون الحالة حالة تَقِية ، وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يَجدوا سبيلاً للهجرة ، قال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكّنت طوائف منهم من الفرار ، وطوائف من استئذان الكفّار في الهجرة إلى بلاد الإسلام فأذن لهم العدوّ ، وكذلك يجب أن تكون التُّقاة غير دائمة لأنّها إذا طالت دخل الكفر في الذراري .
وقوله : { ويحذركم الله نفسه } تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها .
وانتصاب { نفسَه } على نزع الخافض وأصله ويحذّركم الله من نفسه ، وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسدَ ، وأصله أحَذِّرك من الأسد . وقد جعل التّحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعمّ في الأحوال ، لأنّه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهّم أنّ لله رضا لا يضرّ معه ، تعمّد مخالفة أوامره ، والعربُ إذا أرادت تعميم أحوال الذات علّقت الحكم بالذات : كقولهم لولا فلان لهلك فلان ، وقوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون إلى قوله لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } [ الفتح : 25 ] ومن هذا القبيل تعليق شرط لولا على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد لولا .
وسيجيء الكلام على صحة إطلاق النفس مضافاً إلى الله تعالى في سورة العقود عند قوله تعالى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } [ المائدة : 116 ] .
وهذا إعذار وموعظة وتهديد بالعقاب على مخالفة ما نهاهم الله عنه .
و { المصير } : هو الرجوع ، وأريد به البعث بعد الموت وقد عَلِم مثبتو البعث لا يكون إلاّ إلى الله ، فالتقديم في قوله : { وإلى الله } لمجرد الاهتمام ، وهذا تعريض بالوعيد أكد به صريح التهديد الذي قبله .