هذه السورة مكية نزلت في مكة ، وتشتمل على 109 آيات ، وقد ابتدأت بالإشارة إلى مكانة الكتاب الكريم ، وما يقوله المشركون في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الكون وآيات الله تعالى فيه ، والجزاء يوم القيامة ، وسنة الله تعالى بالنسبة للكافرين ، والتنديد عليهم في عقائدهم ، وحال الناس في الضراء والسراء ، وقدرة الله تعالى على كل شيء ، وعجز الأوثان عن أي سيء . وفيها الإشارة إلى التحدي بأن يأتوا بسورة ولو مفتراة ، وفيها التهديد الشديد بعذاب الله تعالى ، وأحوال نفوس الناس ، ومراقبة الله تعالى لأعمالهم ، وانتقلت بعد ذلك إلى التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم لألمه من كفرهم ، مع قيام الحجة القاطعة عليهم ، وسري عنه بذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فجاءت قصة نوح ، وقصة موسى وهارون وفرعون وبني إسرائيل ، ثم إشارة إلى قصة يونس ، وبها سميت السورة ، واتجه البيان في السورة من بعد ذلك إلى النبي لتمام العظة والاعتبار .
1- هذه حروف بدأ الله تعالى بها السورة ، وهو أعلم بمراده منها ، وهي مع ذلك تشير إلى أن القرآن مُكَوَّن من مثل هذه الحروف ، ومع ذلك عجزتم عن أن تأتوا بمثله ، وهذه الحروف الصوتية تثير انتباه المشركين فيستمعون إليه ، وإن اتفقوا على عدم استماع هذه الآيات الكريمة ونحوها التي هي آيات القرآن المحكم في أسلوبه ومعانيه ، الذي اشتمل على الحكمة وما ينفع الناس في أمور دينهم ودنياهم .
سورة يونس عليه الصلاة والسلام مكية وآياتها تسع ومائة إلا ثلاث آيات من قوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك . . . } إلى آخرها .
قوله تعالى : { الر } . و { آلمر } قرأ أهل الحجاز ، والشام وحفص : بفتح الراء فيهما . وقرأ الآخرون : بالإمالة . قال ابن عباس والضحاك : { آلر } أنا الله أرى ، و والمراد أنا الله أعلم وأرى ، وقال سعيد بن جبير : { الر ، وحم ، ون } حروف اسم الرحمن ، وقد سبق الكلام في حروف التهجي . { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، أي : هذه ، وأراد بالكتاب الحكيم القرآن ، وقيل : أراد بها الآيات التي أنزلها من قبل ذلك ، ولذلك قال : { تلك } ، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث ، والحكيم : المحكم بالحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، فعيل بمعنى مفعل ، بدليل قوله :{ كتاب أحكمت آياته } [ هود-1 ] . وقيل : هو بمعنى الحاكم ، فعيل بمعنى فاعل ، دليله قوله عز وجل : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس } [ البقرة-213 ] . وقيل : هو بمعنى المحكوم ، فعيل بمعنى المفعول ، قال الحسن : حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وبالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة " يونس " –عليه السلام- حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية وآداب عالية ، وهدايات جامعة وإرشادات حكيمة ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق . .
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها ، تكون بمثابة التعريف بها ، وبمقاصدها الإجمالية .
وأحمد الله –تعالى- أجزل الحمد وأوفاه ، أن وفقني قبل ذلك لتفسير سور : الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة " . . .
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، إنه أكرم مسئول ، وأعظم مأمول .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة يونس –عليه السلام- هي السورة العاشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : " الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة " .
2- وكان نزولها بعد سورة " الإسراء " .
3- وعدد آياتها : تسع ومائة آية عند الجمهور . وفي المصحف الشامي مائة وعشر آيات .
4- وسميت بهذا الاسم تكريما ليونس –عليه السلام- ولقومه الذين آمنوا به واتبعوه قبل أن ينزل بهم العذاب ، وفي ذلك تقول السورة الكريمة : [ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ]( {[1]} ) .
5- وسورة يونس من السور المكية ، وعلى هذا سار المحققون من العلماء .
وقيل إنها مكية سوى الآية الأربعين منها وهي قوله –تعالى- [ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ] والآيتين الرابعة والتسعين ، والخامسة والتسعين وهما قوله –تعالى- : [ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ] .
قال صاحب المنار : وقال السيوطي في الإتقان : استثنى منها الآيات 40 ، 94 ، 95 ، فقيل إنها مدنية نزلت في اليهود . وقيل : من أولها إلى رأس أربعين آية مكي ، والباقي مدني ، حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء .
ثم قال صاحب المنار : وأقول إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية ، وهو مما لم تثبت به رواية ، وكون المراد بالذين يقرأون الكتاب في الآية ( 94 ) اليهود لا يقتضى أن تكون نزلت بالمدينة ، وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : أن المراد بالشك فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا أشك ولا أسأل " ، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري .
وثانيهما : أن هذا المعنى نزل في سورة مكية أخرى ، كقوله –تعالى- في سورة الإسراء : [ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ]( {[2]} ) .
وقوله –سبحانه- في سورة الأنبياء : [ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ]( {[3]} ) .
والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة يونس جميعها مكية ، كما قال المحققون من العلماء ، لأن الذين قالوا بوجود آية أو آيات مدنية فيها لم يأتوا برواية صحيحة تصلح مستندا لهم ، ولأن السورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية ، فهي تهتم بإثبات وحدانية الله ، وبإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم وبإثبات أن هذا القرآن من عند الله ، وأن البعث حق ، وأن ما أورده المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية ، قد تولت السورة الكريمة دحضه بأسلوب منطقي رصين . .
والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وخشوع ، يراها في مطلعها تتحدث عن سمو القرآن الكريم في هدايته وإحكامه ، وعن موقف المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ، وعن الأدلة على وحدانية الله وقدرته .
قال –تعالى- : [ الر . تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ، أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ] .
ثم نراها في الربع الثاني منها تصور بأسلوب حكيم طبيعة الإنسان فتقول [ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه ، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ] الآية 12 .
ثم تحكي مصارع الظالمين ، وأقوالهم الفاسدة ، ورد القرآن عليهم فتقول : [ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ] .
وبعد أن تمضي السورة الكريمة في دحض أقوال المشركين ، وفي بيان الطبائع البشرية ، نراها في مطلع الربع الثالث . تصور لنا حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة الضالين ، فتقول : [ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة يمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ] .
ثم تأمر السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين بأسلوب توبيخي عمن يرزقهم من السموات والأرض ، وعمن يبدأ الخلق ثم يعيده ، وعمن يهدي إلى الحق ، فتقول : [ قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ، ومن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ومن يدبر الأمر ، فسيقولون الله ، فقل أفلا تتقون . فذلكم الله ربكم الحق فإذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ] .
وبعد أن تتحدى السورة الكريمة المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم . وتعلن عن عجزهم على رءوس الأشهاد ، تأخذ في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تصوير جانب من أحوالهم في حياتهم وبعد مماتهم فتقول :
[ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ، كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالين . ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين . وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون . . ] .
ثم نراها في الربع الرابع توجه نداء إلى الناس كافة تدعوهم فيه إلى الإقبال على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من مواعظ فيها الشفاء لما في الصدور ، وفيها الهداية لما في النفوس فنقول :
[ يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ] .
ثم تسوق جانبا من مظاهر قدر الله النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، فتقول : [ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ] .
وفي مطلع الربع الخامس منها تحكي لنا جانبا من قصة نوح –عليه السلام- مع قومه ، وكيف أنه نصحهم ، وذكرهم بآيات الله ، ولكنهم لم يستمعوا إليه ، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان قال –تعالى- :
[ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ] .
ثم تحكي لنا جانبا من قصة موسى –عليه السلام- مع فرعون ، ومن المحاورات ، والمجادلات التي دارت بينهما ، ومن الدعوات المستجابة التي توجه بها موسى إلى خالقه ، فتقول : [ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال قد أجيبت دعوتكا فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ] .
ثم نراها في الربع السادس والأخير منها ، تحكي لنا ما قاله فرعون عندما أدركه الغرق ، كما تخبرنا عن النهاية الطيبة التي لقوم يونس –عليه السلام- بسبب إيمانهم ، ثم تسوق ألوانا من مظاهر قدرة الله ، ومن حكمه العادل بين عباده ، ومن رعايته لأوليائه ورسله فتقول : [ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ] .
ثم تختم السورة الكريمة بتوجيه نداء إلى الناس تبين لهم فيه أن من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، وأن من ضل فإنما يضل عليها فتقول : [ قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ] .
تلك أهم المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنها نرى بوضوح أن السورة الكريمة قد عنيت بارزة بإثبات وحدانية الله وقدرته النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، تارة عن طريق مخلوقاته التي يشاهدونها كما في قوله –تعالى- : [ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . . . ] .
وتارة عن طريق اعترافهم بأن الله وحده هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما في قوله –تعالى- : [ قل من يرزقكم من السماء والأرض ، أم من يملك السمع والأبصار ، ومن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ] .
وتارة عن طريق لجوئهم إليه وحده لاسيما عند الشدائد والمحن ، كما حدث من فرعون عندما أدركه الغرق .
كذلك نرى السورة الكريمة قد عنيت بدعوة الناس إلى التدبر والتفكر وإلى الاعتبار بمصارع الظالمين ، وإلى عدم التعلق بزخرف الحياة الدنيا . .
[ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون . إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ] .
كذلك نرى السورة الكريمة قد اهتمت بالرد على الشبهات التي أثارها المشركون حول القرآن الكريم ، وحول البعث وما فيه من ثواب وعقاب . . .
فأثبتت أن هذا القرآن من عند الله ، وتحدتهم أن يأتوا بسورة من مثله فقالت : [ أم يقولون افتراء ، قل فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ] .
كما أثبتت أن يوم القيامة حق ، وأنهم لن ينجيهم من عذاب الله في ذلك اليوم ندمهم أو ما يقدمونه من فداء فقالت : [ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ] .
هذا ، والسورة الكريمة بعد كل ذلك تمتاز بأنها قد عرضت ما عرضت من هدايات وتوجيهات بأسلوب بليغ مؤثر ، تقشعر منه الجلود ، وتلين منه القلوب ، وتخشع له النفوس . . مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله . ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
سورة يونس من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي .
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين ، أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة .
فالسور التي افتتحت بحرف واحد ثلاثة ، وهى سورة : ص ، ق ، ن .
والسور التي افتتحت بحرفين تسعين ، وهي : طه ، طس ، يس ، وحم في ست سور ، هي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف .
والسور التي بتدئت بثلاثة أحرف ، ثلاث عشرة سورة ، وهى : ألم في ست سور هى : البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة ، والر في خمس سور هى : يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر ، وطسم في سورتين هما : الشعراء ، القصص .
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما : الأعراف ، الرعد ، وسورتان بدئتا بخمسة أحرف وهما : مريم ، والشورى .
فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة .
وهذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وإلى هذا الرأي ذهب ابن عباس - في إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان والثوري ، وغيرهم من العلماء . فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور .
ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وعن علي - رضي الله عنه - قال : " إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي " وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك ، بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين ، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوئل السور .
أما الرأي الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتي :
1 - أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " .
ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .
2 - وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدالة على انقضاء سورة . وابتداء أخرى .
3 - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته فمثلا " ألم " أصلها أنا الله أعلم .
4 - وقيل : إنها اسم الله الأعظم ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلوا من مقال . والتي أوصلها السيوطي في كتابه " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
5 - ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور ، للإِشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها . فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة .
وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيترتب على ذلك أن يسمعوا حكما ، وهدايات قد تكون سببا في إيمانهم . ولعل مما يشهد بصحة هذا الرأي : أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة ، تتحدث عن القرآن وعن كونه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أغلب المواضع .
ومن ذلك قوله - تعالى - : في أول سورة البقرة { الاما . ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } وقوله سبحانه في أول سورة هود : { الار كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وقوله - سبحانه - في أول سورة إبراهيم : { الار كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وهكذا نرى أن كثيرا من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة ، قد أعقبت هذا الافتتاح بالحديث الصريح أو الضمني عن القرآن الكريم ، وأن هذه السور إذا تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات وحدانية الله ، وإثبات صحة الرسالة المحمدية ، وإثبات أن هذا القرآن الذي هو معجزة الرسول الخالدة - منزل من عند الله - تعالى - .
هذه خلاصة لآراء العلماء في المراد بالحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية . ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب " الإِتقان " للسيوطي ، وإلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وإلى تفسير الآلوسى .
ثم قال - تعالى - { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } .
{ تِلْكَ } اسم إِشارة والمشار إليه الآيات . والمراد بهما آيات القرآن الكريم . ويندرج فيها ىيات السورة التي معنا .
والكتاب : مصدر كتب كالكتب ، وأصل الكتب : ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط والمراد به القرآن الكريم على الصحيح .
قال الآلوسى : " وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد " .
والحكيم - بزنة فعيل - مأخذو من الفعل حكم بمعنى منع . تقول حكمت الفرس أي وضعت الحكمة في فمها لمنعها من الجموح والنفور .
والمقصود أن هذا الكتاب ممتنع عن الفساد ، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " وفي وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه منها : أن الحكيم هو ذو الحكمة ، بمعنى شاتماله على الحكمة - فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر - ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم ، بدليل قوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ } ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم والإِحكام معناه المنع من الفساد ، فيكون المراد منه أنه لا تغيره الدهور أو المراد منه براءته من الكذب والتناقض .
والمعنى : تلك الآيات السامية ، والمنزلة عليك يا محمد ، هي آيات الكتاب ، المشتمل على الحكمة والصواب المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية .
وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها ، لأن الإِشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإِنزال ، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنزول القرآن عليه ، كما في قوله : - تعالى - : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ووعد الله - تعالى - لا يتخلف .
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
سورة يونس . هذه السورة هي مكية قال مقاتل إلا آيتين وهي{[1]} قوله تعالى' { فإن كنت في شك } ' نزلت بالمدينة وقال الكلبي هي مكية إلا قوله ' { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به } '{[2]} نزلت في اليهود بالمدينة . وقالت فرقة نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة .
تقدم في أول سورة البقرة ذكر الاختلاف في فواتح السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب هنا ، وفي هذا الموضع قول يختص به ، قاله ابن عباس وسالم بن عبد الله وابن جبير والشعبي : { الر } { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] و { ن } [ القلم : 1 ] هو الرحمن قطع اللفظ في أوائل هذه السورة{[5996]} . واختلف عن نافع في إمالة الراء والقياس أن لا يمال وكذلك اختلف القرّاء وعلة من أمال الراء أن يدل بذلك على أنها اسم للحرف وليست بحرف في نفسها وإنما الحرف «ر »{[5997]} .
وقوله تعالى : { تلك } قيل هو بمعنى هذه{[5998]} وقد يشبه أن يتصل المعنى ب { تلك } دون أن نقدرها بدل غيرها والنظر في هذه اللفظة إنما يتركب على الخلاف في فواتح السور فتدبره . و { الكتاب } قال مجاهد وقتادة : المراد به التوراة والإنجيل ، وقال مجاهد أيضاً وغيره : المراد به القرآن وهو الأظهر ، و { الحكيم } فعيل بمعنى محكم كما قال تعالى : { هذا ما لدي عتيد }{[5999]} أي ُمْعَتد ُمَعد ، ويمكن أن يكون «حكيم » بمعنى ذو حكمة فهو على النسب ، وقال الطبري فهو مثل أليم بمعنى مؤلم ثم قال : هو الذي أحكمه وبيّنه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : فساق قولين على أنهما واحد .
سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس ، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا . وذلك في قوله تعالى { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } . وتلك الخصوصية كرامة ليونس عليه السلام وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك . وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها .
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب{ ألر } . ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضا عن أن يقال : آلر الأولى وألر الثانية . وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل ألر ونحو ذلك .
وهي مكية في قول الجمهور . وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه . وفي الإتقان عن عطاء عنه أنها مدنية . وفي القرطبي عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } إلى قوله { حتى يروا العذاب الأليم } وجزم بذلك القمي النيسابوري . وفي ابن عطية عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما { فإن كنت في شك إلى قوله من الخاسرين } . وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى { ومنهم من يؤمن به إلى أعلم بالمفسدين } نزلت في شأن اليهود .
وقال ابن عطية : قالت فرقة : نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها بالمدينة . ولم ينسبه إلى معين . وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة ، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئي . وسيأتي التنبيه عليه .
وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار ، ومائة وعشر في عد أهل الشام .
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور . نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود . وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا } .
ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن ، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة ، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى { تلك آيات الكتاب الحكيم } إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله . وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله { قل فأتوا بسورة مثله } .
وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا .
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره ، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته ، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله .
وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء . فذلك إبطال أصول الشرك .
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات ، وبيان حكمة الجزاء ، وصفة الجزاء ، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس .
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله ، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا . فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول .
فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه .
ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل .
والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر ، وما في أحوال السير في البحر من الإلطاف .
وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها ، وأن الآخرة هي دار السلام .
واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الاخرة ، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها .
وإبطال إلهية غير الله تعالى ، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة .
وإثبات أن القرآن منزل من الله ، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة .
وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله ، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين .
وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل ، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم ، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب .
وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق .
وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون .
وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم .
ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون .
ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب .
وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام ، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها ، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه .
تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة ، لا محل لها من الإعراب ، ولا يُنطق بها إلا على حال السكت ، وحالُ السكت يعامَل معاملة الوقف ، فلذلك لا يُمد اسم رَا في الآية ، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت ، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد . ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف : را . ها . يا . طا . حا . التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة .
اسم الإشارة يجوز أن يكون مراداً به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم ، فكأنها منظورة مشاهدة ، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم ، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها .
واسمُ الإشارة يُفسر المقصودَ منه خبرُه وهو { آيات الكتاب الحكيم } كما فسره في قوله تعالى : { فهذا يومُ البعث } [ الروم : 56 ] وقوله تعالى : { قال هذا فراقُ بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] . قال في « الكشاف » : تصَوَّر فراقاً بينهما سيقع قريباً فأشار إليه بهذا .
وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى : { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده } في سورة [ الأنعام : 88 ] . فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به . وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آيةً على صدقه ، كما دل عليه قوله في هذه السورة [ يونس : 15 ] { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بَدله } فقيل لهم { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة ، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه .
ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة ؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي ، كما دل عليه قوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارْتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] .
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و { آيات } خبره . وإضافة { آيات } إلى { الكتاب } إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار ، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق .
ويجوز أن تجعل الإشارة ب { تلك } إلى حروف { ألر } لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالإعجاز ، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم .
فيصح أن يجعل ( ألر ) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبراً عنه . والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم ، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم ، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف .
والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذّبون بأن الكتاب منزل من عند الله ، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالاً إذ هو مركب من حروف كلامهم .
والكتاب : القرآن . فالتعريف فيه للعهد . ويجوز جعل التعريف دالاً على معنى الكمال في الجنس ، كما تقول : أنتَ الرجل .
والحكيم : وصف إما بمعنى فاعل ، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها ، مثل قوله : { ومُهيمِناً عليه } [ المائدة : 48 ] ، وقوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] .
وإما بمعنى مُفعَل بفتح العين ، أي مُحكَم ، مثل عَتِيد ، بمعنى مُعَد .
وإما بمعنى ذي الحِكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية ، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوُصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشىء عن البليغ كقول الأعشى :
وغريبةٍ تأتي الملوك حَكِيمة *** قد قلتُها ليقال مَن ذَا قالها
وإما أن يكون وُصِفَ بوصف منزّله المُتكلم به ، كما مشَى عليه صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } [ يس : 1 ، 3 ]
واختيار وصف { الحكيم } من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن ؛ لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله : { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } ، ولِما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك .
وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون } [ يونس 16 ] .