المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (11)

11- ولو أجاب الله ما يستعجل به الناس على أنفسهم من الشر مثل استعجالهم لطلب الخير ، لأهلكهم وأبادهم جميعاً ، ولكنه يتلطف بهم ، فيرجئ هلاكهم ، انتظاراً لما يظهر منهم حسب ما علمه فيهم ، فتتضح عدالته في جزائهم ، إذ يتركون - والأدلة قائمة عليهم - يتعمدون الانحراف والاتجاه إلى طريق الضلال والظلم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (11)

قوله تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } ، قال ابن عباس : هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده : لعنكم الله ، ولا بارك الله فيكم . قال قتادة : هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب . معناه : لو يعجل الله الناس إجابة دعائهم في الشر والمكروه استعجالهم بالخير ، أي : كما يحبون استعجالهم بالخير ، { لقضي إليهم أجلهم } ، قرأ ابن عامر ويعقوب : " لقضي " بفتح القاف والضاد ، { أجلهم } نصب ، أي : لأهلك من دعا عليه وأماته . وقال الآخرون : { لقضي } بضم القاف وكسر الضاد { أجلهم } رفع ، أي : لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعا . وقيل : إنها نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية [ الأنفال-32 ] يدل عليه قوله عز وجل : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } ، لا يخافون البعث والحساب ، { في طغيانهم يعمهون } . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الزيادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فإنما أنا بشر فيصدر مني ما يصدر من البشر فأي المؤمنين آذيته ، أو شتمته ، أو جلدته ، أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة ، تقربه بها إليك يوم القيامة " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (11)

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر لطفه ورحمته بالناس ، وما جبلوا عليه من صفات وطبائع فقال - تعالى - :

{ وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر . . . } .

قال صاحب المنار : " هاتان الآيتان في بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر ، ونفع وضر ، وشعورهم بالحاجة إلى الله - تعالى - واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها ، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين ، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث ، متمم لما قبله ، ولذلك عطف عليه .

وقوله : { يعجل } من التعجيل بمعنى طلب الشيء قبل وقته المحدد له والاستعجال : طلب التعجيل بالشيء .

والأجل : الوقت المحدد لانقضاء المدة . وأجل الإِنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره .

والمراد بالناس هنا - عند عدد من المفسرين - : المشركون الذي وصفهم الله - تعالى - قبل ذلك بأنهم لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها .

ولقد حكى القرآن في كثير من آياته ، أن المشركين قد استعجلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نزول العذاب ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وقوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والمعنى : ولو يعجل الله - تعالى - لهؤلاء المشركين العقوبة التي طلبوها ، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لأميتوا وأهلكوا جميعاً ، ولكن الله - تعالى - الرحيم بخلقه ، الحكيم في أفعاله ، لا يعجل لهم العقوبة اليت طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها ؛ فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل في الإِسلام ، ويتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

قال الإِمام الرازي : " فقد بين - سبحانه - في هذه الآية : أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم ، لأنه - تعالى - " لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا ، ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك ، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمناً ، وذلك يقتضي أن يعاجلهم بإيصال ذلك الشر " .

ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم ، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم .

ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه في تفسيرهم الإِمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يخبر - تعالى - عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم ، أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء ، ولهذا قال : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ .

. . } أي لو استجاب لهم جميع ما دعوه به في ذلك لأهلكهم .

ثم قال : ولكن لا ينبغي الإِكثار من ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم " .

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو قول الإِنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنة ، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم .

أما الإِمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين ، ورجح الأول منهما فقال : " قوله : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر . . . } وهم الذين لا يرجون لقاء الله - تعالى - المذكورون في قوله { الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا . . . } والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء . . . " وأخرج ابن جرير عن قتادة : أنه قال : " هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره ، أن يستجاب له ، وفيه حمل الناس على العموم ، والمختار الأول ، ويؤيده ما قيل : من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والذى يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى ، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا ، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك ، وحتى لو صح ما قيل أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

وقوله { استعجالهم بالخير } منصوب على المصدرية ، والأصل : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، فحذف تعجيلا وصفته المضافة ، وأقيم المضاف إليه مقامها .

ثم بين - سبحانه - ما يشير إلى الحكمة في عدم تعجيل العقوبة فقال : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .

والطغيان : مجاوزة الحد في كل شيء ، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده .

ويعمهون : من العمه ، يقال : عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه .

أي : لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات ، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم القيامة ، على سبيل الإِمهال والاستدراج في الدنيا في طغيانهم يتحيرون ويترددون ، بحيث تلتبس عليهم الأمور فلا يعرفون الخير من الشر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (11)

هذه الآية قال مجاهد نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا ، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر ، تقديرها ولا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجون فاقتضب القول وتوصّل إلى هذا المعنى بقوله { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً ، و { استعجالهم } نصب على المصدر ، والتقدير مثل استعجالهم ، وقيل : التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم ، وهذا قريب من الأول ، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوله { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء }{[6035]} وقيل نزلت في قوله { آتنا بما تعدنا }{[6036]} وما جرى مجراه ، وقرأ جمهور القراء «لقُضي » على بناء الفعل للفاعل ورفع «الأجلُ » وقرأ ابن عامر وحده{[6037]} وعوف وعيسى بن عمر ويعقوب ، «لقضى » على بناء الفعل للفاعل ونصب «الأجلَ » ، وقرأ الأعمش : «لقضينا » ، و «الأجل » في هذا الموضع أجل الموت ، ومعنى قضى في هذه الآية أكمل وفرغ ، ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]

وعليهما مسرودتان قضاهما*** داودُ أوْ صَنَعُ السوابغِ تبع{[6038]}

وأنشد أبو علي في هذا المعنى : [ الطويل ]

قضيت أموراً ثم غادرت بعدها*** فوائح في أكمامها لم تفتق{[6039]}

وتعدّى «قضى » في هذه الآية ب «إلى » لما كان بمعنى فرغ ، وفرغ يتعدى بإلى ويتعدى باللام ، فمن ذلك قول جرير :

ألانَ فقد فرغت إلى نُمَير*** فصرت على جماعتها عذابا{[6040]}

ومن الآخر قوله عز وجل { سنفرغ لكم أيه الثقلان }{[6041]} وقرأ الأعمش{[6042]} : «فنذر الذين لا يرجون لقاءنا » ، و { يرجون } في هذا الموضع على بابها والمراد الذين لا يؤمنون بالبعث فهم لا يرجون لقاء الله ، والرجاء مقترن أبداً بخوف ، «والطغيان » الغلو في الأمر وتجاوز الحد ، و «العمه » الخبط في ضلال ، فهذه الآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في الناس ، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة فيحملهم أحياناً سوء الخلق على الدعاء في الشر ، فلو عجل لهم لهلكوا .


[6035]:- من الآية (32) من سورة (الأنفال).
[6036]:- من الآية (77) من سورة (الأعراف)، وهي قوله سبحانه: {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا}.
[6037]:- يعني من بين القراء السبعة، وإلا فقد قرأ بها معه عوف وغيره ممن ذكرهم ابن عطية.
[6038]:-هذا البيت من عينية أبي ذؤيب المشهورة التي قالها في الرثاء، ومطلعها: "أمن المنون وريبه تتوجع"، وقوله: "مسرودتان": رواية المفضل الضبي في "المفضليات"، والمسرودة: الدرع التي سمرت حلقاتها، والسّرد: الحلق، وقوله تعالى: {وقدر في السرد} معناه أن يجعل المسمار على قدر الثقب بحيث لا يكون الثقب واسعا فيتقلقل المسمار، ولا يكون الثقب دقيقا والمسمار غليظا فينقصم الحلق. ورواية جمهرة أشعار العرب: "وعليهما ماذيتان" أي: درعان من الحديد لينتان سهلتان. ومعنى" قضاهما": أحكمهما وأكملهما وفرغ منهما، ورجل صنع: ماهر في الصناعة، وتبّع: من ملوك اليمن، قيل: كان يجيد صناعة الدروع، أو يأمر بصنعها محكمة، وداود عليه السلام اشتهر أيضا بصنع الدروع، قال تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} و(صنع) مضافة إلى (السوابغ)، وروي بالفعل الماضي في صنع، (والسوابغ) مفعول به.
[6039]:- ويروى (حوائج) بدلا من (فوائح)، وقضى هنا بمعنى انتهى منها وأكملها، وكم كل نور وعاؤه، والتفتق: التفتح ويترتب عليه انتشار الرائحة الطيبة. ولم نقف على قائله.
[6040]:- البيت غير موجود في ديوانه (دار المعارف بمصر- تحقيق نعمان محمد أمين د.) وأقرب الظن أن يكون من قصيدته المشهورة التي قالها في هجاء الراعي النميري، ومطلعها: أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا ومنها البيت المشهور الذي قال النقاد عنه إنه أهجى بيت قالته العرب: فغضّ الطرف إنك من نُمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
[6041]:- الآية (31) من سورة (الرحمن).
[6042]:- يفهم من كلام الزمخشري أن هذه القراءة بالنصب [فنذر] حيث قال: "فإن قلت: فكيف اتصل به قوله: {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا}؟ وما معناه؟ قلت: قوله: {ولو يُعجل} متضمن نفي التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشرّ ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (11)

مجيء حرف العطف في صدر هذه الآية يقتضي في علم البلاغة خصوصية لعطفها على ما قبلها ومزيد اتصالها بما قبلها فتعين إيضاح مناسبة موقعها . والظاهر أن المشركين كانوا من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعاً سريعاً ، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم ، ويسوون بينهم وبين المشعوذين والمتحدّين بالبطولة والعجائب ، فكانوا لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وركبوا رؤوسهم ولم تصبهم بأثر ذلك مصائب من عذاب شامل أو موتان عام ازدادوا غروراً بباطلهم وإحالة لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلاً من قبل الله تعالى . وقد دلت آيات كثيرة من القرآن على هذا كقوله : { وإذْ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] وقوله : { يستعجلونك بالعذاب } [ الحج : 47 ] وقوله : { فإن للذين ظلموا ذَنوباً مثلَ ذَنوب أصحابهم فلا يستعجلون } [ الذاريات : 59 ] وقد بينا ذلك في سورة الأنعام وفي سورة الأنفال .

وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطأوا مجيء النصر للنبيء عليه الصلاة والسلام وأصحابه كما جاء في الحديث : أنَّ المسلمين قالوا : ألا تستنصر . وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفُرون به . فلما جاءت آيات هذه السورة بقوارع التهديد للمشركين أعقبت بما يزيل شبهاتهم ويطمئن نفوس المؤمنين بما يجمَعه قوله : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليْهم أجلهم } .

وهو إجمال ينبىء بأن الله جعل نظام هذا العالم على الرفق بالمخلوقات واستبقاء الأنواع إلى آجال أرادها ، وجعل لهذا البقاء وسائل الإمداد بالنعم التي بها دوام الحياة ، فالخيرات المُفاضة على المخلوقات في هذا العالم كثيرة ، والشرور العارضة نادرة ومعظمها مسبب عن أسباب مجعولة في نظام الكون وتصرفات أهله ، ومنها ما يأتي على خلاف العادة عند محل آجاله التي قدرها الله تعالى بقوله : { لكل أمة أجل } [ يونس : 49 ] وقوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] .

فهذه الجملة معطوفة على جملة { إن الذين لا يرجون لقاءنا } [ يونس : 7 ] الآية ، فحيث ذكر عذابهم الذي هم آيلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمةً من حكم تصرف الله في هذا الكون . والقرينة على اتصال هذه الجملة بجملة { إن الذين لا يرجون لقاءنا } [ يونس : 7 ] قولُه في آخر هذه { فنذَر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون } .

فبينت هذه الآية أن الرفق جعله الله مستمراً على عباده غير منقطع عنهم لأنه أقام عليه نظام العالم إذْ أراد ثَبات بنائِه ، وأنه لم يقدّر توازيَ الشر في هذا العالم بالخير لطفاً منه ورفقاً ، فالله لطيف بعباده ، وفي ذلك منة عظيمة عليهم ، وأن الذين يستحقون الشر لو عُجل لهم ما استحقوه لبطل النظام الذي وضع عليه العالم .

والناس : اسم عام لجميع الناس ، ولكن لما كان الكلام على إبطال شبهة المشركين وكانوا المستحقين للشرّ كانوا أولَ من يتبادر من عموم الناس ، كما زاده تصريحاً قوله : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون } .

وقد جاء نظم الآية على إيجاز محكم بديع ، فذُكر في جانب الشر { يُعَجل } الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقل ما يتحقق فيه معناه ، وعبر عن تعجيل الله الخيرَ لهم بلفظ { استعجالهم } الدال على المبالغة في التعجيل بما تفيده زياد السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلب هنا ، وهو نحو قولهم : استأخر واستقدم واستجلَب واستقام واستبان واستجاب واستمتع واستكبر واستخفى وقوله تعالى : { واستغشوا ثيابهم } [ نوح : 7 ] . ومعناه : تعجّلهم الخيرَ ، كما حمله عليه في « الكشاف » للإشارة إلى أن تعجيل الخير من لدُنه .

فليس الاستعجال هنا بمعنى طلب التعجيل لأن المشركين لم يسألوا تعجيل الخير ولا سألوه فحصل ، بل هو بمعنى التعجل الكثير ، كما في قول سُلْمِيّ بن رَبيعة :

وإذا العذارَى بالدخان تقنَّعت *** واستعجلتْ نصب القدور فملت

( أي تعجلت ) ، وهو في هذا الاستعمال مثله في الاستعمال الآخر يتعدى إلى مفعول ، كما في البيت وكما في الحديث " فاستعجلَ الموتَ " .

وانتصب { استعجالهم } على المفعولية المطلقة المفيدة للتشبيه ، والعامل فيه { يُعجل } .

والمعنى : ولو يعجل الله للناس الشر كما يجعل لهم الخير كثيراً ، فقوله : { استعجالهم } مصدر مضاف إلى مفعوله لا إلى فاعله ، وفاعل الاستعجال هو الله تعالى كما دل عليه قوله : { ولو يعجل الله } .

والباء في قوله : { بالخير } لتأكيد اللصوق ، كالتي في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . وأصله : استعجالهم الخير ، فدلَّت المبالغة بالسين والتاء وتأكيد اللصوق على الامتنان بأن الخير لهم كثير ومكين . وقد كثر اقتران مفعول فعل الاستعجال بهذه الباء ولم ينبهوا عليه في مواقعه المتعددة . وسيجيء في النحل .

وقد جعل جواب ( لو ) قوله : { لقضي إليهم أجلهم } ، وشأن جواب ( لو ) أن يكون في حيز الامتناع ، أي وذلك ممتنع لأن الله قدَّر لآجال انقراضهم ميقاتاً معيَّناً { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } [ الحجر : 5 ] .

والقضاء : التقدير .

والأجل : المدة المعينة لبقاء قوم . والمعنى : لقضي إليهم حلول أجلهم . ولما ضمن ( قضي ) معنى بَلَغ ووصل عدي ب ( إلى ) . فهذا وجه تفسير الآية وسر نظمها ، ولا يلتفت إلى غيره في فهمها . وهذا المعنى مثل معنى { قُل لو أن عندي ما تستعجلون به لقُضي الأمر بيني وبينكم } في سورة [ الأنعام : 58 ] .

وجملة : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } الخ مفرعة على جملة { ولو يعجل الله للناس } إلى آخرها .

وقرأ الجمهور { لقضي } بالبناء للنائب ورفععِ { أجلهم } على أنه نائب الفاعل . وقرأه ابن عامر ويعقوب بفتح القاف والضاد ونصب { أجلهم } على أن في ( قضي ) ضميراً عائداً إلى اسم الجلالة في قوله : { ولو يجعل الله للناس الشر } الخ .

وجملة : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } مفرعة على جملة ( لو ) وجوابها المفيدة انتفاء أن يعجل الله للناس الشر بانتفاء لازمه وهو بلوغ أجلهم إليهم ، أي فإذا انتفى التعجيل فنحن نذر الذين لا يرجون لقاءنا يعمهون ، أي نتركهم في مدة تأخير العذاب عنهم متلبسين بطغيانهم ، أي فرطِ تكبرهم وتعاظمهم .

والعمه : عدم البصر . وإنما لم ينصب الفعل بعد الفاء لأن النصب يكون في جواب النفي المحْض ، وأما النفي المستفاد من ( لو ) فحاصل بالتضمن ، ولأن شأن جواب النفي أن يكون مسبباً على المنفي لا على النفي ، والتفريع هنا على مستفاد من النفي . وأما المنفي فهو تعجيل الشر فهو لا يُسبب أن يترك الكافرين يعمهون ، وبذلك تعرف أن قوله : { فنذر } ليس معطوفاً على كلام مقدر وإنما التقديرُ تقدير معنى لا تقدير إعراب ، أي فنترك المنكرين للبعث في ضلالهم استدراجاً لهم .

وقوله : { في طغيانهم يعمهون } تقدم نظيره في قوله : { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } في سورة [ البقرة : 15 ] . والطغيان : الكفر .

والإتيان بالموصولية في تعريف الكافرين للدلالة على أن الطغيان أشده إنكارهم البعث ، ولأنه صار كالعلامة عليهم كما تقدم آنفاً .