قوله تعالى : { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } . فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة كما وعد . قال الحسن : وهؤلاء الخمسة آلاف ردء المؤمنين إلى يوم القيامة . قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون ، وإنما يكونون عدداً ومدداً . قال محمد بن إسحاق : لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له ، فلما فني النبل أتاه به فنثره ، فقال ارم أبا إسحاق مرتين ، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرفه أحد . أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن جده عن سعد بن أبي وقاص قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم احد ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ، وما رايتهما قبل ولا بعد " رواه مسلم .
عن أبي بكر بن أبي شيبة قال : أخبرنا محمد بن بشر وأبو أسامة عن مسعر عن سعد ابن إبراهيم عن أبيه عن سعد يعني ابن أبي وقاص قال : " رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل " . وقال الشعبي : " بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله تعالى { ألن يكفيكم أن يمدكم } إلى قوله : { مسومين } فبلغ كرزاً الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم الله أيضاً بالخمسة آلاف ، وكانوا قد أمدوا بألف . وقال الآخرون إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته واتقوا محارمه ، أن يمدهم أيضاً في حروبهم كلها ، فلم يصبروا إلا في يوم الأحزاب ، فأمدهم حين حاصروا قريظة والنضير ، قال عبد الله بن أبي أوفى : " كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله فلم يفتح علينا فرجعنا ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال :وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ، ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ، ففتح لنا فتحاً يسيراً " وقال الضحاك وعكرمة : كان هذا يوم أحد وعدهم الله المدد إن صبروا فلم يصبروا فلم يمدوا به . قوله تعالى : { أن يمدكم ربكم } الإمداد إعانة الجيش بالجيش ، وقيل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، يقال فيه أمده إمداداً ، وما كان على جهة الزيادة يقال فيه مده مداً ، ومنه قوله تعالى ( والبحر يمده ) وقيل : المد في الشر ، والإمداد في الخير ، يدل عليه قوله تعالى ( ويمدهم في طغيانهم ) ( ونمد له من العذاب مداً ) وقال في الخير ( إني ممدكم بألف من الملائكة منزلين ) وقال ( وأمددناكم بأموال وبنين ) . قوله تعالى : { بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } قرأ ابن عامر بتشديد الزاي على التكثير لقوله تعالى( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) وقرأ الآخرون بالتخفيف دليله قوله تعالى ( لولا أنزل علينا الملائكة ) وقوله ( وأنزل جنوداً لم تروها ) ثم قال : بلى نمدكم إن تصبروا لعدوكم وتتقوا أي : مخالفة نبيكم ، { ويأتوكم } يعني المشركين { من فورهم هذا } قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والحسن وأكثر المفسرين : من وجههم هذا ، وقال مجاهد والضحاك : من غضبهم هذا ، لأنهم إنما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر ، ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ) لم يرد خمسة آلاف سوى ما ذكر من ثلاثة آلاف بل أراد معهم ، وقوله مسومين أي معلمين ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو ، وقرأ الآخرون بفتحها ، فمن كسر الواو فأراد أنهم سوموا خيلهم ، ومن فتحها أراد به أنفسهم ، والتسويم : الإعلام من السومة وهي العلامة . واختلفوا في تلك العلامة ، فقال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر ، وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم ، وقال هشام بن عروة والكلبي : عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم ، وقال الضحاك وقتادة : كانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر " تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم " .
لقوله - تعالى - : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا ، بل فروا فلم يمدوا بملك واحد . ويبدو من كلام ابن كثير أنه يميل إلى أن هذا الوعد كان يوم بدر ، فقد قال : فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر .
وهذا ما تسكن إليه النفس : لأن الوعد بنصرة الملائكة للمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد ، فقد كانوا فى بدر قليلى العدد والعدد ، وكانت غزوة بدر أول معركة حربية كبرى يلتقى فيها المؤمنون بالكافرين ، ولأن سياق الآيات يشعر بأن الله - تعالى - قد ساقها ليستحضر فى أذهان المؤمنين مشهد غزوة بدر وما تم فيها من نصر بسبب صدق إيمانهم ، وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم حتى لا يعودوا إلى ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا الرأى يكون قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلقا بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ } أى : اذكروا أيها المؤمنون أن الله - تعالى - قد نصركم ببدر وأنتم قلة فى العدد والعدة ، وكان رسولكم صلى الله عليه وسلم فى ذلك الوقت يقول لكم على سبيل التثبيت والتقوية : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } أى منزلين من السماء لنصرتكم وتوقيتكم ودحر أعدائكم .
أما على الرأى القائل بأن هذا الوعد كان غزوة احد ، فيكون قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } إلخ .
بدل من قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } .
قال الآلوسى : " والهمزة فى قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } لإنكار ألا يكفيهم ذلك . وأتى بلن لتأكيد النفى ، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعدتهم . وفى التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتوقية الإنكار . وقوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فى تأويل المصدر فاعل { يَكْفِيكُمْ } . و { مِّنَ الملائكة } بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه . و { مُنزَلِينَ } صفة لثلاثة آلاف ، وقيل حال من الملاكة " وقوله - تعالى - : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } إما من تتمة مقوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، وإما ابتداء خطاب من الله - تعالى - تأييداً لقول نبيه صلى الله علهي وسلم وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا .
وقوله : { بلى } إيجاب لما بعد " لن " أى ، بل يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف . ولكنه - سبحانه - يعدكم بأنكم { إِن تَصْبِرُواْ } على قتال أعدائكم وعلى كل ما أمركم الله بالصبر عليه ، وتتقوا . أى وتتقوا الله وتخشوه وتجتنبوا معاصيه { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا } أى ويأتوكم المشركون مسرعين ليحاربوكم ، وقد أعددتم أنفسكم لقتالهم ، إذا فعلتم ذلك .
{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } ، أى يمددكم ربكم بفضله ورعايته لكم بخمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة .
وقرىء { مُسَوِّمِينَ } - بالفتح - أى معلمين من جهته - تعالى - بعلامات القتال . من التسويم وهو إظهار علامة الشىء .
قال صاحب الكشاف : وقوله { مِّن فَوْرِهِمْ هذا } من قولك : قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى ، وجاء فلان ورجع من فوره . ومنه قول أبى حنيفة - رحمه اله - : الأمر على الفور لا على التراخى ، وهو مصدر من فارت القدر إذا غلت ، فاستعير للسرعة ، ثم سميت به الحالة التى لا ريث فيها . فقيل : خرج من فوره كما تقول : خرج من ساعته . والمعنى : أنهم يأتونكم من ساعتهم هذه " .
هذا ، وقد تكلم العلماء هنا عن أمرين يتعلقان بهذه الآياتز
أما الأمر الأول فهو : هل أمد الله - تعالى - المؤمنين فى غزوة بدر بهذا العدد الذى ذكر فى هذه الآية ؟
والجواب على ذلك أن بعض المفسرين يرى أن الله - تعالى - قد أمد المؤمنين فى بدر بخمسة آلاف من الملائكة ، لأنهم صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فوراً حين استنفرهم أبو سفيان لإنقاذ العير ، فكان المدد خمسة آلاف على سبيل التدريج ، أى أمدوا أولا بألف ، ثم صاروا ألفين ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير ، وإلى هذا الرأى ذهب الحسن وقتادة .
وقال الشعبى : إن المدد لم يزد على الألف ، لأن المسلمين كان قد بلغهم أن كرز بن جابر المحاربى يريد أن يمد المشركين بسلاح وجند ، فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله - تعالى - : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ } إلى قوله { مُسَوِّمِينَ } فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يمدهم ، فلم يمد الله المسلمين بخمسة الآلاف أيضاً . أما ابن جرير فقد اختار أن المسلمين وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا به ، ولا يثبت شىء من ذلك إلا بنص . فقد قال - رحمه الله - :
" وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف خمسة آلاف ، إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ؛ ولا على أنهم لم يمدوا بهم .
وقد يجوز أن يكون الله - تعالى - أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم ، وقد يجوز أن يكون لم يمدهم ، على نحو الذى ذكره من أنكر ذلك وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر توقم الحجة به ، ولا خبر به كذلك فنسلم لأحد الفريقين قوله . غير أن فى القرآن دلالة على أنهم أمدموا يوم بدر بألف . وذلك قوله - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها فى أنهم أمدوا ، ذلك لأنهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم " .
والذى نراه أن رأى ابن جرير هو أقرب الآراء إلى الصواب .
وأما الأمر الثانى فهو : إذا كان الله - تعالى - قد أمد المؤمنين بالملائكة فى بدر ، فهل كانت وظيفتهم القتال مع المؤمنين أو كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فقط ؟ والجواب على ذلك أن كثيرا من العلماء يرى أن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين .
قال القرطبى : تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت .
ومن ذلك قول أبى أسيد مالك بن ربيعة وكان قد شهد بدرا : لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب - أى الطريق فى الجبل - الذى خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أمترى " .
وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يوم بدر يشتد فى أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : " أقدم حيزوم " فنظر المسلم إلى المشرك أمامه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه .
فجاء المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة .
ويرى فريق آخر من العلماء أن الملائكة ما قاتلت مع المسلمين يوم بدر ، وإنما أمد الله المؤمنين بالملائكة لتثبيت نفوسهم ، وتقوية قولبهم ، ولتخذيل المشركين ، وإلقاء الرعب فى قلوبهم ، فقد قال - تعالى - { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ويبدو أن الإمام ابن جرير الطبرى كان يميل إلى هذا الرأى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } أى : قووا عزائمهم ، وصححوا نياتهم فى قتال عدوهم من المشركين ، وقيل : كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم " .
وقد حكى الألوسى عن أبى بكر الأصم أنه أنكر قتال الملائكة مع المؤمنين فى بدر وأنه قال : " إن الملك الواحد يكفى فى إهلاك سائر الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط وأيضا أى فائدة فى إرسال هذا الجمع من الملائكة معه وهو القوى الأمين . وأيضا فإن أكابر الكفار الذين قتلوا فى بدر عرف من قتلهم من المسلمين " .
ولم يرتض الألوسى ما قاله الأصم بل قال فى الرد عليه : ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ، ولا بمن يعترف بأنه - سبحانه - قادر على ما يشاء فعال لما يريد ، فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرص عن ذلك .
ثم قال الآلوسى فالواجب التسليم بكل ممكن جاء به النبى صلى الله عليه وسلم وتفويض ذلك وكيفيته إلى - الله - .
ونرى من كلام الآلوسلاى أنه يرجح الرأى القائل بأن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين فى غزوة بدر .
ونحن لا نرى مانعا من اشتراك الملائكة مع المؤمنين فى بدر لأن النصوص الواردة عن النبى صلى الله عليه وسلم صريحة فى ذلك ، ولسنا مع الذين يضعفون من شأن الأحاديث الصحيحة أو يؤولونها تأويلا لا يتفق مع العقل السليم .
ولقد سئل الإمام السبكى : ما الحكمة فى قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه ؟
فأجاب : بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التى أجراها - سبحانه - فى عباده .
{ بلى } إيجاب لما بعد لن ، أي بلى يكفيكم . ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى حثا عليهما وتقوية لقلوبهم فقال : { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم } أي المشركون . { من فورهم هذا } من ساعتهم هذه ، وهو في الأصل مصدر من فارت القدر إذ غلت ، فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي ، والمعنى إن يأتوكم في الحال . { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } في حال إتيانهم بلا تراخ ولا تأخير . { مسومين } معلمين من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء لقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه . " تسوموا فإن الملائكة قد تسومت " . أو مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو .
ولأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قِبَل السائل بقوله : { بلى } لأنّه ممَّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } في سورة [ الأنعام : 19 ] ، فكان ( بلى ) إبطالاً للنفي ، وإثباتاً لكون ذلك العدد كافياً ، وهو من تمام مقالة النَّبيء للمؤمنين .
وقد جاء في سورة الأنفال [ 9 ] عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين } .
وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف . ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف . ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله : { مردفين } [ الأنفال : 9 ] أي مردَفيْن بعدد آخر ، ودلّ كلامه هنا على أنَّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين » أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتَّقوا . وبهذا الوجه فسّر الجمهور ، وهو الذي يقتضيه السياق . وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين ، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم ، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالاً من المشركين .
ووصف الملائكة بمُنْزَلين للدلالة على أنَّهم يَنزلون إلى الارض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى : { ما تَنَزَّل الملائكة إلاّ بالحق } [ الحجر : 8 ] .
وقرأ الجمهور : مُنْزلين بسكون النُّون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر بفتح النُّون وتشديد الزاي . وأنزل ونزّل بمعنى واحد .
فالضميران : المرفوعُ والمجرور ، في قوله : { ويأتوكم من فورهم } عائدان إلى الملائكة الَّذين جرى الكلام عليهم ، كما هو الظاهر ، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين .
وعليه فموقع قوله : { ويأتوكم } موقع وعد ، فهو المعنى معطوف على { يمددكم ربكم } وكان حقّه أن يرِد بعده ، ولكنَّه قدّم على المعطوف عليه ، تعجيلاً للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين ، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه ، وإذا جاز ذلك التَّقديم في عطف المفردات كما في قول صَنَّان بن عَبَّاد اليَشْكُرِي :
ثمّ اشتَكَيْتُ لأَشْكانِي وسَاكنُه *** قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أوْ قبر على قَهَدِ
قال ابن جنّي في شرح أبيات الحماسة : قدّم المعطوف على المعطوف عليه ، وحَسَّنه شدّة الاتِّصال بين الفعل ومرفوعه ( أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظَّه من التقديم ولا التفات لكون المعطوففِ عليه مؤخّراً عن المعطوف ) ولو قلت : ضربت وزيداً عمراً كان أضعف ، لأنّ اتّصال المفعول بالفعل ليس في قوّة اتّصال الفاعل به ، ولكن لو قلت : مررت وزيد بعمرو ، لم يجز من جهة أنَّك لم تقدم العامل ، وهو الباء ، على حرف العطف . ومن تقديم المفعول به قول زيد :
جمعتَ وعيباً غِيبةً ونَمِيمَةً *** ثلاثَ خصال لستَ عنها بمُرْعوِيْ
لعن الإلهُ وزوجَها مَعَها *** هِنْدَ الهنود طَوِيلَةَ الفعل
ولا يجوز وعيباً جمعت غيبة ونميمة . وأمَّا قوله
فممَّا قرب مأخذه عن سيبويه ، ولكن الجماعة لم تتلقّ هذا البيت إلاّ على اعتقاد التَّقديم فيه ، ووافقه المرزوقي على ذلك ، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسُن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر ، فلذلك خرّجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل ، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنَّه عطف صوري .
ووقع في « مغني اللبيب » في حرف الواو أنّ تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة ، وسبقه إلى ذلك ابن السِّيد في شرح أبياتِ الجمل ، والتفتزاني في شرح المفتاح ، كما نقله عنه الدماميني في « تحفة الغريب » .
وجعل جمع من المفسّرين ضميري الغيبة في قوله : { ويأتوكم من فورهم } عائديْن إلى طائفة من المشركين ، بلغ المسلمين أنَّهم سيمدّون جيش العدوّ يوم بدر ، وهم كرز بن جابر المحاربي ، ومن معه ، فشقّ ذلك على المسلمين وخافوا ، فأنزل الله تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم } الآية ، وعليه درج « الكشاف » ومتابعوه . فيكون معادُ الضّميرين غير مذكور في الكلام ، ولكنَّه معلوم للنَّاس الَّذين حضروا يوم بدر ، وحينئذ يكون { يأتوكم } معطوفاً على الشرط : أي إن صبرتم واتّقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربّكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف ، قالوا فبلغت كرزاً وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدّهم الله بالملائكة ، أي بالملائكة الزائدين على الألف . وقيل : لم يمدّهم بملائكة أصلاً ، والآثار تشهد بخلاف ذلك .
وذهب بعض المفسّرين الأوّلين : مثل مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والزهري : إلى أن القول المحكي في قوله تعالى : { إذ تقول للمؤمنين } قول صادر يوم أحُد ، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا ، فلمّا لم يصبروا واستَبَقُوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملَك واحد ، وعلى هذا التفسير يكون { إذ تقول المؤمنين } بدلاً من { وإذ غَدَوْت } وحينئذ يتعيّن أن تكون جملة { ويأتوكم } مقدمة على المعطوفة هي عليها ، للوجه المتقدّم من تحقيق سرعة النَّصر ، ويكون القول في إعراب { ويأتوكم } على ما ذكرناه آنفاً من الوجهين .
ومعنى { من فورهم هذا } المبادرة السَّريعة ، فإنّ الفور المبادرة إلى الفعل ، وإضافة الفور إلى ضمير الآتين لإفادة شدّة اختصاص الفَور بهم ، أي شدّة اتّصافهم به حتَّى صار يعرف بأنَّه فورهم ، ومن هذا القبيل قولهم خرج من فوره . و ( من ) لابتداء الغاية .
والإشارة بقوله ( هذا ) إلى الفور تنزيلاً له منزلة المشاهد القريب ، وتلك كناية أو استعادة لكونه عاجلاً .
{ ومسوّمين } قرأه الجمهور بفتح الواو على صيغة اسم المفعول من سوّمه ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، ويعقوب بكسر الواو بصيغة اسم الفاعل . وهو مشتقّ من السُّومة بضم السين وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة . وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن ، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه ، يرمز بها إلى أنَّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه ، فيسدّدوا إليه سهامهم ، أو يحملون عليه بسيوفهم ، فهو يرمز بها إلى أنَّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته ، وصِدققِ لقائه ، وأنَّه لا يعبأ بغيره من العدوّ .
وتقدّم الكلام عليها في تفسير قوله تعالى : { والخيل المسومة } [ آل عمران : 14 ] في أوّل هذه السورة . وصيغة التفعيل والاستفعال تكثران في اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة .
ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شداداً .
وأحسب أنّ الأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدوّ لأنّ جيش العدوّ يوم بدر كان ألفاً فوعدهم الله بمدد ألف من الملائكة فلمَّا خشُوا أن يلحق بالعدوّ مدد من كُرْز المحاربي . وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب .
وميمنة وميسرة كلّ ركن منها ألف ، ولمَّا لم تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف ، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسرة ومقدّمة وساقة ، وذلك هو الخميس ، وهو أعظم تركيباً وجعل كُلّ ركن منه مساوياً لجيش العدوّ كلّه .