208- يا أيها الذين آمنوا كونوا جميعاً مسالمين فيما بينكم ، ولا تثيروا العصبيات الجاهلية وغيرها من أسباب النزاع والخلاف ، ولا تسيروا في طريق الشيطان الذي يدفعكم إلى الشقاق فإنه لكم عدو مبين{[16]} .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } . قرأ أهل الحجاز والكسائي " السلم " ها هنا بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وفي سورة الأنفال بالكسر ، وقرأ أبو بكر والباقون بالفتح ، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم بالكسر حمزة و أبو بكر .
نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام النضيري وأصحابه ، وذلك أنهم كانوا يعظمون السبت ، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم في صلاتنا بالليل ؟ فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) أي في الإسلام ، قال مجاهد : في أحكام أهل الإسلام و أعمالهم كافة ، أي جميعاً ، وقيل : ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره .
وأصل السلم : السلم من الاستسلام والانقياد ، ولذلك قيل للصلح سلم ، قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم فعد الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والعمرة ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال : قد خاب من لا سهم له .
قوله تعالى : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } . أي : آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغيره .
قوله تعالى : { إنه لكم عدو مبين } . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس الطحان ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، أخبرنا هاشم ، أخبرنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا ، أفترى أن نكتب بعضها فقال : " امتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيه ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .
وبعد أن عرض القرآن هذين النوعين اللذين نجدهما في كل زمان ومكان ، وجه نداء إلى المؤمنين دعاهم فيه إلى الاستجابة التامة لخالقهم فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا . . . }
{ السلم } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام - بمعنى واحد ، ويطلقان على الإِسلام وعلى المسالمة - وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل { السلم } بكسر السين - للإِسلام ، و { السلم } - بفتحها - للمسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة .
قال الفخر الرازي : وأصل هذه الكلمة من الانقياد . قال - تعالى - : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } والإِسلام إنما سمى إسلامها لهذا المعنى . وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى . لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه " .
و { كَآفَّةً } أي جميعاً ، وهي في الأصل صفة من كف بمعنى منع ، واستعملت بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق وهي حال من قوله : { السلم } أي : يأيها المؤمنون ادخلوا في الإِسلام والتزاموا بكل تعاليمه ، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه ، واعملوا بكل أوامره ونواهيه ، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض . فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه .
وبعضهم يرى أن قوله : { كَآفَّةً } حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه : ادخلوا في الإِسلام جميعاً ، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين ، لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .
وسواء أكان لفظ { كَآفَّةً } حالا من { السلم } أو من فاعل { ادخلوا } فالمقصود من الآية دعوة المؤمنون إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف .
وإذا كان المراد بكلمة { السلم } المسالمة والمصالحة كان المعنى : يأيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين ، متحابين غير متباغضين ، متجمعين غير متفرقين ، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم ، وأن تحابوه متى اعتدى عليكم ، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوي الذي يرد الاعتداء بمثله .
هذا هو المعنى الذي نراه ظاهراً في الآية ، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين .
وبعضهم ذكر أن الخطاب في الآية لمؤمني أهل الكتاب ، لما روى عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام - فعظموا السبت وكرهوا لحم الإِبل وألبانها بعد أن أسلموا ، فأنكر عليهم المسلمون فقالوا ، إنا نقوى على هذا وهذا ؛ وقالوا النبي صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية . فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب .
وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير : يأيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإِسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان .
وهذان القولان ضعفهما ظاهر ، إذ لا سند لهما يعتمد عليه ، ولا يؤيدها سياق الآية الكريمة ، لأن الآية الكريمة صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإِسلام ، وإلى الإِخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء .
وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تحذير لهم مما يصدهم عن الدخول في السلم .
أي : ادخلوا في السلم واحذورا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل .
والخطوات . جمع خطوة - بفت الخاء وضمها - وهي ما بين قدمي من يخطو .
وفي قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } إشعار بأن الشيطان كثيراً ما يجر الإِنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد ، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه ، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } جملة تعليلية ، مؤكدة للنهي ومبينة لحكمته .
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } { السلم } بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة ، ولذلك يطلق في الصلح والإسلام . فتحه ابن كثير ونافع والكسائي وكسره الباقون . وكافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال :
السلم تأخذ منها ما رضيت به *** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا ، والخطاب للمنافقين ، أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره . والخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها ، أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب ، أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين . { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } بالتفرق والتفريق . { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة .