196- وأدوا الحج والعمرة لله على وجه التمام والكمال قاصدين بهما وجه الله ، ولا تقصدوا بهما إصابة عَرَض دنيوي من شهرة ونحوها . وإذا قصدتم الحج والعمرة وأحرمتم بهما فمنعكم عدو في الطريق فلكم أن تتحللوا من إحرامكم بحلق رءوسكم ، ولكن عليكم قبل ذلك ذبح ما تيسر لكم - من شاة أو بعير أو بقرة - والتصدق به على المساكين ، ولا تحلقوا رءوسكم حتى تقوموا بهذه النسك ، ومن كان مُحْرِماً وأذاه شعر رأسه لمرض أو هوام في رأسه فلا بأس أن يحلق رأسه ، وعليه حينئذٍ أن يفدى عن ذلك بصيام ثلاثة أيام ، أو التصدق على ستة مساكين بقوت يوم ، أو ذبح شاة والتصدق بها على الفقراء والمساكين . وإذا كنتم في دار الأمان والسلم ولم يعترض طريقكم عدو ، وقصدتم الحج والعمرة وتمتعتم أولا بالعمرة إلى أن يحين وقت الحج فتحرموا ، فعليكم ذبح شاة لمساكين الحرم وفقرائه ، فمن لم يجد شاة أو لم يقدر على ثمنها صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله ، وهذا على من لم يكن من أهل مكة ، فمن كان من أهلها فلا شيء عليه إذا تمتع .
قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } . قرأ علقمة و إبراهيم النخعي ( وأقيموا الحج والعمرة لله ) واختلفوا في إتمامهما . فقال بعضهم : هو أن يتمها بمناسكهما وحدودهما وسننهما ، وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وأركان الحج خمسة : الإحرام والوقوف بعرفة ، وطواف الزيارة ، والسعي بين الصفا والمروة ، وحلق الرأس أو التقصير . وللحج تحللان ، وأسباب التحلل ثلاثة : رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق ، فإذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة حصل التحلل الأول ، وبالثلاث حصل التحلل الثاني ، وبعد التحلل الأول يستبيح جميع محظورات الإحرام إلا النساء ، وبعد الثاني يستبيح الكل ، و أركان العمرة أربعة : الإحرام ، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق ، وقال سعيد بن جبير وطاووس : تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما مفردين ، مستأنفين من دويرة أهلك ، وسئل علي بن أبي طالب عن قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } قال : أن تحرم بهما من دويرة أهلك . ومثله عن ابن مسعود ، قال قتادة : تمام العمرة أن تعتمر في غير أشهر الحج ، فإن كانت في أشهر الحج ثم أقام حتى حج فهي تمتعه ، وعليه فيها الهدي إن وجده ، أو الصيام إن لم يجد الهدي ، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلها حتى لا يلزمه عما ترك دم بسبب قران ولا متعة . وقال الضحاك : إتمامهما أن تكون النفقة حلالاً ، وينتهي عما نهى الله عنه ، وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج من أهلك ، ولا تخرج لتجارة ولا لحاجة . قال عمر بن الخطاب : الوفد كثير والحاج قليل ، واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً ، واختلفوا في وجوب العمرة ، فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها ، وهو قول عمر وعلي وابن عمر .
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : والله أن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله ، قال الله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد والحسن ، وقتادة ، سعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوري والشافعي في أصح قوليه ، وذهب قوم إلى أنها سنة ، وهو قول جابر ، وبه قال الشعبي وإليه ذهب مالك وأهل العراق وتأولوا قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) على معنى ، أتموهما إذا دخلتم فيهما ، أما ابتداء الشروع فيها فتطوع ، واحتج من لم يوجبها بما روي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ " فقال : لا وأن تعتمروا خير لكم " والقول الأول أصح ، ومعنى قوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ) أي ابتدئوهما ، فإذا دخلتم فيهما فأتموهما ، فهو أمر بالابتداء والإتمام ، أي أقيموهما كقوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) أي ابتدئوه وأتموه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا ابن أبي شيبة ، أخبرنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب ، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة " وقال ابن عمر : " ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً كما قال الله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع " ، واتفقت الأمة على أنه يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجه : الإفراد والتمتع والقران .
فصورة الإفراد : أن يفرد الحج ، ثم بعد الفراغ منه يعتمر ، وصورة التمتع : أن يعتمر في أشهر الحج ، ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة ، يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام ، وصورة القران : أن يحرم بالحج والعمرة معاً ، يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارناً ، واختلفوا في الأفضل من هذه الوجوه : فذهب جماعة إلى أن الإفراد أفضل ، ثم التمنع ثم القران . وهو قول مالك والشافعي لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، فأما من أهل بالعمرة فحل ، وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا مسلم ، عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وهو يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج ، ولا نعرف غيره ولا نعرف العمرة " ، وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وذهب قوم إلى أن القرآن أفضل وهو قول الثوري وأصحاب الرأي ، واحتجوا بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أخبرنا محمد بن هشام بن ملا بن النميري ، أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري ، أخبرنا حميد قال : قال أنس بن مالك : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لبيك بحج وعمرة " . وذهب قوم إلى أن التمتع أفضل ، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث ، عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت ، بين الصفا والمروة ، ويقصر وليتحلل ، ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، فطاف حين قدم مكة ، واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أشواط ، ومشى أربعاً ، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ، ثم سلم فانصرف ، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ، ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ، ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه ، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس " .
وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : قد اختلفت الرواة في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وذكر الشافعي في كتاب ، اختلاف الأحاديث ، كلاماً موجزاً أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد ، والقارن والمتمتع ، وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه ، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر به وأذن فيه ، فيجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به ، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له ، كما يقال بنى فلان داراً ، وأريد أنه أمر ببنائها ، وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم " رجم ماعزاً " ، وإنما أمر برجمه ، واختار الشافعي لرواية جابر ، وعائشة ، وابن عمرو ، وقدمها على رواية غيرهم لتقدم صحبة جابر النبي صلى الله عليه وحسن سياقه لابتداء قصة حجة الوداع وآخرها ، ولفضل حفظ عائشة ، وقرب ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم . ومال الشافعي في اختلاف الأحاديث إلى التمتع ، وقال : ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح ، لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافاً ، يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج ، وإفراد الحج والقرآن ، واسع كله أي التمتع والإفراد والقرآن . وقال : من قال إنه أفرد الحج يشبه أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدركوا دور رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا لا يكون مقيما على الحج وقد ابتدأ إحرامه بالحج . قال شيخنا الإمام : ومما يدل على أنه كان متمتعاً أن الرواية عن ابن عمر وعائشة متعارضة ، وقد روينا عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وقال ابن شهاب عن عروة إن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج ، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر وقال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه عمرة استمتعنا بها " . وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة : صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه . قال شيخنا الإمام : وما روي عن جابر أنه قال : خرجنا لا ننوي إلا الحج ، لا ينافي التمتع ، لأن خروجهم كان لقصد الحج ، ثم منهم من قدم العمرة ، ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله متعة . قوله تعالى : { فإن أحصرتم } . اختلف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحلل من إحرامه ، فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمضي في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة ، يبيح له التحلل ، وبه قال ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب سفيان الثوري ، وأهل العراق وقالوا : إن الإحصار في كلام العرب هو حبس العلة أو المرض ، وقال الكسائي وأبو عبيدة ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال : منه أحصر فهو محصر ، وما كان من حبس عدو ، أو سجن يقال : منه حصر محصور ، وإنما جعل هاهنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض إذ كان في معناه ، واحتجوا بما روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل " .
قال عكرمة : فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا : صدق . وذهب جماعة إلى أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو وهو قول ابن عباس وقال لا حصر إلا حصر العدو ، وروي معناه عن ابن عمر وعبد الله بن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ، وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد . وقال ثعلب تقول العرب : حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور ، وأحصره العدو إذا منعه عن السير فهو محصر ، واحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وكان ذلك حبساً من جهة العدو ، ويدل عليه قوله تعالى في سياق الآية ( فإذا أمنتم ) والأمن يكون من الخوف ، وضعفوا حديث الحجاج بن عمرو بما ثبت عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو ، وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج ، إذا كان قد شرط ذلك في عقد الإحرام كما روي أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني " . ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس ، والهدي شاة وهو المراد من قوله تعالى ( فما استيسر من الهدي ) ، ومحل ذبحه حيث أحصر عند أكثر أهل العلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها ، وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ، ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل ، وهو قول أهل العراق . واختلف القول في المحصر إذا لم يجد هدايا ، ففي قول لا بد له فيتحلل والهدي في ذمته إلى أن يجد ، والقول الثاني : له بدل ، فعلى هذا اختلف القول فيه ، ففي قول عليه صوم التمتع ، وفي قول تقوم الشاة بدراهم ، ويجعل الدراهم طعاما فيتصدق به ، فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد من الطعام يوما . كما في فدية الطيب واللبس ، فإن المحرم إذا احتاج إلى ستر رأسه لحر أو برد أو إلى لبس قميص ، أو مرض فاحتاج إلى مداواته بدواء فيه طيب فعل ، وعليه الفدية ، وفديته على الترتيب والتعديل فعليه ذبح شاة فإن لم يجد يقوم الشاة بدراهم والدراهم يشتري بها طعاماً فيتصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوماً . ثم المحصر إن كان إحرامه بغرض قد استقر عليه فلذلك الفرض في ذمته ، وإن كان بحج تطوع ، فهل عليه القضاء ؟ اختلفوا فيه ، فذهب جماعة إلى أنه لا قضاء عليه وهو قول مالك و الشافعي ، وذهب قوم إلى أن عليه القضاء ، وهو قول مجاهد والشعبي والنخعي وأصحاب الرأي .
قوله تعالى : { فما استيسر } . أي فعليه ما تيسر من الهدي ، ومحله رفع وقيل : ما في محل النصب أي فاهد ما استيسر والهدي جمع هدية وهي اسم لكل ما يهدي إلى بيت الله تقرباً إليه ، وما استيسر من الهدي شاة ، قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأنه أقرب إلى اليسر ، وقال الحسن و قتادة : أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة .
قوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } . اختلفوا في المحل الذي يحل المحصر ببلوغ هديه إليه فقال بعضهم : هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل أو في الحرم ، ومعنى محله : حيث يحل ذبحه فيه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتى تنحر بذلك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً أي ازدحاما غماً .
وقال بعضهم : محل هدي المحصر الحرم ، فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر ، وإن كان معتمراً فمحله يوم يبلغ هديه الحرم .
قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } . معناه لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع .
قوله تعالى : { ففدية } . فيه إضمار ، أي : فحلق فعليه فدية ، نزلت في كعب بن عجرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن خلف أخبرنا إسحاق بن يوسف عن أبي بشر ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : حدثني عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال : " أيؤذيك هوامك ؟ " قال نعم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية ، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام .
قوله تعالى : { ففدية من صيام } . أي ثلاثة أيام .
قوله تعالى : { أو صدقة } . أي ثلاثة آصع على ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع .
قوله تعالى : { أو نسك } . واحدتها نسيكة ، أي ذبيحة ، أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة ، أيتها شاء ذبح ، فهذه الفدية على التخيير ، والتقدير ، ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق ، وكلهدي أو طعام ، يلزم المحرم يكون بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم ، إلا هديا يلزم المحصر فإنه يذبحه حيث أحصر ، وأما الصوم فله أن يصوم حيث شاء .
قوله تعالى : { فإذا أمنتم } . أي من خوفكم وبرأتم من مرضكم .
قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } . اختلفوا في هذه المتعة ، فذهب عبد الله بن الزبير إلى أن معناه : فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة يخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك ، بتلك العمرة إلى السنة المقبلة ، ثم حج فيكون متمتعاً بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام القابل ، وقال بعضهم : معناه فإذا أمنتم ، وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرتكم ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، فاعتمرتم في أشهر الحج ، ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ، ثم أحرمتم بالحج ، فعليكم ما استيسر من الهدي ، وهو قول علقمة وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ، وقال ابن عباس وعطاء وجماعة : هو الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج ، فقضى عمرته وأقام حلالاً بمكة حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعاً بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة بما كان محظوراً عليه في الإحرام إلى إحرامه بالحج . ولوجوب هدي التمتع أربع شرائط : أحدها : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، والثاني أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة ، والثالث أن يحرم بالحج في مكة ولا يعود إلى الميقات لإحرامه . الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، فمتى وجدت هذه الشرائط فعليه ما استيسر من الهدي ، وهو دم شاة ويذبحها يوم النحر فلو ذبحها قبله بعد ما أحرم بالحج يجوز عند بعض أهل العلم ، كدماء الجنايات ، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز قبل يوم النحر كدم الأضحية .
قوله تعالى : { فمن لم يجد } . الهدي .
قوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيام في الحج } . أي صوموا ثلاثة أيام ، يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية ، ويوم عرفة ، ولو صام قبله بعدما أحرم بالحج جاز ، ولا يجوز يوم النحر ، ولا أيام التشريق ، عند أكثر أهل العلم ، وذهب بعضهم إلى جواز صوم الثلاث أيام التشريق . يروى ذلك عن عائشة ، وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق .
قوله تعالى : { سبعة إذا رجعتم } . أي صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم ، فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز ، وهو قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقيل يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج ، وهو المراد من الرجوع المذكور في الآية .
قوله تعالى : { تلك عشرة كاملة } . ذكرها على وجه التأكيد ، لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب ، فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح ، وزيادة بيان ، وقيل : فيه تقدم وتأخير ، يعني : فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم ، فهي عشرة كاملة . وقيل : كاملة الثواب والأجر ، وقيل : كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهدي وقيل : كاملة بشروطها وحدودها ، وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي فأكملوها ولا تنقصوها .
قوله تعالى : { ذلك } . أي هذا الحكم .
قوله تعالى : { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } . واختلفوا في حاضري المسجد الحرام ، فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة وهو قول مالك ، وقيل : هم أهل الحرم وبه قال طاووس . وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلتان ، وقال الشافعي : كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام ، وقال عكرمة : هم من دون الميقات ، وقيل : هم أهل الميقات فما دونه ، وهو قول أصحاب الرأي ، ودم القران كدم التمتع ، والمكي إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه ، قال عكرمة : سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا فقد تم حجنا وعلينا الهدي ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة ، فإن الله أنزل في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) . ومن فاته الحج ، وفواته يكون بفوات الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر يوم النحر ، فإنه يتحلل بعمل العمرة ، وعليه القضاء من قابل والفدية ، وهي على الترتيب والتقدير كفدية التمتع والقرآن .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن نافع . عن سليمان بن يسار أن هناد بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال : يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد ، كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة ، فقال له عمر : اذهب إلى مكة ، فطف أنت ومن معك بالبيت ، واسعوا بين الصفا والمروة ، وانحروا هدياً إن كان معكم ، ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا ، فإذا كان العام القابل فحجوا واهدوا ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع " .
قوله تعالى : { واتقوا الله } . في أداء الأوامر .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله شديد العقاب } . على ارتكاب المناهي .
استمع إلى سورة البقرة وهي تحدثك عن بعض أحكام الحج وآدابه فتقول :
{ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ . . . }
تعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه ، وسنحاول - بعون الله - أن نبين ما اشتملت عليه من آداب سامية ، وتوجيهات حكيمة ، بأسلوب هو إلى الإِيجاز أقرب منه إلى الإسهاب والإِطناب ، قاصدين عدم التعرض لتفريعات الفقهاء واختلافاتهم إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام .
والحج في اللغة : القصد يقال حج فلان الشيء : إذا قصده مرة بعد أخرى .
وفي الشرع : القصد لزيارة بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة ، وبكيفية مخصوصة ، بينتها الشريعة الإِسلامية .
والعمرة في اللغة : الزيارة ، مأخوذة من العمارة التي هي ضد الخراب ثم أطلقت على الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان .
وفي الشرع : زيارة بيت الحرام للتقرب إليه ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أركانها وشروطها وكيفيتها .
وقد كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإِسلام ، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يسيروا في أدائها على الطريقة التي سار عليها فقال : " خذوا عني مناسككم " .
قال ابن كثير : " وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر . وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته " .
وقد اختلف العلماء في المقصود من الإِتمام في قوله - تعالى - { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما : إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى : أقيموا الحج والعمرة لله : أي أدوهما وائتوا بهما . فالأمر في " أتموا " منصب على الإِنشاء والأداء . فهو كقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } وأصحاب هذا الرأي يرون أن العمرة واجبة كالحج ، لأن الله - تعالى - أمر بهما معاً ، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " تابعوا بين الحج والعمرة . . " .
وإلى هذا الرأي أتجه سعيد بن جبير ، وعطاء ، وسفيان الثوري ، والشافعية .
ويرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية - أن المراد بإتمامهما : الإِتيان بهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله - تعالى - وأن على المسلم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتي به كاملا ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عمرة القضاء .
فيكون المعنى : ائتوا بالحج والعمرة كاملي الأركان والشروط والآداب خالصين لوجه الله - تعالى - .
فالأمر على هذا الرأي منصب على الإِتمام لا على أصل الأداء .
وأصحابه يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها ، وليس في الآية ما يفيد الوجوب ، بل فيها ما يفيد وجوب الإِتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما . وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله - تعالى - : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وأيضاً ، فإن أركان العمرة وأفعالها تدخل في ثنايا أفعال الحج وأركانه ، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " إلى غير ذلك من الأدلة التي ساقها كل فريق لتدعيم رأيه .
ومجمل القول أن فرضية الحج مجمع عليها بين العلماء ، وأما فرضية العمرة ففيها خلاف ، انتصر كثير من العلماء فيه للرأي القائل بأنها ليست فرضاً للحج ، بل هي سنة .
وقد كانت فرضية الحج في السنة التاسعة من الهجرة على أرجح الروايات . ويرى بعض العلماء أن الحج قد فرض قبل ذلك ، إلا أن تنفيذه لم يتم إلا في السنة التاسعة عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج ، وكان ذلك تمهيداً لجحه صلى الله عليه وسلم سنة عشر .
وقد أمر - سبحانه - بإتمام الحج والعمرة لله دون غيره لأن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر ، والتفاخر ، وقضاء الحوائج ، وحضور الأسواق ، دون أن يكون لله - تعالى - فيه حظ يقصد ، ولا قربة تعتقد ، فأمر - سبحانه - المسلمين أن ينزهوا عباداتهم - وخصوصاً الحج - عن الأٌوال السيئة ، والأفعال القبيحة ، وأن يقصدوا بأداء ما كلفهم الله به الإِخلاص والطاعة له - سبحانه - .
وبعد أن أمر الله - تعالى - عباده بأن يتموا الحج والعمرة له ، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما فقال : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } والإِحصار والحصر في اللغة : بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك . قال - تعالى - في شأن قتال المشركين : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم } أي : ضيقوا عليهم المنافذ . ويقال للذي لا يبوح بسره : حصر ؛ لأنه حبس نفسه عن البوح بسره .
ويرى بعض علماء اللغة أن الإِحصار يكون الحبس والمنع فيه من ذات الشخص كالمرض وذهاب النفقة ، وأما الحصر فيكون الحبس والمنع فيه لا من ذات الشخص ، بل بسبب أمر خارجي كالعدو ونحوه .
{ الهدي } : - بتخفيف الياء وتشديدها - مصدر بمعنى المفعول ، أي : المهدي والمراد به ما يهدي إلى بيت الله الحرام من الإِبل والبقرة والشاة ليذبح تقرباً إلى الله - تعالى - .
و { استيسر } هنا بمعنى يسر وتيسر أي : ما أمكن تحصيله من الهدى بدون مشقة أو تعب .
والمعنى : أتموا - أيها المؤمنون - الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك ، فإن { أُحْصِرْتُمْ } أي منعتم بعد الإِحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أز مرض أو نحوهما ، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإِحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى .
وبعض العلماء - كالشافعية والمالكية - يرون أن المراد بالإِحصار في الآية ما كان بسبب عدو ، كما حدث للمسلمين في صلح الحديبية ، أما إذا كان الإِحصار بسبب مرض ، فإن الحاج أو المعتمر يبقى على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعاً ، ويسعى بين الصفا والمروة ، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه ، ولا يتحلل بالذبح ، إذ التحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإِحصار بسبب العدو . أما الأحناف فيرون أن الإِحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشبههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح ، إذ الآية عندهم تعم كل منع ، وعلى من أحصر أن يقضي الحج أو العمرة فيما بعد .
وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإِسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شئونها التيسير لا التعسسير ، والرفق لا التشديد قال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } .
حلق الرأس أو تقصيرها علامة على الانتهاء من الإِحرام ، كما أن التسليم علامة الانتهاء من الصلاة ، أو علامة قطعهما عند الاضطرار إلى ذلك . والحلق بالنسبة للرجال أفضل من التقصير ، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم أغفر للمحلقين . قالوا : يا رسول الله وللمقصرين . قال : اللهم اغفر للمحلقين . قالوا : يا رسول الله وللمقصرين : قال : وللمقصرين " أما بالنسبة للنساء فيكفي التقصير .
والمحل : اسم لزمان الحلول أو مكانه . يقال : بلغ الدين محله إذا حل وقت أدائه ، كما يقال : بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي ينزل به .
قال الآلوسي : وكون المراد بالمحل هنا المكان هو الظاهر في الآية .
والمعنى : أتموا الحج والعمرة لله ، فإن منعتم من إتمامهما وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى ، ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه ، وهو الحرم .
وهذا رأي الأحناف ، فقد قرروا أن المراد بالمحل البيت الحرام ، فهو اسم مكان ، لأن الله - تعالى - قد قال في آية أخرى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } وعليه فلا يجوز للمحصر أن يحلق ويتحلل إلا بعد أن يصل الهدى الذي يرسله إلى البيت الحرام ويذبح .
أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي حدث فيه الإِحصار ، ودليلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحدبيبة وهي ليست من الحرم ، وذلك عندما منعه المشركون من دخول مكة .
وقد أجاب الأحناف على ذلك بأن محصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول الآلوسي - كان في طريق الحديبية بأسفل مكة ، والحديبية متصلة بالحرم .
وعلى رأي جمهور الفقهاء يكون المعنى : ولا تتحللوا من إحرامكم بالحق حتى تذبحوا الهدى في الموضع الذي أحصرتم فيه ، فإذا تم الذبح فأحلقوا وتحللوا . والخطاب على كلا المعنيين يكون للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور .
ويرى المحققون من العلماء أن رأى جمهور الفقهاء أكثر اتفاقاً مع السنة النبوية ، وفيه تسهيل على المحصرين ، والمناسب لهم هو التيسير لا التعسير ، ولا شك أن ذبحهم لهديهم في مكان إحصارهم أيسر لهم ، وحمولا قوله - تعالى - : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } على أنه خطاب عام لجميع المكلفين لا فرق بين محصر وغير محصر ، وأن المقصود من الجملة الكريمة هو البيان العام لمكان التحلل وزمانه ، أما مكان الذبح عند الإِحصار فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بذبحه لهديه في الحديبية وهي ليست من الحرم عند المحققين .
قال الإِمام الرازي : ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية ، فقال قال الشافعي وغيره : المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان .
وبعد أن بين - سبحانه - أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمراً على إحرامه ، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال - تعالى - : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
أي : فمن كان منكم - أيها المحرمون - مريضاً بمرض يضطر معه إلى الحلق ، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية ، فعليه إن حلق فدية من صيام أو صدقة أو نسك .
وقوله : { فَفِدْيَةٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أي : فعليه فدية ، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير : فحلق فعليه فدية .
والفدية : هي العوض عن الشيء الجليل النفيس . ولا ريب أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وعظمها .
وعبر - سبحانه - هنا بالفدية دون الكفارة ، لأن الذي به مرض و أذى من رأسه لم يرتكب ذنباً أو إثماً حتى يكفر عنه .
قال القرطبي : والنسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله - تعالى - وتكون من الإِبل والبقر والغنم - ويجمع - أيضاً - على نسائك . والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله - تعالى - :
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : متعبداتنا . وقيل : أصل النسك في اللغة الغسل ؛ ومنه نسك ثوبه إذا غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة . وقيل : النسك سبائك الفضة التي خلصت من الخبث ، كل سبيكة منها نسيكة ، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام " .
وقوله - تعالى - : { مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } بيان لجنس الفدية .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار هذه الفدية ، فقد روى الشيخان عن كعب بن عجرة الأنصاري قال : " حملت أن النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا . . . أما تجد شاة ؟ قلت : لا ! ! قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك " فنزلت في خصاة وهي لكم عامة .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الفدية في هذا الحديث ، وعامة العلماء يرون أن المحرم لعذر كهذا يخير في هذا المقام ، إن شاء صام وإن شاء تصدق وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على المساكين .
قال ابن كثير : ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال : أما تجد شاه ؟ فكل حسن في مقامه " .
وبعد أن بين - سبحانه كيفية التحلل عند الإِحصار ، وكيفية التحلل الجزئي من بعض المحرمات عند المرض ، عقب ذلك للبيان كيفية التحلل في حالة الأمن فقال : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } .
وقوله : { فَإِذَآ أَمِنتُم } الأمن ضد الخوف . أي : فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم والجملة معطوفة على قوله { أُحْصِرْتُمْ } وجيء بإذا لأن فعل الشرط وهو { أَمِنتُمْ } مرغوب فيه .
وقوله : { فَمَن تَمَتَّعَ } جواب إذا . والتمتع في اللغة - كما قال الإِمام الرازي - التلذذ . يقال : تمتع بالشيء إذا تلذذ به . والمتاع كل شيء يتمتع به ، وأصله من قولهم : حبل ماتع ، أي : طويل وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به .
والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر الحج ، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج .
وسمي هذا النوع من الإِحرام تمتعاً ، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد . لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية .
وهناك نوعان آخران من الإِحرام .
أحدهما : الإِفراد ومعناه : أن يحرم بالحج فقط ولا يجمع معه العمرة ، وإنما يأتي بها في وقت آخر .
وثانيهما : القرآن ومعناه : أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد ، بأن يبقى على إحرامه ويأتي بمناسك الحج والعمرة بالإِحرام نفسه .
والمعنى : فإذا ثبت أمنكم - أيها المسلمون - عند أدائكم للحج والعمرة ، فمن تمتع منكم بالعمرة إلى الحج ، بأن أحرم بها في أشهر الحج ، ثم بعد الانتهاء من أعمالها تحلل بأن حلق رأسه ، وباشر أهله إن كانوا معه ، وانتظر متحللا وصار من حقه أن يفعل كل ما يفعله من ليس محرماً إلى وقت الإِحرام بالحج ، فعليه في هذه الحالة أن يذبح ما تيسر له من الهدى من غنم أو بقر أو إبل ليكون هذا الذبح شكراً لله حيث وفقه - سبحانه - للجمع بين النسكين مع التمتع بينهما بأفعال المتحلل ، فمن لم يجد ما يذبحه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في وقت الحج وأن يصوم سبعة أيام بعد فراغه منه .
وقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ . . . } معطوف على { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة . . . } لأن { فَمَن تَمَتَّعَ } مع جوابه وهو { فَمَا استيسر . . . } مقدر فيه معنى تمتع واجداً الهدى ، فعطف عليه فمن لم يجد أي الهدى .
وقد جعل - سبحانه - الصيام بدلا عن الهدى زيادة الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير فقد جعله على مرحلتين :
إحداهما : - وهي الأقل - تكون في وقت الحج ، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه .
وثانيتهما : - وهي الأكثر - تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر وتذهب مشقة السفر فيصوم سبعة أيام .
وبعض الفقهاء يرى جواز الصيام عند الأخذ في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج ، ويرجح الوجه الأول ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وفيه : " فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " .
والإِشارة في قوله - تعالى - { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } إلى الثلاثة والسبعة . ومميز العدد محذوف أي : أيام . والجملة مؤكدة لما أفاد قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } وفائدة هذا التأكيد دفع توهم أن الواو بمعنى أو ، أو أن السبعة كناية عن مطلق كثرة العدد ، وبذلك يتقرر الحكم نصاً ، ويتبين أن الذي يحل محل النسك إنما هو العشرة الكاملة وليس بعضها .
ووصف العشرة بأنها كاملة ، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج ، وأن الحاج إذا نسي بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله - تعالى - به .
وقوله : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } الإِشارة فيه تعود إلى التمتع المفهوم من قوله - تعالى - : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج . . . } إلخ .
أي : ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النسكين ، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها ، لأن المقيمين في مكة وما حولها يفردون ولا يجمعون ، إذ العمرة في إمكانهم أن يؤدوها طول أيام السنة .
وقد شرع - سبحانه - التمتع ليكون تيسيراً ورفقاً للمقيمين بعيداً عن مكة هذا رأي الأحناف .
ويرى الشافعية : أن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق ، وأن اسم الإِشارة في الجملة الكريمة يعود إلى النسك وما يقوم مقامه من الصوم لأنه أقرب مذكور .
وعلى رأيهم يكون المعنى : ذلك الذبح لما تيسر من الهدى والصيام لمن لم يتيسر له الهدى إنما هو على سكان الآفاق ، لا على سكان مكة وما حولها ، لأن سكان مكة وما حولها قد أحرموا لتمتعهم من الميقات فلا يجب عليهم شيء .
والمراد بحاضري المسجد الحرام : أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل الموقيت عند الحنفية . وقال المالكية : هم أهل مكة خاصة . وقال الشافعية : هم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقثصر فيها الصلاة . ولكل أدلته المفصلة في كتب الفقه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بتقواه وبالتحذير من عقابه فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
أي : واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه ، واعلموا أن الله شديد العقاب مع الترغيب بالثواب ، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب .
هذا ، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على بعض الأحكام التي تتعلق بالحج والعمرة ، والمتدبر في هذه الأحكام يراها قد امتازت بأحكم ضروب التوجيه ، وأيسر أنواع التكليف .
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد ، شرَعَ في بيان المناسك ، فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة ، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما{[3433]} ؛ ولهذا قال بعده : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي : صُدِدْتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما . ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء . وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا " الأحكام " مستقصى{[3434]} ولله الحمد والمن وقال شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عبد الله بن سَلَمة ، عن علي : أنه قال في هذه الآية : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال : أن تُحْرِم من دُوَيرة أهلك .
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس . وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية : إتمامهما{[3435]} أن تحرم من أهلك ، لا تريد إلا الحج والعمرة ، وتُهِلّ من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت ، وذلك يجزئ ، ولكن التمام أن تخرج له ، ولا تخرج لغيره .
وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال : بلغنا أنّ عمر قال في قول الله{[3436]} : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ قال ]{[3437]} : من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر ، وأن تعتمر في غير أشهر الحج ؛ إن الله تعالى يقول : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } .
وقال هُشَيْم عن ابن عون قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة{[3438]} فقيل له : العمرة في المحرم ؟ قال : كانوا يرونها تامة . وكذا روي عن قتادة بن دعامة ، رحمهما الله .
وهذا القول فيه نظر ؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَرٍ كلها في ذي القعدة : عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشر ، ولا اعتمر قَطّ في غير ذلك بعد هجرته ، ولكن قال لأم هانئ{[3439]} " عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي " {[3440]} . وما ذاك إلا لأنها [ كانت ]{[3441]} قد عزمت على الحج معه ، عليه السلام ، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب الطهر ، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من خصائصها ، والله أعلم .
وقال السدي في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أي : أقيموا الحج والعمرة . وقال علي بن أبي طلحة{[3442]} عن ابن عباس في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } يقول : من أحرم بالحج أو بالعمرة {[3443]} فليس له أن يحل حتى يتمهما ، تمام الحج يوم النحر ، إذا رمى جمرة العقبة ، وطاف{[3444]} بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، فقد حل .
وقال قتادة ، عن زُرَارة ، عن ابن عباس أنه قال : الحج عرفة ، والعمرة الطواف . وكذا روى الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال : هي [ في ]{[3445]} قراءة عبد الله : " وأقيموا{[3446]} الحج والعمرة إلى البيت " لا تُجاوز بالعمرة البيت . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
وقال سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قال : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قرأ : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " .
وقرأ الشعبي : " وأتموا{[3447]} الحج والعمرةُ لله " برفع العمرة ، وقال : ليست بواجبة . وروي عنه خلاف ذلك .
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ، عن أنس وجماعة من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه : " من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة " {[3448]} .
وقال في الصحيح أيضًا : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " .
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثًا غريبًا فقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عبد الله الهروي ، حدثنا غسان الهروي ، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان ، عن عطاء ، عن صفوان بن أمية أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران ، عليه جبة ، فقال : كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي ؟ قال : فأنزل الله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أين السائل عن العُمْرة ؟ " فقال : ها أنا ذا . فقال له : " ألق عنك ثيابك ، ثم اغتسل ، واستنشق ما استطعت ، ثم ما كنت صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك " {[3449]} هذا حديث غريب وسياق عجيب ، والذي ورد في الصحيحين ، عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال : كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءه الوحي ، ثم رفع رأسه فقال : " أين السائل ؟ " فقال : ها أنا ذا ، فقال : " أما الجبة فانزعها ، وأما الطيب الذي بك فاغسله ، ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عُمْرتك " {[3450]} . ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق{[3451]} ولا ذكر نزول الآية{[3452]} ، وهو عن يعلى بن أمية ، لا [ عن ]{[3453]} صفوان بن أمية ، والله أعلم .
وقوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ست ، أيْ عام الحديبية ، حين حال المشركون بين رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ، وأنزل الله في ذلك سورةَ الفتح بكمالها ، وأنزل لهم رُخْصَةً : أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة ، وأن يَتَحَللوا من إحرامهم ، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا . فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه ، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : " رَحِم الله المُحَلِّقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ فقال في الثالثة : " والمقصرين " {[3454]} . وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك ، كُلُّ سبعة في بَدَنة ، وكانوا ألفًا وأربعمائة ، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم ، وقيل : بل كانوا على طَرف الحرم ، فالله أعلم .
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو ، فلا يتحلل إلا من حصره عَدُو ، لا مرض ولا غيره ؟ على قولين :
فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عَنْ عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، وابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وابن أبي نَجِيح [ ومجاهد ]{[3455]} عن ابن عباس ، أنه قال : لا حَصْرَ إلا حصرُ العدو ، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء ، إنما قال الله تعالى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } فليس الأمن حصرًا .
قال : وروي عن ابن عمر ، وطاوس ، والزهري ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك .
والقول الثاني : أن الحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال - وهو التَّوَهان عن الطريق أو نحو ذلك . قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حَجَّاج بن الصوّافُ ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو{[3456]} الأنصاري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كُسِر أو عَرِج فقد حل ، وعليه حجة أخرى " .
قال : فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق .
وأخرجه{[3457]} أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير ، به{[3458]} . وفي رواية لأبي داود وابن ماجة : من عرج أو كُسر أو مَرض - فذكر معناه . ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف ، به . ثم قال : وروي عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : الإحصار من عدو ، أو مرض ، أو كسر .
وقال الثوري : الإحصار من كل شيء آذاه . وثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول الله ، إني أريد الحج وأنا شاكية . فقال : " حُجِّي واشترطي : أنَّ مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني " {[3459]} . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله{[3460]} . فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث . وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث . قال البيهقي وغيره من الحفاظ : فقد صح ، ولله الحمد .
وقوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال الإمام مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } شاة . وقال ابن عباس : الهَدْي من الأزواج الثمانية : من الإبل والبقر والمعز والضأن .
وقال الثوري ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : شاة . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وأبو العالية ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وعبد الرحمن بن القاسم ، والشعبي ، والنّخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم مثلَ ذلك ، وهو مذهب الأئمة الأربعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر .
قال : ورُوِي عن سالم ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير - نحوُ ذلك .
قلت : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية{[3461]} الحديبية ، فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة ، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ، ففي الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة{[3462]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : بقدر يَسَارته{[3463]} .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن كان موسرًا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم . وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء .
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الإحصار : أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي ، أي : مهما تيسر مما يسمى هديًا ، والهَدْي من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قاله الحَبْر البحر{[3464]} ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين ، رضي الله عنها ، قالت : أهْدَى النبي صلى الله عليه وسلم مَرة غنمًا{[3465]} .
وقوله : { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } معطوف على قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وليس معطوفًا على قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } كما زعمه ابن جرير ، رحمه الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }
ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ، إن كان قارنًا ، أو من فعْل أحدهما إن كان مُفْردًا أو متمتعًا ، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت : يا رسول الله ، ما شأن{[3466]} الناس حَلّوا من العمرة ، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك ؟ فقال : " إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي ، فلا أحلّ حتى أنحر " {[3467]} .
وقوله : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني : سمعت عبد الله بن مَعْقل ، قال : فعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - فسألته عن { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } فقال : حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي . فقال : " ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا ! أما تجد شاة ؟ " قلت : لا . قال : " صُمْ ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك " . فنزلت فيّ خاصة ، وهي لكم عامة{[3468]} .
وقال الإمام أحمدُ : حدثنا إسماعيلُ ، حدثنا أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عُجْرَة قال : أتى عَلَيّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي - أو قال : حاجبي - فقال : " يُؤْذيك{[3469]} هَوَامُّ رأسك ؟ " . قلت : نعم . قال : " فاحلقه ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة " . قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ{[3470]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر{[3471]} عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون وقد حصره المشركون{[3472]} وكانت لي وَفْرة ، فجعلت الهوام تَسَاقَطُ على وجهي ، فمر بي رسول الله{[3473]} صلى الله عليه وسلم فقال : " أيؤذيك هوام رأسك ؟ " فأمره أن يحلق . قال : ونزلت هذه الآية : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }{[3474]} .
وكذا رواه عفان ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، وهو جعفر بن إياس ، به . وعن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، به{[3475]} . وعن شعبة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن كعب بن عُجْرَة ، نحوه .
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ابن عجرة - فذكر نحوه{[3476]} .
وقال سعد{[3477]} بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن البصري : أنه سمع كعب بن عُجْرَة يقول : فذبحت شاة . رواه ابن مَرْدُوَيه . وروي أيضًا من حديث عمر بن قيس ، سندل - وهو ضعيف{[3478]} - عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النسك شاة ، والصيام ثلاثة أيام ، والطعام{[3479]} فَرَق ، بين ستة " {[3480]} .
وكذا رُوي عن علي ، ومحمد بن كعب ، وعكرمة{[3481]} وإبراهيم [ النخعي ]{[3482]} ومجاهد ، وعطاء ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا عبد الله بن وهب : أن مالك بن أنس حدثه{[3483]} عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ابن عُجْرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآذاه القَمْل في رأسه ، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ، وقال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، مُدّين مدّين لكل إنسان ، أو انسُك شاة ، أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك " {[3484]} .
وهكذا روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إذا كان " أو " فأيه أخذتَ أجزأ عنك .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، وحُميد الأعرج ، وإبراهيم النخَعي ، والضحاك ، نحو ذلك .
قلت : وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يُخَيَّر{[3485]} في هذا المقام ، إن شاء صام ، وإن شاء تصدّق بفَرق ، وهو ثلاثة آصع ، لكل مسكين نصفُ صاع ، وهو مُدّان ، وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء ، أيّ ذلك فعل أجزأه . ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ولما أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك ، أرشده إلى الأفضل ، فالأفضل فقال : انسك شاة ، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام . فكلّ حسن في مقامه . ولله الحمد والمنة .
وقال ابن جرير : حدّثنا أبو كُرَيْب ، حدّثنا أبو بكر بن عياش قال : ذكر الأعمشُ قال : سأل إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الآية : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } فأجابه يقول : يُحْكَم عليه طعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم ، وجعل مكانها طعام فتصدق ، وإلا صام بكل نصف صاع يومًا ، قال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر . قال : لما قال لي سعيد بن جبير : من هذا ؟ ما أظرفه ! قال : قلت : هذا إبراهيم . فقال : ما أظرفه ! كان يجالسنا . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال : فلما قلت : " يجالسنا " انتفض منها{[3486]} .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا عبُيَد الله{[3487]} بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إذا كان بالمُحْرِم أذى من رأسه ، حَلَق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء ، والصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كلّ مسكين مَكُّوكين : مكوكا من تمر ، ومكوكا من بُر ، والنسك شاة .
وقال قتادة ، عن الحسن وعكرمة في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إطعام عشرة مساكين .
وهذان القولان من سعيد بن جبير ، وعلقمة ، والحسن ، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر ؛ لأنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن عُجْرة بصيام ثلاثة أيام ، [ لا عشرة و ]{[3488]} لا ستة ، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ، وأن ذلك على التخيير كما دَلّ عليه سياق القرآن . وأما هذا الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد ، كما هو نص القرآن . وعليه أجمع الفقهاء هناك ، بخلاف هذا ، والله أعلم .
وقال هُشَيم : أخبرنا ليث ، عن طاوس : أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام{[3489]} فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، والحسن .
وقال هُشَيم : أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء : أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وقال هشيم : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال : حج عثمان بن عفان ، ومعه علي والحسين{[3490]} بن علي ، فارتحل عثمان . قال أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر ، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلت : أيها النؤوم{[3491]} . فاستيقظ ، فإذا الحسين{[3492]} بن علي . قال : فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به السُّقْيا قال : فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس . قال : فمرضناه نحوا من عشرين ليلة . قال : قال علي للحسين : ما الذي تجد ؟ قال : فأومأ بيده إلى رأسه . قال : فأمر به عَليّ فَحَلَق رأسه ، ثم دعا ببدنَةٍ فنحرها . فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة . وإن كانت عن{[3493]} التحلل فواضح .
وقوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : إذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص ، وهو المعروف في كلام الفقهاء . والتمتع العام يشمل القسمين ، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح ، فإن من الرُواة من يقولُ : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وآخر يقول : قَرَن . ولا خلاف أنّه ساق الهدي{[3494]} .
وقال تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة ، وله أن يذبح البقر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر . وقال الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة{[3495]} عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه ، وكن متمتعات . رواه أبو بكر بن مَرْدويه{[3496]} .
وفي هذا دليل على شرعية{[3497]} التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال : نزلت آية المتعة{[3498]} في كتاب الله ، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم لم يُنزل قرآن يُحَرّمه ، ولم يُنْهَ عنها ، حتى مات . قال رجل بِرَأيه ما شاء{[3499]} . قال البخاري : يقال : إنه عُمَر . وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن عمر ، رضي الله عنه ، كان ينهى الناس عن التمتع ، ويقول : إن{[3500]} نأخذ بكتاب الله فإنّ الله يأمر بالتمام . يعني قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وفي نفس الأمر لم يكن عمر ، رضي الله عنه ، ينهى عنها محَرِّمًا لها ، إنما كان يَنْهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ، كما قد صرح به ، رضي الله عنه .
وقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } يقول تعالى : فمن لم يجد هَدْيًا فَلْيصمْ ثلاثة أيام في الحج ، أي : في أيام المناسك . قال العلماء : والأولى أن يصومها قبل يوم عَرَفة في العشر{[3501]} ، قاله عطاء . أو من حين يحرم ، قاله ابن عباس وغيره ، لقوله : { فِي الْحَجِّ } ومنهم من يجوِّز صيامها من أول شوال ، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد . وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والسّدّي ، وعطاء ، وطاوس ، والحكم ، والحسن ، وحماد ، وإبراهيم ، وأبو جعفر الباقر ، والربيع ، ومقاتل بن حَيّان . وقال العوفي ، عن ابن عباس : إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله . وكذا رَوَى أبو إسحاق عن وبرة ، عن ابن عمر ، قال : يصوم يومًا قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وكذا رَوَى عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أيضًا .
فلو لم يَصُمْها أو بعضها قبل [ يوم ]{[3502]} العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما للإمام الشافعي أيضًا ، القديم منهما أنه يجوزُ له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري : لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمن{[3503]} إلا لمن لا يجد الهَدي{[3504]} . وكذا رواه مالك ، عن الزّهري ، عن عروة ، عن عائشة . وعن سالم ، عن ابن عمر [ إنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ } ] {[3505]} . {[3506]} وقد روي من غير وجه عنهما . ورواه سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنه كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق . وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي {[3507]} وعكرمة ، والحسن البصري ، وعروة بن الزبير ؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } والجديد من القولين : أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق ، لما رواه مسلم عن نبَيْشَة {[3508]} الهذلي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " {[3509]} .
وقوله : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } فيه قولان :
أحدهما : إذا رجعتم في الطريق . ولهذا قال مجاهد : هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق . وكذا قال عطاء بن أبي رباح .
والقول الثاني : إذا رجعتم إلى أوطانكم ؛ قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سالم ، سمعت ابن عمر قال : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } قال : إذا رَجَع إلى أهله{[3510]} ، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والربيع بن أنس . وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع .
وقد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة ، ثم أهلَّ بالحج ، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج . فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق الهَدْي ، ومنهم من لم يُهْد . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : " من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه ، ومَنْ لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة ، وَلْيُقَصِّر وليَحللْ{[3511]} ثم ليُهِلّ بالحج ، فمن لم يجد هديًا فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " . وذكر تمام الحديث{[3512]} .
قال الزهري : وأخبرني عروة ، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ، به{[3513]} .
وقوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قيل : تأكيد ، كما تقول العرب : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني وكتبت بيدي . وقال الله تعالى : { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقال : { وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] ، وقال : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [ الأعراف : 142 ] .
وقيل : معنى { كَامِلَةٌ } الأمْرُ بإكمالها وإتمامها ، اختاره ابنُ جرير . وقيل : معنى { كَامِلَةٌ } أي : مُجْزئة عن الهَدْي . قال{[3514]} هُشَيْم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن البصري ، في قوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قال : مِنَ الهَدْي .
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال ابن جرير : اختلف أهلُ التأويل فيمن عُني بقوله : { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم مَعْنِيُّون به ، وأنه لا متعة لهم ، فقال بعضهم : عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم .
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان - هو الثوري - قال : قال ابن عباس ومجاهد : هم أهل الحَرَم . وكذا روى ابن المبارك ، عن الثوري ، وزاد : الجماعة عليه .
وقال قتادة : ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ، لا متعة لكم ، أحلت لأهل الآفاق وحُرِّمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا - أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديًا{[3515]} - ثم يُهِلّ بعمرة .
وقال عبد الرزاق : حدثنا{[3516]} مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : المتعةُ للناس - لا لأهل مكة - مَنْ لم يكن أهله من الحرم . وذلك قول الله عز وجل : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : وبلغني عن ابن عباس مثلُ قول طاوس .
وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بَيْنه وبين المواقيت ، كما قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله دون المواقيت ، فهو كأهل مكة ، لا يتمتع{[3517]} .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول ، في قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : من كان دون الميقات .
وقال ابن جُرَيْج عن عطاء : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : عرفة ، ومَرّ ، وعُرَنة ، وضَجْنان ، والرجيع{[3518]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نَحْوه تَمتَّع . وفي رواية عنه : اليوم واليومين . واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ، ومن كان منه على مسافة لا تُقْصَر منها{[3519]} الصلاة ؛ لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرًا ، والله أعلم .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما أمركم{[3520]} وما نهاكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن خالف{[3521]} أمره ، وارتكب ما عنه زجره .
{ وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى ، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ { وأقيموا الحج والعمرة لله } ، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه " أنه قيل يارسول الله العمرة واجبة مثل الحج ، فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك " فمعارض بما روي " أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه ، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك " ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما ، لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس . وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، أو أن تفرد لكل منهما سفرا ، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي ، أو أن تكون النفقة حلالا . { فإن أحصرتم } منعتم ، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي ، مثل صده وأصده ، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ولنزوله في الحديبية ، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل " وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير " حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني " { فما استيسر من الهدي } فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر . أو فاهدوا ما استيسر . والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل يذبح هدي تيسر عليه ، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر . لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما ، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على المكان والزمان . والهدي : جمع هدية كجدي وجدية ، وقرئ { من الهدى } جمع هدية كمطى في مطية { فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه إلى الحلق . { أو به أذى من رأسه } كجراحة وقمل . { ففدية } فعليه فدية إن حلق . { من صيام أو صدقة أو نسك } بيان لجنس الفدية ، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة " لعلك آذاك هوامك ، قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة " والفرق ثلاثة آصع { فإذا أمنتم } الإحصار . أو كنتم في حال سعة وأمن . { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره . وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج . { فما استيسر من الهدي } فعليه دم استيسره بسبب التمتع ، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، إنه ندم نسك فهو كالأضحية { فمن لم يجد } أي الهدي . { فصيام ثلاثة أيام في الحج } في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل . قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه . ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين . { وسبعة إذا رجعتم } إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وقرئ { سبعة } بالنصب عطفا على محل { ثلاثة أيام } . { تلك عشرة } فذلكة الحساب ، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو ، كقولك جالس الحسن وابن سيرين . وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب ، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها ، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي . { ذلك } إشارة إلى الحكم المذكور عندنا . والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قرآن لحاضري المسجد الحرام عنده ، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية . { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا ، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم ، أو في حكمه . ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك . { واتقوا الله } في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصا في الحج { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان .
وقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ، قال ابن زيد والشعبي وغيرهما : إتمامهما أن لا تفسخ وأن تتمهما إذا بدأت بهما .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك( {[1813]} ) ، وفعله عمران بن حصين .
وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : { لله } .
وقال قتادة والقاسم بن محمد : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص ، وهو قول مالك وجماعة من العلماء . وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال وزيادة ، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل ، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أفضل الحج ؟ فقال : العج والثج( {[1814]} ) ، ومالك ومن قال بقوله يراه ثج التطوع .
وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن ، وهذا على أن الإفراد أفضل .
وقالت فرقة : القرآن أفضل ، وذلك هو الإتمام عندهم .
وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم : إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء .
وفروض الحج : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي ، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافاً لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة على قول ابن الماجشون ، وأما أعمال العمرة فنية وإحرام ، وطواف ، وسعي .
واختلف في فرض العمرة فقال مالك رحمه الله : هي سنة واجبة( {[1815]} ) لا ينبغي أن تترك كالوتر ، وهي عندنا مرة واحدة في العام( {[1816]} ) ، وهذا قول جمهور أصحابه ، وحكى ابن المنذر( {[1817]} ) في الإشراف عن أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة ، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه يوجبها كالحج ، وبأنها سنة .
قال ابن مسعود وجمهور من العلماء ، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي وجماعة تابعين : أنها وجبة كالفرض( {[1818]} ) ، وقاله ابن الجهم من المالكيين .
وقال مسروق : «الحج والعمرة فرض ، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة » ، وقرأ الشعبي وأبو حيوة «والعمرةُ لله » برفع العمرة على القطع والابتداء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «الحجِ » بكسر الحاء ، وفي مصحف ابن مسعود «وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله » ، وروي عنه : «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » ، وروي غير هذا مما هو كالتفسير( {[1819]} ) .
وقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }( {[1820]} ) ، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو .
وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك ، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو ، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو .
وقال الفراء : «هما بمعنى واحد في المرض والعدو » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط( {[1821]} ) وجاور فقد يحصر العدو والماء ونحوه ولا يحصر المرض ، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر( {[1822]} ) كأقبر وأحمى( {[1823]} ) وغير ذلك ، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصراً لا حاصراً ، ألا ترى أن العدو كان محصراً في عام الحديبية ، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل ، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر ، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه .
وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالاً ولا قضاء عليه عند الجميع إلا أن يكون ضرورة فعليه حجة الإسلام .
وقال ابن الماجشون : «ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا وجه له .
وقال أشهب : «يهدي المحصر بعدو هدياً من أجل الحصر » .
وقال ابن القاسم : «لا يهدي شيئاً إلا إن كان معه هدي فأراد نحره » ، ذكره ابن أبي زيد .
وقال عطاء وغيره : المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو .
وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء : المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت ، ويقيم حتى يفيق ، وإن قام سنين ، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة ، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي ، وقيل : إن الهدي يجب في وقت الحصر أولاً( {[1824]} ) ، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلاً في هذه الآية ، وقال : إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس ، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه ، قال : وإنما قال الله : { فإذا أمنتم } والأمن إنما هو من العدو فليس المريض في الآية .
و { ما } في موضع رفع ، أي فالجواب أو فعليكم ما استيسر ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا ، و { ما استيسر } عند جمهور أهل العلم : شاة .
وقال ابن عمر وعروة بن الزبير { ما استيسر } جمل دون جمل وبقرة دون بقرة .
وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة واخسّه شاة ، و { الهدي } جمع هدية كجدية السرج وهي البراد جمعها جدى( {[1825]} ) ، ويحتمل أن يكون { الهدي } مصدراً سمي به كالرهن ونحوه فيقع للإفراد وللجمع .
وقال أبو عمرو بن العلاء : «لا أعرف لهذه اللفظة نظيراً » .
وقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم } الآية ، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى( {[1826]} ) ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، ومحل الهدي حيث يحل نحره ، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر بعد وحيث أحصر إذا لم يمكن إرساله ، وأما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى محله .
والترتيب( {[1827]} ) أن يرمي الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة ، فإن نحر رجل قبل الرمي أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم .
وقال( {[1828]} ) قوم : لا حرج في الحج ولكن يهرق دماً .
وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا : «إذا حلق قبل أن ينحر فليهد ، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولاً واحداً في المذهب »( {[1829]} ) .
قال ابن المواز ( {[1830]} )عن مالك : ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي ، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه .
وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة «الهدِيّ » بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية ، ورويت هذه القراءة عن عاصم .
وقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً } الآية ، المعنى فحلق لإزالة الأذى { ففدية } ، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين ، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة( {[1831]} ) حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملاً ، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة . و { فدية } رفع على خبر الابتداء ، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم وغيرهم وجميع أصحاب مالك : ثلاثة أيام ، والصدقة : ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم( {[1832]} ) ، والنسك : شاة بإجماع ، ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل .
وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة : الصيام عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين .
وقرأ الزهري «أو نسْك » بسكون السين .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد : النسْك شاة ، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان لكل مسكين ، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن كل مدين يوماً .
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : ذلك كله حيث شاء( {[1833]} ) ، وقاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا ابن الجهم ، فإنه قال : لا يكون النسك إلا بمكة .
وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي : النسك بمكة ، والصيام والإطعام حيث شاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وطاوس وعطاء أيضاً ومجاهد والشافعي : النسك والإطعام بمكة ، والصيام حيث شاء ، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء ، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما في القرآن أو فإنه على التخيير .
وقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ، قال علقمة وعروة : المعنى إذا برأتم من مرضكم . وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر ، وهذا أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه .
وقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } الآية ، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم ، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه .
وقال ابن عباس وجماعة من العلماء : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله ، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط : أن يكون معتمراً في أشهر الحج ، وهو من غير حاضري المسجد الحرام ، ويحل( {[1834]} ) وينشىء الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعداً . هذا قول مالك واصحابه ، واختلف لم سمي متمتعاً ، فقال ابن القاسم : لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج( {[1835]} ) ، وقال غيره : سمي متمتعاً لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك ، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هدياً كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفراً ، والمكي لا يقتضي حاله سفراً في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئاً لأنه لم يسقط شيئاً ، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } المكي وغيره على السواء في القياس ، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو أعذر ويلزم هدياً ، ولا يفعل ذلك بالمكي ، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما هو من أجل إسقاط أحد السفرين ، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ له : إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له ، ورخص الله تعالى للقادم لطول بقائه محرماً وقرن الرخصة بالهدي .
قال القاضي أبو محمد : فهذه شدة على أهل مكة ، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة استباحة ما لا يجوز للمحرم ، لكنه قول شاذ لا يعول عليه ، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه ، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر واستند إليه في الذي وافقه ، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال : إنه قال يا أهل مكة لا متعة لكم ، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم ، وإنما يقطع أحدكم وادياً ثم يحرم بعمرة .
قال القاضي أبو محمد : فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج ، وقال السدي : المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة( {[1836]} ) ، وذلك لا يجوز عند مالك ، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال : قلت يا رسول الله : فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد ؟ فقال : «بل لأبد أبد ، بل لأبد أبد »( {[1837]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وإنما شرط في المتمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج فمن كان فيها محرماً فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج ، وفي كتاب مسلم إيعاب الأحاديث في هذا المعنى ، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج خاصتان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال طاوس : «من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع » .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فو متمتع » ، وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء ، وتقدم القول فيما استيسر من الهدي( {[1838]} ) .
قوله : { لم يجد } إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان( {[1839]} ) ، و { في الحج } قال عكرمة وعطاء : له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج .
وقال ابن عباس ومالك بن أنس : له أن يصومها منذ يحرم بالحج .
وقال عطاء أيضاً ومجاهد : لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة .
وقال ابن عمر والحسن الحكم : يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة ، وكلهم يقول : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم : من فاته صيامها قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج .
وقال قوم : له ابتداء تأخيرها إلى يوم التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر .
وقوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } قال مجاهد وعطاء وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق .
وقال قتادة والربيع : هذه رخصة من الله تعالى ، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وطنه ، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ، وقرأ زيد بن علي «وسبعةً » بالنصب ، أي وصوموا سبعة( {[1840]} ) ، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير( {[1841]} ) بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى : { تلك عشرة كاملة }( {[1842]} ) قال الحسن بن أبي الحسن : المعنى كاملة في الثواب كمن أهدى ، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع ، وهذا على أن الحج الذي لم تكثر( {[1843]} ) فيه الدماء أخلص وأفضل خلافاً لأبي حنيفة ، وقيل : { كاملة } توكيد كما تقول كتبت بيدي ، وكقوله تعالى : { فخر عليهم السقف من فوقهم }( {[1844]} ) [ النحل : 6 ] ، وقيل : لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها .
وقال الاستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد( {[1845]} ) : المعنى تلك كاملة ، وكرر الموصوف تأكيداً كما تقول زيد رجل عاقل( {[1846]} ) .
وقوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله } الآية ، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه ، وهذا على قول من يرى أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج ، فكان الكلام ذلك الترخيص ، ويتأيد هذا بقوله { لمن } ، لأن اللام أبداً إنما تجيء مع الرخص ، تقول لك أن تفعل كذا ، وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك ، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم عليه لأنه لم يسقط سفراً فالإشارة بذلك -على قوله - هي إلى الهدي ، أي ذلك الاشتداد والإلزام .
واختلف الناس في { حاضري المسجد الحرام } بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها ، وقال الطبري : بعد الإجماع على أهل الحرم ، وليس كما قال : فقال بعض العلماء : من كان حيث تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي .
قال القاضي أبو محمد : فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة ، وقال بعضهم : من كان بحيث لا تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد ، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب ، وقال عطاء بن أبي رباح : مكة وضجنان( {[1847]} ) وذو طوى وما أشبهها حاضرو المسجد الحرام .
وقال ابن عباس ومجاهد : أهل الحرم كله حاضرو المسجد الحرام ، وقال مكحول( {[1848]} ) وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة حاضروا المسجد الحرام .
وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام( {[1849]} ) ، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم ، وحذر من شديد عقابه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأتموا الحج والعمرة لله}: من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، فريضتان واجبتان، ويقال: العمرة هي الحج الأصغر، وتمام الحج والعمرة المواقيت والإحرام خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون في إحرامهم، فأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتموهما لله، فقال: {وأتموا الحج والعمرة لله}: وهو ألا يخلطوهما بشيء، ثم خوفهم أن يستحلوا منهما ما لا ينبغي، فقال سبحانه في آخر الآية: {واعلموا أن الله شديد العقاب}، {فإن أحصرتم}، يقول: فإن حبستم كقوله سبحانه: {الذين أحصروا في سبيل الله} (البقرة: 273) يعني حبسوا، نظيرها أيضا: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} (الإسراء: 8) يعني محبسا، يقول: إن حبسكم في إحرامكم بحج أو بعمرة كسر أو مرض أو عدو عن المسجد الحرام، {فما استيسر من الهدي}، يعني فليقم محرما مكانه ويبعث ما استيسر من الهدي، أو بثمن الهدي، فيشترى له الهدي، فإذا نحر الهدي عنه، فإنه يحل من إحرامه مكانه، ثم قال: {ولا تحلقوا رءوسكم} في الإحرام، {حتى يبلغ الهدي محله}: يعني حتى يدخل الهدي مكة، فإذا نحر الهدي حل من إحرامه، {فمن كان منكم مريضا}، وذلك أن كعب بن عجرة الأنصاري كان محرما بعمرة عام الحديبية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم على مقدم رأسه قملا كثيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا كعب أيؤذيك هوام رأسك؟"، قال نعم يا نبي الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق، فأنزل الله عز وجل في كعب: {فمن كان منكم مريضا} {أو به أذى من رأسه}، فحلق رأسه، {ففدية من صيام}، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، {أو صدقة} على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة، {أو نسك}، يعني شاة أو بقرة أو بعيرا ينحره، ثم يطعمه المساكين بمكة، ولا يأكل منه، وهو بالخيار، إن شاء ذبح شاة أو بقرة أو بعيرا، فأما كعب، فذبح بقرة. {فإذا أمنتم} من الحبس من العدو عن البيت الحرام، {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} يقول: وهو يريد الحج، فإن دخل مكة وهو محرم بعمرة في غرة شوال، أو ذي القعدة، أو في عشر من ذي الحجة، {فما استيسر من الهدي}، يعني شاة فما فوقها يذبحها فيأكل منها ويطعم، فقال أبو هريرة، وسلمان، وأبو العرباض للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نجد الهدي، فلنصم ثلاثة أيام، فأنزل الله عز وجل فيهم: {فمن لم يجد} الهدي فليصم، {فصيام ثلاثة أيام في الحج} في عشر الأضحى في أول يوم من العشر إلى يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة يوم الثالث، تم صومه، ثم قال: {وسبعة}، يعني ولتصوموا سبعة أيام {إذا رجعتم} من منى إلى أهليكم، {تلك عشرة كاملة}، فمن شاء صام في الطريق، ومن شاء صام في أهله، إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، ثم قال: {ذلك} التمتع {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}، يعني من لم يكن منزله في أرض الحرم كله، فمن كان أهله في أرض الحرم، فلا متعة عليه ولا صوم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك أتموا الحج بمناسكه وسننه، وأتموا العمرة بحدودها وسننها... عن ابن عباس:"وأتموا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ" يقول: من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحلّ حتى يتمها تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حل من إحرامه كله، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل.
وقال آخرون: تمامهما؛ أن تحرم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلك. وقال آخرون: تمام العمرة؛ أن تعمل في غير أشهر الحجّ، وتمام الحجّ أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة. وقال آخرون: إتمامهما؛ أن تخرج من أهلك لا تريد غيرهما. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتموا الحجّ والعمرة لله إذا دخلتم فيهما... قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قول الله تعالى: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ"؟ قال: ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا دخل في أمر إلا أن يتمه، فإذا دخل فيها لم ينبغ له أن يهلّ يوما أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يوما لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار. وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا... عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوّع: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةُ لِلّهِ "وقال أبو بردة: هي واجبة: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ".
وقد رُوي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا... عن الشعبي، قال: العمرة واجبة.
فقراءة من قال: العمرة واجبة نَصْبها بمعنى أقيموا فرض الحج والعمرة... قال عليّ بن حسين وسعيد بن جبير، وسئلا: أواجبة العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ"...
فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ" أنهما فرضان واجبان من الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما، كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأَوجب العمرة وجوب الحجّ. وهم عدد كثير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم. وقالوا: معنى قوله: "وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ": وأقيموا الحجّ والعمرة... وكأنهم عنوا بقوله: أقيموا الحجّ والعمرة: ائتوا بهما بحدودهما وأحكامهما على ما فرض عليكم.
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب العمرة: العمرة تطوّع. ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نصبهم العمرة في القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبد عمله وإتمامه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداء الدخول فيه فرضا عليه، وذلك كالحجّ التطوّع لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أن عليه المضيّ فيه وإتمامه ولم يكن فرضا عليه ابتداء الدخول فيه. وقالوا: فكذلك العمرة غير فرض واجب الدخول فيها ابتداء، غير أن على من دخل فيها وأوجبها على نفسه إتمامها بعد الدخول فيها.
قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحجّ والعمرة دلالة على وجوب فرضها.
قالوا: وإنما أوجبنا فرض الحجّ بقوله عزّ وجل: "ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً"، وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين. فأما الذين قرأوا ذلك برفع العمرة فإنهم قالوا: لا وجه لنصبها، فالعمرة إنما هي زيارة البيت، ولا يكون مستحقا اسم معتمر إلا وهو له زائر، قالوا: وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته، وهو متى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة، فلا عمل يبقى بعده يؤمر بإتمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتمامه الحاج بعد بلوغه والطواف به وبالصفا والمروة بإتيان عرفة والمزدلفة، والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها وعمل سائر أعمال الحجّ الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت، لم يكن لقول القائل للمعتمر أتمّ عمرتك وجه مفهوم، وإذا لم يكن له وجه مفهوم فالصواب من القراءة في العمرة الرفع على أنه من أعمال البرّ لله، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهو قوله: لله.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب العمرة على العطف بها على الحج، بمعنى الأمر بإتمامهما له. ولا معنى لاعتلال من اعتلّ في رفعها بأن العمرة زيارة البيت، فإن المعتمر متى بلغه، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه، وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمام العمل الذي أمره الله به في اعتماره، وزيارته البيت وذلك هو الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وتجنب ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك، وذلك عمل وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه غير الزيارة. هذا مع إجماع الحجة على قراءة العمرة بالنصب، ومخالفة جميع قرّاء الأمصار قراءة من قرأ ذلك رفعا، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعا.
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله:"...والعُمْرَةَ لِلّهِ" على قراءة من قرأ ذلك نصبا؛ فقول عبد الله بن مسعود، ومن قال بقوله من أن معنى ذلك: وأتموا الحجّ والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما لا أن ذلك أمر من الله عزّ وجل بابتداء عملهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه بهذه الآية، وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا من أن يكون أمرا من الله عزّ وجل بإقامتهما ابتداء وإيجابا منه على العباد فرضهما، وأن يكون أمرا منه بإتمامهما بعد الدخول فيهما، وبعد إيجاب موجبهما على نفسه، فإذا كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذا كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبر عن الحجة للعذر قاطعا، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة، لم يكن لقول قائل هي فرض بغير برهان دالّ على صحة قوله معنى، إذ كانت الفروض لا تلزم العباد إلا بدلالة على لزومها إياهم واضحة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا شريك، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحَجّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوّعٌ».
وإن أولى القولين في العمرة بالصواب قول من قال: هي تطوّع لا فرض. وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم على ما أمركم الله من حدودهما.
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صدّ فيها عن البيت معرفه والمؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خلي بينهم وبين البيت، ومبينا لهم فيها ما المخرج لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصدّوا عن البيت وبذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم، افتتح بقوله: "يَسْألُونَكَ عَن الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والحَجّ" وقد دللنا فيما مضى على معنى الحجّ والعمرة بشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته.
"فإنْ أُحْصِرُتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي".
اختلف أهل التأويل في الإحصار الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي؛ فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام... قال مجاهد في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ": يمرض إنسان أو يكسر أو يحبسه أمر فغلبه كائنا ما كان، فليرسل بما استيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل حتى يوم النحر.
وعلة من قال بهذه المقالة أن الإحصار معناه في كلام العرب: منع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة من قاهر أو غالب إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما منع العدوّ، وحبس حابس في سجن، وغلبة غالب حائل بين المحرم والوصول إلى البيت من سلطان، أو إنسان قاهر مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب حصرا لا إحصارا.
قالوا: ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه: "وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا": يعني به: حاصرا: أي حابسا.
قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا يسمى إحصارا لوجب أن يقال: قد أحصر العدوّ. قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على «حوصر العدوّ» و «العدوّ محاصر»، دون «أحصر العدوّ» و«هم محصرون»، و«أحصر الرجل» بالعلة من المرض والخوف، أكبر الدلالة على أن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" بمرض أو خوف أو علة مانعة.
قالوا: وإنما جعلنا حبس العدوّ ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى حصر المرض قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت، لا بدلالة ظاهر قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ"، إذ كان حبس العدوّ والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.
وقال آخرون: معنى قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ": فإن حبسكم عدوّ عن الوصول إلى البيت، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا: فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخل في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ"... عن ابن عباس أنه قال: الحصر: حصر العدوّ، فيبعث الرجل بهديته، فإن كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها ويحرم. قال محمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال يحرم أو يحلّ من يوم يواعد فيه صاحب الهدي إذا اشترى، فإذا أمن فعليه أن يحجّ أو يعتمر، فإذا أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي، فإنه يحلّ حيث يحبس، فإن كان معه هدي فلا يحلّ حتى يبلغ الهدي محله، فإذا بعث به فليس عليه أن يحجّ قابلاً، ولا يعتمر إلا أن يشاء.
وقال مالك بن أنس: «بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء».
حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه. قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيل بينه وبين البيت؟ فقال: يحلّ من كلّ شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث يحبس، وليس عليه قضاء إلا أن يكون لم يحجّ قط، فعليه أن يحجّ حجة الإسلام. قال: والأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدوّ بمرض أو ما أشبهه، أن يبدأ بما لا بدّ منه، ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي.
وعلة من قال هذه المقالة أعني من قال قولَ مالك أن هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، فأمر الله نبيه ومن معه بنحر هداياهم والإحلال. قالوا: فإنما أنزل الله هذه الآية في حصر العدوّ، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلت فيه.
قالوا: وأما المريض، فإنه إذا لم يطق لمرضه السير حتى فاتته عرفة، فإنما هو رجل فاته الحجّ، عليه الخروج من إحرامه بما يخرج به من فاته الحج، وليس من معنى المحصر الذي نزلت هذه الآية في شأنه.
وأولى التأويلين بالصواب في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوف عدوّ أو مرض أو علة عن الوصول إلى البيت، أي صيركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحجّ والعمرة. فلذا قيل «أحصرتم»، لما أسقط ذكر الخوف والمرض. يقال منه: أحصرني خوفي من فلان عن لقائك، ومرضي عن فلان، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجل والإنسان، قيل: حصرني فلان عن لقائك، بمعنى حبسني عنه.
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوّل من قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حُصِرتم.
ومما يبين صحة ما قلناه من أن تأويل الآية مراد بها إحصار غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدوّ، قوله: "فإنْ أمِنْتُمْ فمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ"، والأمن إنما يكون بزوال الخوف. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية هو الخوف الذي يكون بزواله الأمن.
وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن حبس الحابس الذي ليس مع حبسه خوف على النفس من حبسه داخلاً في حكم الآية بظاهرها المتلّو، وإن كان قد يلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه، كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالد وزوج المرأة، إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنع عن الشخوص لعمل الحجّ، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرام، غير داخل في ظاهر قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" لما وصفنا من أن معناه: فان أحصركم خوف عدوّ، بدلالة قوله: "فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحجّ".
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصدّه عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم.
ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله: "فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ"؛ فقال بعضهم: هو شاة... عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عباس عما استيسر من الهدي؟ قال: من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن.
[عن] ابن عباس كان يقول: ما استيسر من الهدي: شاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحبّ إلي.
وقال آخرون: «ما استيسر من الهدي»: من الإبل والبقر، سنّ دون سنّ. وأولى القولين بالصواب قول من قال: ما استيسر من الهدي شاة؛ لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خصّ من ذلك شيئا، فيكون ما خصّ من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحقّ اسم هدي.
فإن قال قائل: فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي بأنه لا يستحقّ اسم هدي كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا؟ قيل: لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف نحو الذي في المهدي الشاة لكان سبيلهما واحدة في أن كل واحد منهما قد أدّى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهَدْيَيْن يخرجه من أن يكون مؤديا بإهدائه ما أهدى من ذلك مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته بالحجة القاطعة العذر، نقلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله: فمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.
ولما اختلف في الجذع من الضأن والثنيّ من المعز، كان مجزئا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل، لأنه مما استيسر من الهدي.
وأما الهدي؛ فإنه جمع واحدها هَدِيّة، على تقدير جَدِيّة السرج، والجمع الجَدْي مخفف.
والهدي عندي إنما سمي هديا لأنه تقرّب به إلى الله جل وعزّ مهديه بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقرّبا بها إليه، يقال منه: أهديت الهدي إلى بيت الله فأنا أهديه إهداء، كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره: أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها. ويقال للبدنة هدية.
"وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلّه": فإن أحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه، محله، وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، حتى يبلغ الهدي الذي أباح الله له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه محله.
ثم اختلف أهل العلم في محل الهدي الذي عناه الله جل اسمه الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه؛
فقال بعضهم: محلّ هدي المحصر الذي يحلّ به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه، إذا كان إحصاره من خوف عدوّ منعه ذبحه إن كان مما يذبح، أو نحره إن كان مما ينحر، في الحلّ ذبح أو نحر أو في الحرم حيث حبس، وإن كان من غير خوف عدوّ فلا يحلّ حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدوّ دون غيره؛ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم، وحلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء...
وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم لا محلّ له غيره.
وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم. وقال: ومعنى الآية: فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم... فأولى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك، فمن متأوّل معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذٍ نزلت، وفي حكم صدّ المشركين إياه عن البيت أوحيت.
وقد رُوي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: ثني الحجاج بن أبي عثمان، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه، قال: حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن كُسِرَ أوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلّ وَعَلَيْهِ حَجّةٌ أُخْرَى» قال: فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك، فقالا: صدق.
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حلّ منها نظير فعل النبيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية.
ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدوّ إذا حلّ من إحرامه التطوّع فلا قضاء عليه، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء، ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء وأسقطت عن الاَخر، وكلاهما قد حلّ من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة؟
فإن قال: لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه قيل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسباب منعهما، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه، والاَخر بمنع مانع؟ ثم يسئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله.
وأما الذين قالوا: لا إحصار في العمرة، فإنه يقال لهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت، وهو محرم بالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها؟ أو رأيتم إن قال قائل: لا إحصار في حج، وإنما فيه فوت، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحجّ سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنّ فيها ما سنّ، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بين من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصار دون الحجّ هل بينها وبينه فرق؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ".
يعني بذلك جل ثناؤه فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ إلا أن يضطرّ إلى حلقه منكم مضطرّ، إما لمرض، وإما لأذى برأسه، من هوامّ أو غيرها، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لم يبلغ الهدي محلّه، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحجّ بالنسك أو الإطعام إلا بعد التكفير، وإن أراد أن يفتدي بالصوم حلق ثم صام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحِلاق إذا أراد حلاقه. وعلة من قال هذه المقالة ما.
حدثنا به المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فقال: إن كعب بن عجرة مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير، فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام: «هَلْ عِنْدَكَ شاةٌ»؟ فقال كعب: ما أجدها. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنْ شِئْتَ فأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين، وإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، ثُم احْلِقْ رأسَكَ».
فأما المرض الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان.
وأما الأذى الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنحو الصداع والشقيقة، وما أشبه ذلك، وأن يكثر صئبان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرّة الحالّة به، فيكون ذلك له بعموم قول الله جل وعزّ: أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية. ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه؛ فقال بعضهم: الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلّوا بالأخبار التي ذكرناها قبل... عن أبي مالك: "فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك" قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة.
وقال آخرون: الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين... وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم أو صدقة جزاء من نقص دخل في إحرامه، أو فعل ما لم يكن له فعله بدلاً من دم على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا: جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده، قالوا: فكل صوم وجب مكان دم فمثله، قالوا: فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره، فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق.
وقال آخرون: بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده، فإن لم تكن عنده قوّمت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدّق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما.
وقال آخرون: بل هو مخير بين الخلال الثلاث يفتدي بأيها شاء... عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن «أو أو»، فهو مخير فيه، فإن كان «فمن فمن»، فالأولَ فالأولَ.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع. وللمفتدي الخيار بين أيّ ذلك شاء لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها، بل جعل إليه فعل أيّ الثلاث شاء. ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له: ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير إذا كان موسرا في أن يكفر بأيّ الكفارات الثلاث شاء؟ فإن قال: لا، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال بلى، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به، ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله. على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم: وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة الحلق قبل الحلق وهدي المتعة قبل التمتع ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن اعتلّ في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة، قيل له فردّ الأخرى قياسا عليها إن كان فيها اختلاف.
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى من الصيام: عشرة أيام، ومن الإطعام: عشرة مساكين فمخالفون نصّ الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم: أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام، أتسوّون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام، أم تفرّقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سوّوا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية من الإطعام والصيام وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف. وإن قالوا: بل نخالف بين ذلك، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام. قيل: فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة، وإنما هو تارك عملاً من الأعمال، وتركتم ردّ الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه، ومخير بين الكفارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك لاختلاف أمرهما فيما وصفنا فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقولوا في ذلك قولاً إلا ألزموا في الاَخر مثله، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس عليه بالفساد شاهد؟
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته، فقال بعضهم: النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان... عن الحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبمكة، وما سوى ذلك حيث شاء.
[و] عن طاووس، قال: كل شيء من الحجّ فبمكة، إلا الصوم.
وقال آخرون: النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي. وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي... وعلة من قال: الدم والإطعام بمكة، القياس على هدي جزاء الصيد وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة فقال: "يَحكُمُ بهَ ذَوا عَدْلٍ منكُم هدْيا بالغَ الكعبْةِ". قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة لمن وجب عليه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد.
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدّق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخل في عداد من يستحقّ ذلك الاسم كان مؤدّيا ما كلفه الله، لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة لشرط ذلك عليه، كما شرط في جزاء الصيد، وفي ترك اشتراط ذلك عليه دليل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ.
وأما علة من قال: النسك بمكة والصيام والإطعام حيث شاء، فالنسك دم كدم الهدي، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد.
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان دون مكان، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة، فليس لأحد أن يدّعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذْ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه، كما ليس لأحد أن يدّعى أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم، إذ كان الله قد خصّ أن ذلك لمن به من أهل المسكنة.
والصواب من القول في ذلك، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام فيجزي عن المفتدي، وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يجب أن يكنّ مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها، فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز ردّ حكمها على المفسرة قياسا، ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول، إذ كان هو المبين عن مراد الله. وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد.
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا؟ فقال بعضهم: ليس للمفتدي أن يأكل منه، ولكن عليه أن يتصدّق بجميعه... عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهنّ: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر المساكين.
وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره، فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له أو يكون له وحده، وما وجب له فليس عليه لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال: وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة، وإنما يجب له على غيره، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه. أو يكون وجب عليه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك غير جائز أن يكون عليه لما وصفنا. وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله.
قالوا: وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول.
وعلة من قال له أن يأكل من ذلك أن الله أوجب على المفتدي نسكا، والنسك في معاني الأضاحي وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية.
قالوا: ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره الله، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بما شاء، وإطعام ما أحبّ منه من أحب، كما له ذلك في أضحيته.
والذي نقول به في ذلك: أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه دون غيره، أو ذبحه والتصدّق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به فإن كان ذلك عليه، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدّق به، كما لو لزمته زكاة في ماله لم يكن له أن يأكل منها، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره، دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره.
ومعنى النسك: الذبح لله في لغة العرب، يقال: نسك فلان لله نسيكة، بمعنى: ذبح لله ذبيحة يَنْسكها نَسكا.
"فإذَا أمِنْتُمْ"،اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم. وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتم من وجع خوفكم. عن الربيع: "فإذَا أمِنْتُمْ" قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه.
وهذا القول أشبه بتأويل الآية، لأن الأمن هو خلاف الخوف، لا خلاف المرض، إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد.
وإنما قلنا: إن معناه الخوف من العدو لأن هذه الآيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم.
"فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ": فإن أحصرتم أيها المؤمنون، فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التمتع الذي عنى الله بهذه الآية؛ فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو محرم بالحج أو مرض أو عائق من العلل حتى يفوته الحج، فيقدم مكة، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة، ثم يحج ويهدي، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأوّل إلى إحرامه الثاني من القابل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
وقال آخرون: عَنَى بذلك المحصر وغير المحصر. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه، فعليه ما استيسر من الهدي. وقال آخرون: بل ذلك الرجل يقدم معتمرا من أفق من الاَفاق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعا بإحلال إلى إحرامه بالحج.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عَنَى بها: فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حلّ من إحرامه بالحجّ بسبب الإحصار بعمرة اعتمرها لفوته الحجّ في السنة القابلة في أشهر الحجّ إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها، ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحجّ، فعليه ما استيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحجّ وقضاها ثم حلّ من عمرته وأقام حلالاً حتى يحجّ من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله: "فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ" هو ما وصفنا من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحجّ والعمرة من الأحكام في إحصاره، فكان مما أخبر تعالى ذكره أنه عليه إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحجّ ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، كان معلوما بذلك أنه معنيّ به اللازم له عند أمنه من إحصاره من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ}: فما استيسر من الهدي، فهَدْيه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حلّ منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ في حجه وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهنّ في الحجّ أي أيّ أيام الحجّ هن؟ فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أيّ أيام شاء بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة. وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى. وقال آخرون: يصومهنّ في عشر ذي الحجة دون غيرها. وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج.
وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهنّ إلا بعد ما يحرم بالحج. والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهنّ لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة.
وإنما قلنا: له صوم أيام التشريق، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قَبْلُ، فإن صامهنّ قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم متمتع بعمرته إلى حجه، وإنما يقال له قبل إحرامه معتمر حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة، فإذا دخل في الحج محرما به بعد قضاء عمرته في أشهر الحج ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالاً حتى حج من عامه سمي متمتعا. فإذا استحقّ اسم متمتع لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده. فأما إن صامه قبل دخوله في الحجّ وإن كان من نيته الحج، فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.
فإن ظن ظانّ أن صوم المعتمر بعد إحلاله من عمرته أو قبله وقبل دخوله في الحج مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ لأن الله جعل ثناؤه جعل لليمين تحليلاً هو غير تكفير، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم تكفيرا لما يظنّ أنه يلزمه ولما يلزمه، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه.
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج، قيل له: ما قلت فيمن كفَّر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الجمرات، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك؟ فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحجّ التي أوجب الله في تضييعه على المحرم أو في فعله كفارة، فإن سوّى بين جميع ذلك فاد قوله، وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان، وهو مقيم صحيح إذا كفَّر قبل دخول الشهر، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفَّر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسئل عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن فاد قوله في ذلك، خرج من قول جميع الأمة. وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحجّ، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله.
{وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتمْ}: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره.
فإن قال لنا قائل: أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحجّ إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله؟ قيل: بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدّة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه، أو صامهنّ بمكة، كان مؤدّيا ما عليه من فرض الصوم في ذلك، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه، مختارا للعسر على اليسر.
فإن قال: وما برهانك على أن معنى قوله: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم دون أن يكون معناه: إذا رجعتم من منى إلى مكة؟ قيل: إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره. "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ"؛
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "كامِلَةٌ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي. وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام على إحرامه ولم يحلّ ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج.
وقال آخرون: معنى ذلك الأمر وإن كان مخرجه مخرج الخبر، وإنما عنى بقوله: "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ": تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض عليكم صومها.
وقال آخرون: بل قوله: "كامِلَةٌ" توكيد للكلام، كما يقول القائل: سمعته بأذني ورأيته بعيني، وكما قال: "فَخَرّ عَلَيهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" ولا يكون الخرّ إلا من فوق، فأما من موضع آخر فإنما يجوز على سعة الكلام.
وقال آخرون: إنما قال: "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ" وقد ذكر سبعة وثلاثة، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة وليس يخبر عن عدّتها، وقالوا: ألا ترى أن قوله: «كاملة» إنما هو وافية.
وأولى هذه الأقوال عندي قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر، ومعناه الأمر بها.
{ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ}: ذَلِكَ: أي التمتع بالعمرة إلى الحجّ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام... عن الربيع: ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني المتعة أنها لأهل الاَفاق، ولا تصلح لأهل مكة.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله: "ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ" بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم. فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. وقال آخرون: عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة. وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الحرم، ومن قرب منزله منه. وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات لأن حاضر الشيء في كلام العرب هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا يستحق أن يسمى غائبا إلا من كان مسافرا شاخصا عن وطنه، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم غائب عن وطنه ومنزله، كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة غير مستحقّ أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته.
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام من أجل أن التمتع إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحجّ مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحجّ، وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحجّ ثم انصرف إلى وطنه، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة، ثم حجّ من عامه ذلك، بطل أن يكون مستمتعا لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع من ترك العود إلى الميقات والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم، وكان المكيّ من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه.
{وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ}: واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بيّن لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم. "واعْلَمُوا": تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المُحْصَرُ بالحج، إذا حَلَّ منه بالإحصار، ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله، فإذا قضى حجَّه في العام الثاني، صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين، وهذا قول الزبير.
والثاني: فمن نسخ حَجَّهُ بعمرة، فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ، وهذا قول السدي.
والثالث: فمن قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وعطاء، والشافعي.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا}، فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسُفْيَانُ.
الثَّانِي: أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّالِثُ: بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ: أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الْخَامِسُ: أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
السَّادِسُ: إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا؛ قَالَهُ مَسْرُوقٌ.
السَّابِعُ: أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ. وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّهِ}. الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} إنَّهُ إحْصَارُ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَالْبُرْءُ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَنْ احْتَجَّ عَن ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا نَقُولُ هَكَذَا، بَلْ زَوَالُ كُلِّ أَلَمٍ مِنْ مَرَضٍ، وَهُوَ أَمْنٌ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْنِ، وَهُوَ عَامٌّ، كَمَا جَاءَ بِلَفْظِ "أُحْصِرَ "وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ؛ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامِ أَوَّلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}. الْمَعْنَى أَكْمِلُوا مَا بَدَأْتُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ، مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَكُمْ مَانِعٌ؛ فَإِنْ كَانَ مَانِعٌ حَلَلْتُمْ حَيْثُ حُبِسْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا مُنِعْتُمْ مِنْهُ، وَيَجْزِيكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ بَعْدَ حَلْقِ رُءُوسِكُمْ؛ فَإِذَا أَمِنْتُمْ -أَيْ زَالَ الْمَانِعُ، وَقَدْ كُنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَنْ عُمْرَةٍ فَحَجَجْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"أو نسك" النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى: "وأرنا مناسكنا "[البقرة: 128] أي متعبداتنا. وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها.
قال بعض الطلبة: فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل: فهي عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ؟ فقال ابن عرفة: « تِلْكَ» القصد بها التعظيم. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع أعظم ثوابا من المفرّق، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من ثوابها لو كانت مجموعة (فأشار بقوله « عشرة» إلى أن ثوابها على هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن) يكون مثله ولذلك قال: « كاملة»...
قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام...}. قال ابن عرفة: يؤخذ فيمن له أهل بمكة وأهل بغيرها. فقد قال الإمام مالك رضي الله عنه: إنها من مشبَّهات الأمور يؤخذ منه أن حكمه حكم الحاضر بدليل قول (مالك) في المسافر: إذا سافر ومر ببلد له فيها أهل فإنه يتمّ الصلاة كالمقيم...
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. دليل على أنّ الطلب المتقدم قبل هذا كله للوجوب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم آيات القتال بالنفقة في سبيل الله لشدة حاجة الجهاد إليها وكان سبيل الله اسماً يقع على الحج كما يقع على الجهاد كما ورد في الحديث "الحج من سبيل الله "رجع إلى الحج والعمرة المشير إليهما {مثابة للناس} [البقرة: 125] و {إن الصفا والمروة} [البقرة: 158] الآية، و {مواقيت للناس والحج} ولا سيما وآيات القتال هذه إنما نظمت ههنا بسببهما توصيلاً إليهما بعضها سببه عمرة الحديبية التي صدّ المشركون عنها، فكان كأنه قيل: مواقيت للناس والحج فحجوا واعتمروا أي تلبسوا بذلك وإن صددتم عنه وقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم في وجهكم ذلك لينفتح لكم السبيل،
ولما كان ذلك بعد الفتح ممكناً لا صاد عنه عبر بالإتمام فقال: {وأتموا} أي بعد فتح السبيل بالفتح {الحج والعمرة} بمناسكهما وحدودهما وشرائطهما وسننهما.
ولما تقدم الإنفاق في سبيل الله والقتال في سبيل الله نبه هنا على أن ذلك كلّه إنما هو لتقام العبادات التي هي مبنى الإسلام له سبحانه وتعالى فقال: {لله} الملك الذي لا كفوء له أي لذاته، ولم يضمر لئلا يتقيد بقيد...
ولما كان الحاج هو الشعث التفل أشار إلى حرمة التعرض لشعره بقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم} أي شعرها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة، من الحلق.
قال الحرالي: وهو إزالة ما يتأتى للزوال بالقطع من الآلة الماضية في عمله، والرأس مجتمع الخلقة ومجتمع كل شيء رأسه...
قال الحرالي: والهدي ما تقرب به الأدنى للأعلى وهو اسم ما يتخذ فداء من الأنعام بتقديمه إلى الله سبحانه وتعالى وتوجيهه إلى البيت العتيق، وفي تعقيب الحلق بالهدي إشعار باشتراكهما في معنى واحد وهو الفداء،
والهدي في الأصل فداء لذبح الناسك نفسه لله سنة إبراهيم في ولده عليهما الصلاة والسلام، وإزالة الشعر فداء من جزاء لرأس لله، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن تقديم أحدهما على الآخر قال: "افعل ولا حرج"، لأن الجميع غاية بالمعنى الشامل للفداء...
{فمن تمتع} أي تلذذ باستباحة دخوله إلى الحرم بإحرامه في أشهر الحج على مسافة القصر من الحرم {بالعمرة} ليستفيد الحل حين وصوله إلى البيت ويستمر حلالاً في سفره ذلك {إلى الحج} أي إحرامه به من عامة ذلك من مكة المشرفة من غير رجوع إلى الميقات
{فما} أي فعليه ما {استيسر} وجد اليسر به {من الهدي} من النعم يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل وهو مسافر، هذا للمتمتع وأما القارن فلجمعه بين النسكين في سفر واحد وشأنهما أن يكونا في وقتين وقت حل ووقت حرم، وفي العبارة إشعار بصحة إرداف الحج على العمرة لأنه ترق من إحرام أدنى إلى إحرام أعلى...
{فمن لم يجد} أي هدياً، من الوجد وهو الطول والقدرة... ولما كان زمن الصومين مختلفاً قال: {كاملة} نفياً لتوهم أن الصوم بعد الإحلال دون ما في الإحرام، والكمال:
قال الحرالي: الانتهاء إلى الغاية التي ليس وراءها مزيد من كل وجه، وقال: فكما استوى حال الهدي في انتهائه إلى الحرم أو الحل كذلك استوى حال الصوم في البلد الحرام والبلد الحلال ليكون في إشارته إشعار بأن الأرض لله مسجد كما أن البيت الحرام لله مسجد فأظهر معنى استوائهما في الكمال في حكم الأجر لأهل الأجور والقبول لأهل القبول والرضاء لأهل الرضاء والوصول لأهل الوجهة كل عامل على رتبة عمله...
ولو قال: تامة، لم يفد هذا لأن التمام قد يكون في العدد مع خلل بعض الأوصاف...
ولما كثرت الأوامر في هذه الآيات وكان لا يحمل على امتثالها إلا التقوى أكثر تعالى فيها من الأمر بها. قال الحرالي: لما تجره النفوس من مداخل نقص في النيات والأعمال والتنقلات من الأحكام إلى أبدالها فما انبنى على التقوى خلص ولو قصر...
ولما كان من الأوامر ما هو معقول المعنى ومنها ما هو تعبدي وكان عقل المعنى يساعد على النفس في الحمل على امتثال الأمر ناسب اقتران الأمر به بالترغيب كما قال: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} [البقرة: 196]
ولما كان امتثال ما ليس بمعقول المعنى من عند قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] شديداً على النفس مع جماحها عن جميع الأوامر ناسب اقترانه بالتهديد فكان ختامه بقوله: {واتقوا} أي فافعلوا جميع ذلك واحملوا أنفسكم على التحري فيه والوقوف عند حدوده ظاهراً وباطناً واتقوا {الله} أي اجعلوا بينكم وبين غضب هذا الملك الأعظم وقاية،
وأكد تعظيم المقام بالأمر بالعلم وتكرير الاسم الأعظم ولئلا يفهم الإضمار تقييد شديد عقابه بخشية مما مضى فقال: {واعلموا} تنبيهاً على أن الباعث على المخافة إنما هو العلم، {أن الله} أي الذي لا يداني عظمته شيء {شديد العقاب} وهو الإيلام الذي يتعقب به جرم سابق؛ هذا مع مناسبة هذا الختام لما بعده من النهي عن الرفث وما في حيزه، ومن تدبر الابتداء عرف الختم ومن تأمل الختم لاح له الابتداء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} إشارة إلى الثلاثة والسبعة مبين لجملة العدد الواجب كما بين تفصيله ومزيل لوهم من عساه يتوهم أن الواو العاطفة للسبعة للتخيير كما عليه بعض العرب في مثل: جالس الحسن وابن سيرين.
وروي أن بعض العرب كانوا يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة فالفذلكة تزيل وهم هؤلاء أيضا ولذلك أكدها بقوله كاملة. قال الأستاذ الإمام إن الله تعالى إذا أراد أن يقرر حكما وكان في التعبير المألوف عنه ما يوهم خلاف المقصود ولو لبعض المخاطبين يأتي بما يؤكد الحكم وينفي أدنى وهم يعرض فيه ولذلك وصف كتابه بالمبين وبالتبيان. وإذا كان هذا شأنه فيستحيل أن يطلق في مقام بيان الأحكام القول في نفي شيء بصيغة الإثبات كما قدر بعضهم النفي في قوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية} (البقرة: 184)...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يجيء الحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما. والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة وإنها مواقيت للناس والحج؛ والحديث عن القتال في الأشهر الحرم وعن المسجد الحرام؛ والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما في نهاية الدرس نفسه...
وأول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه. ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي..
ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله... {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}.. وهذه الأحكام ضمان القيام بها هو هذه التقوى، وهي مخافة الله، وخشية عقابه. والإحرام بصاحبه تحرج. فإذا أباح لهم الإحلال فترة أقام تقوى الله وخشيته في الضمير، تستجيش فيه هذا [الشعور]، وتقوم بالحراسة في انتباه
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمات من قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر...} (البقرة 177) فيها تنظيم للجماعة الفاضلة، ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لا فرق بين قوي ولا ضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة [و لكم في القصاص حياة...] (البقرة 179) وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها، بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة، وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوي الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي، والإصلاح النفسي، فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصد يقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء، بل في بعض كفاراته الصوم، وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع، فكان حقا أن يجئ الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح، لأنه يجمعها في أحكامه.
و لكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرا أو متعسرا، لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام، والمشعر الحرام، كان المشركون قد سيطروا عليه، والأصنام تحيط به من كل جانب، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة، فكان لابد من القتال للوصول إليه، وأداء تلك الشعيرة الإسلامية، لذلك جاء القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها...189} (البقرة) وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى: {و أتموا الحج والعمرة لله}.
ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام القتال وأحكام الحج، لأن القتال جهاد لحماية الدولة في الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل، بالجمع بين أقطارها، والتعارف العام بين شعوبها، ونشر المساواة العادلة بين آحادها، ولذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله...
و ما المراد بالمحل في الآية؟ أيراد به اسم زمان، أم يراد به اسم مكان؟ لاشك أن اللفظ يحتملهما، فيحتمل الزمان والمكان، وإن كان في المكان أظهر، وأقرب ورودا للخاطر، ولذلك كان لابد من السنة لمعرفة المراد يقينا، أو أن يستبين ذلك من آيات أخر، وقد قال الحنفية: إن المحل هو اسم مكان يراد به البيت الحرام، وقد تبين ذلك بالقرآن، فقد قال الله تعالى: [ثم محلها إلى البيت العتيق 33] (الحج)، والقرآن يفسر بعضه بعض، وعلى ذلك لا يصح للمحصر أن يحلق ويتحلل، حتى يصل الهدي الذي يرسله إلى البيت العتيق ويذبح، وقد تأيد ذلك بآية أخرى، وهي قوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة...95} (المائدة)، ففيها التصريح بأن الهدي في الكعبة. وقد قال الجهور إن محل الهدي للمحصر هو المكان الذي كان فيه الإحصار، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن المسور بن مخرمة يروي:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما منع من البيت الحرام في تلك السنة وعقد الصلح قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا". فهذا يدل على أن محل الهدي للمحصر هو حيث الإحصار، وأنه إذا كان ممنوعا فإن الهدي قد يمنع أيضا. وقد أجاب الحنفية عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحرم لا في الحل، فهو كان في محله، لأنه أحصر في طرف الحديبية القريب من مكة وهو من الحرم. و لاشك أن رأي جمهور الفقهاء مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لحالهم هو التيسير لا التصعيب. ولا شك أن ذبحهم في المكان الذي أحصروا فيه أشد كلفة، والصدقة لا يتعين مكانها في الضيق، ولكن النص الكريم {حتى يبلغ الهدي محله} لا ينطبق تمام الانطباق على رأي الجمهور، إذا فسرنا المحل بالمكان، لأن البلوغ يقتضي مسافة بين المكانين، ولا ينطبق ذلك على مكان الحصر، بل ينطبق على مكان يكون فيه بلوغ، وإذا فسرنا المحل بالزمان تأتى معنى البلوغ بأن ينتظر المحصر حتى يجئ وقت الهدي وهو يوم النحر، ويكون بالغا محله أي بالغا زمانه، وحينئذ لا يتقيد المحصر بالمكان، ولكن يتقيد في الذبح بالزمان، وإن زال الإحصار قبل زمانه، وأمكن الوصول إلى الحج في إبانه، فقد زال موجب الذبح، وتعين إتمام الحج.
و لقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} خطاب عام لكل المكلفين في هذه الشعيرة، لا فرق بين محصر وطليق، وذي عذر وغيره، فهو بيان لوقت التحلل من الإحرام بشكل عام، وبيان لمكان الذبح بشكل عام وهو الكعبة. وإن لذلك الكلام وجاهته واستقامته، وهو تخريج يعاضد رأي الجمهور، لأن الكلام يكون في مكان الذبح العام، لا في الإحصار، ومكان الذبح في الإحصار علم من السنة الصحيحة في الحديبية... وعبر سبحانه وتعالى بالفدية ولم يعبر بكفارة، لأنه لا ذنب ولا اعتداء، حتى يكون التكفير من الإثم...
و التمتع أصل معناه الانتفاع الممتد المستمر، مأخوذ من المتوع بمعنى الامتداد والارتفاع، والمراد هنا معنى إسلامي وهو الجمع بين العمرة والحج في عام واحد على أن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج، فمعنى قوله تعالى: [فمن تمتع بالعمرة إلى الحج] أي فمن أحرم بالعمرة منتفعا بعبادته ونسكه إلى أن أحرم بالحج، فلكي يتحلل في إبان التحلل يذبح هديا..إلخ. وسمي ذلك الجمع تمتعا، لأن المحرم يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد، فيحرم بالعمرة ويستمر فيها، وتلك متعة روحية، ويجوز أن يتحلل منها ثم يحرم بالحج، وتلك متعة جسدية، ثم هو يعتمر ويحج في سفر واحد، وتلك متعة مادية، من أجل ذلك سمي هذا تمتعا...
و لقد قال سبحانه وتعالى: [تلك عشرة كاملة] ليتقرر الحكم نصا، وليتبين أن الذي يحل محل النسك هو العشرة الكاملة لا بعضها، ولكي لا ينسى الناس صوم السبعة الأيام إذا عادوا إلى أهلهم حاسبين أن حجهم قد تم، بل عليهم أن يفهموا أن الحج لم يتم حتى يصوموا...
{و اتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي كانت فيها الإشارة إلى أعمال الحج ونسكه وشعائره بالأمر بتقواه للإشارة إلى أن الاعتبار في أعمال الحج لا يكون لما تعمله الجوارح، وما تقوم به من أفعال، إنما العبرة في ذلك إلى أثرها في القلوب، فإن أوجدت رحمة بالعباد، ورهبة من الخلاق، وتقوى من الله، فقد أديت على وجهها إذ خلصت النية، واستقامت الإرادة، وإن لم تؤد إلى تقوى الله والرحمة بعباده فقد خالطها رياء ولم تخلص النية، وحق العقاب، ولذا قال سبحانه [واعلموا أن الله شديد العقاب] ليلقي في نفوس الناس الرهبة من عقابه حال رجاء ثوابه، والناس يصلحون بالثواب والعقاب، حتى إذا علت المدارك وقويت الروح كان الثواب رضا الرحمان، ولذا قال سبحانه بعد ثواب المؤمنين: [و رضوان من الله... 15] (آل عمران)...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
يمكن القول: إن الآيات [189-203] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وإذا صح هذا – والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله – فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة. وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال. وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة [2]
ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاماً لمنع المشركين لهم. وهذا ما انطوى في جملة {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ...} المائدة: [2] الخ...
وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة {الْحَجَّ} المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر، وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة. الذي عرف يقيناً أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة. والراجح أن كلمة {يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ} في آية سورة التوبة الثالثة: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {3}} قد عنته.
وقد روى أصحاب السنن حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: « الحجّ يوم عرفة» وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة الله ورسوله إتمام ذلك بالحديث والله أعلم.
وليس من تعارض بين زيارة الكعبة في موسم الحج التي هي ركن من أركان الحج الإسلامي في موسم الحج وبين الزيارة التي تكون للكعبة في غير موسم الحج التي انطوى ذكرها في الآية [158] من سورة البقرة وشرحنا مداها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ الأمر بالتقوى، انطلاقاً من العلم بأنه شديد العقاب، أسلوب قرآني درج عليه القرآن في ما يريد اللّه أن يثيره أمام الإنسان من قضايا الحياة والتشريع، ليقف الإنسان فيه عند حدود اللّه من موقع النفس التقية التي تراقب اللّه وتخاف عقابه. أمّا مناسبة ذلك، هنا، فهو الحديث عن تفصيلات تشريع الحج والعمرة من إتمامهما، والحديث عن الحكم في حالة الإحصار وفي حالة الأمن، وعن الحكم في حج التمتع في حالة التمكن من الهدي والعجز عنه؛ فإنَّ ذلك كلّه مما يوحي بالحاجة إلى الانضباط والالتزام والتقوى في حدود هذه الأمور ومواردها الشرعية، ويكفي ذلك مناسبة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يُعتبر الحجّ من أهم العبادات التي شُرعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدّين واتّحاد المسلمين، والحجّ هو الشعيرة العباديّة التي ترعب الأعداء وتضخ في كلّ عام دماً جديداً في شرايين المسلمين...