قوله تعالى : { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات } قرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب : آيات وتصريف الرياح آيات بكسر التاء فيهما رداً على قوله : لآيات وهو في موضع النصب ، وقرأ الآخرون برفعهما على الاستئناف ، على أن العرب تقول : إن عليك مالاً وعلى أخيك مال ، ينصبون الثاني ويرفعونه ، { لقوم يوقنون } أنه لا إله غيره .
والدليل الثاني والثالث قوله - تعالى - : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
قوله : { وَفِي خَلْقِكُمْ } جار ومجرور خبر مقدم ، وقوله : { آيَاتٌ } مبتدأ مؤخر .
أى : وفي خلقكم - أيها الناس - من نطفة ، فعلقة ، فمضغة . . إلى أن نخرجكم من بطون أمهاتكم . . وفيما نبثه وننشره ونوجده من دواب لا تعد ولا تحصى على ظهر الأرض .
في كل ذلك { آيَاتٌ } بينات ، وعلامات واضحات ، على كمال قدرتنا ، لقوم يوقنون بأن القادر على هذا الخلق ، إنما هو الله - تعالى - وحده .
يُرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه ، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات الأرض ، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس ، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات ، وما في البحر من الأصناف المتنوعة ، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقًا ؛ لأن به يحصل الرزق ، { فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء .
وقوله : { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } أي : جنوبا وشآما{[26302]} ، ودبورًا وصبًا ، بحرية وبرية ، ليلية ونهارية . ومنها ما هو للمطر ، ومنها ما هو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ، ومنها ما هو عقيم [ لا ينتج ] {[26303]} .
وقال أولا { لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } {[26304]} ، ثم { يوقنون } ثم { يعقلون } وهو تَرَقٍّ من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى . وهذه الآيات شبيهة بآية " البقرة " وهي قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] . وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن مُنَبِّه أثرا طويلا غريبًا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ مِن دَابّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وفي خلق الله إياكم أيها الناس ، وخلقه ما تفرّق في الأرض من دابة تدبّ عليها من غير جنسكم آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني : حججا وأدلة لقوم يوقنون بحقائق الأشياء ، فيقرّون بها ، ويعلمون صحتها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وفي التي بعد ذلك فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة آياتٌ رفعا على الابتداء ، وترك ردّها على قوله : لآياتٍ للْمُؤْمِنِينَ ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة «آياتٍ » خفضا بتأويل النصب ردّا على قوله : لآياتٍ للْمُؤْمِنِينَ . وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخرين أنهم اختاروا قراءته كذلك ، لأنه في قراءة أُبيّ في الايات الثلاثة «لاياتٍ » باللام فجعلوا دخول اللام في ذلك في قراءته دليلاً لهم على صحة قراءة جميعه بالخفض ، وليس الذي اعتمدوا عليه من الحجة في ذلك بحجة ، لأن لا رواية بذلك عن أُبي صحيحة ، وأبيّ لو صحّت به عنه رواية ، ثم لم يُعلم كيف كانت قراءته بالخفض أو بالرفع لم يكن الحكم عليه بأنه كان يقرأه خفضا ، بأولى من الحكم عليه بأنه كان يقرأه رفعا ، إذ كانت العرب قد تدخل اللام في خبر المعطوف على جملة كلام تامّ قد عملت في ابتدائها «إن » ، مع ابتدائهم إياه ، كما قال حُمَيد بن ثَور الهِلاليّ :
إنّ الخِلافَةَ بَعْدَهُمْ لَذَميمَةٌ *** وَخَلائِفٌ طُرُفٌ لَمَمّا أحْقُرُ
فأدخل اللام في خبر مبتدأ بعد جملة خبر قد عملت فيه «إن » إذ كان الكلام ، وإن ابتدىء منويا فيه إن .
والصواب من القول في ذلك إن كان الأمر على ما وصفنا أن يقال : إن الخفض في هذه الأحرف والرفع قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار قد قرأ بهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وعطف جملة { وفي خلقكم } الخ على جملة { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه .
والبث : التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة . وتقدم البث في قوله تعالى : { وبث فيها من كل دابّة } في سورة البقرة ( 164 ) .
وعبر بالمضارع في { يبث } ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها . والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] .
والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات . والرزق : القوت . وقد ذكر في آية سورة البقرة ( 164 ) { وما أنزل الله من السماء من ماء } وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة .
والمراد ب ( المؤمنين ) ، وب ( قوم يوقنون ) ، وب ( قوم يعقلون ) واحد ، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون ، أي يعلمون دلالة الآيات .
والمعنى : أن المؤمنين والذين يُوقنون ، أي يعلمون ولا يكابرون ، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً ، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً . فالمعنى : أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون ، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض .
وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب ، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوزام مترتبة بإدراك العقل . وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله : { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } [ الجاثية : 6 ] استفهاماً إنكارياً بمعنى النفي .
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجهاً إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء ، وكان مقصوداً منه ابتداء إثباتٌ الوحدانية ، فهو أيضاً صالح لإقامة الحجة على المعَطِّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم . فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها ، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يُعدمها .
وقرأ الجمهور قوله : { آيات لقوم يوقنون } وقوله : { آياتٌ لقوم يعقلون } برفع { آيات } فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران . وتقدّر ( في ) محذوفة في قوله { واختلاف الليل والنهار } لدلالة أختها عليها التي في قوله : { وفي خلقكم } . والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد .
وقرأها حمزة والكسائي وخلف { لآيات } في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف { آياتٍ } الأول عطف على اسم { إنَّ } و { في خلقكم } عطف على خبر { إنّ } فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما { آيات لقوم يعقلون } فكذلك ، إلا أنه عطف على معمولي عَامِلَيْن مختلفين ، أي ليسا مترادفين هما ( إنّ ) و ( في ) على اعتبار أن الواو عاطفة { آيَات } وليست عاطفة جملة { في خلقكم } الآية ، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة ، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير ( في ) عند قوله : { واختلاف الليل والنهار } لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة { آياتٍ } على اسم ( إنّ ) فلا يكون من العطف على معمولي عاملين .
والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل . وجعل ابن الحاجب في « أماليه » قراءة الجمهور برفع { آياتٌ } في الموضعين أيضاً من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عَاملٍ كما أن النصب يحتاج إلى عَاملٍ قال : وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيًّا وهما سواء . وقرأ يعقوب { آياتٍ } الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح ، والسحاب .