قوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } ، اختلفوا في سبب نزول هذه الآية . قال قوم : سبب نزولها : ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه . قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال : أي عم قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله . فقال أبو جهل ، وعبد الله بن أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله . فقال أبو جهل ، وعبد الله بن أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " ، فأنزل الله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } ، وأنزل في أبي طالب : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون ، ثنا يحيى بن سعيد ، ثنا يزيد بن كيسان ، حدثني أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله لعمه : " قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال : لولا أن تعيرني قريش ، فيقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك . فأنزل الله عز وجل : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد الله بن يوسف حدثني الليث حدثني يزيد بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر عنده عمه فقال : " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه " .
وقال أبو هريرة وبريدة : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الآية .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، ثنا عبد الغافر بن محمد ، ثنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنبأنا محمد بن عبيد ، عن يزيد كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : " زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي عز وجل في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور ، فإنها تذكر الموت " .
قال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لأبي . كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله تعالى هذه الآية : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لما أنزل الله عز وجل خبرا عن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه : سلام عليك سأستغفر لك ربي سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان ، فقلت له : تستغفر لهما وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ ! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } ، إلى قوله : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } [ الممتحنة -4 ] .
ثم بين - سبحانه - أنه لا يصح للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولا للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، لأن رابطة العقيدة هي الوشيجة الأساسية فيما بينهم فقال - تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ . . . . مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضوع وجوب إظهر البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه ، بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإِنسان ، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم ، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات ، والمنع من مواصلتهم بسبب الأسباب .
والمعنى : ما كان من شأن النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا من شأن أصحابه المؤمنين ، أن يدعوا الله - تعالى - بأن يغفر للمشركين في حال من الأحوال ، ولو كان هؤلاء المشركون من أقرب أقربائهم { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ } أى : للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، أن هؤلاء المشركين من أصحاب الجحيم ، بسبب موتهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، وعدم اعترافهم بدين الإِسلام .
قال الآلوسى ما ملخصه : والآية على الصحيح " نزلت في أبى طالب ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن المسيب بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - أى عم ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله . فقال أبو جهل يا أبا طالب أترغب من ملة عبد المطلب ؟ فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه . وأبو جهل وعبد الله بن أمية يعاودانه بتلك المقالة . فقال ابو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأستغفرون لك ما لم أنْهَ عن ذلك فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } الآية " .
ثم قال . واستبعد بعضهم ذلك ، لأن موت أبى طالب كان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة .
وهذا الاستبعاد مستبعد ، لأنه لا بأس من أن يقال : كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأبى طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية وعليه فلا يراد من قوله " فنزلت " في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول فحسب . فتكون الفاء للسببية لا للتعقيب .
وقال القرطبى : هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم ، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين . فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز ، وقال كثير من العلماء . بأنه لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ما داما حيين ، فأما من مات على الكفر فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعى له .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبيه قال : لما حَضَرت أبا طالب الوفاة{[13898]} دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : " أيْ عَمّ ، قل : لا إله إلا الله . كلمة أحاجّ لك بها عند الله ، عز وجل " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملَّة عبد المطلب ؟ [ قال : فلم يزالا يكلمانه ، حتى قال آخر شيء كلمهم به : على{[13899]} ملة عبد المطلب ] . {[13900]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك " . فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } قال : ونزلت فيه : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] أخرجاه . {[13901]} وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } قال : " لما مات " ، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل ، أو هو{[13902]} في الحديث " لما مات " . {[13903]} قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال : لما مات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي{[13904]} عن محارب بن دثار ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تَذْرِفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم ، وقال : يا رسول الله ، ما لك ؟ قال : " إني سألت ربي ، عز وجل ، في الاستغفار لأمي ، فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور
فزوروها ، لتذكركم زيارتُها خيرًا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية ، فاشربوا في أي وعاء{[13905]} ولا تشربوا مسكرا " . {[13906]} وروى ابن جرير ، من حديث علقمة بن مَرْثد ، عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر ، فجلس إليه ، فجعل يخاطب ، ثم قام مستعبرًا . فقلنا : يا رسول الله ، إنا رابنا ما صنعت . قال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي " . فما رئي باكيا أكثر من يومئذ . {[13907]} وقال ابن أبي حاتم ، في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خِداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جرَيج عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر ، فاتبعناه ، فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب ، فدعاه ثم دعانا ، فقال : " ما أبكاكم ؟ " فقلنا : بكينا لبكائك . قال : " إن القبر الذي جلستُ عنده قبر آمنة ، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها فأذن لي " {[13908]} ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه : " وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة " . {[13909]} حديث آخر في معناه : قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز{[13910]} بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كَيْسَان ، عن أبيه ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عُسْفان أمر أصحابه : أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمّه ، فناجى ربَّه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه ، وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا : ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أُحدثَ في أمته شيء لا تُطيقه . فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم ، فقال : " ما يبكيكم ؟ " . قالوا : يا نبي الله ، بكينا لبكائك ، فقلنا : لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال : " لا وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى الله أن يأذن لي ، فرحمتها وهي أمّي ، فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } فتبرّأ أنت من أمك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمْتُها وهي أمي ، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوتُ ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغَرَق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج " . وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كَداء{[13911]} وكانت عُسْفان لهم . {[13912]} وهذا حديث غريب وسياق عجيب ، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب " السابق واللاحق " بسند مجهول ، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمَّه فآمنت ثم عادت . {[13913]} وكذلك ما رواه السهيلي في " الروض " بسند فيه جَمَاعة مجهولون : أن الله أحيا له أباه وأمه{[13914]} فآمنا به . {[13915]} وقد قال الحافظ ابن دِحْيَةَ : [ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع ، قال الله تعالى : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء : 18 ] . وقال أبو عبد الله القرطبي : إن مقتضى هذا الحديث . . . وردَّ عَلَى ابن دِحية ]{[13916]} في هذا الاستدلال بما حاصله : أن هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عَلِيٌّ العصر ، قال الطحاوي : وهو [ حديث ]{[13917]} ثابت ، يعني : حديث الشمس .
قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال : وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب ، فآمن به . {[13918]}
قلت : وهذا كله متوقف على صحة الحديث ، فإذا صح فلا مانع منه{[13919]} والله أعلم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه الله عن ذلك{[13920]} فقال : " فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه " ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ }{[13921]} الآية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : كانوا يستغفرُون لهم ، حتى نزلت هذه الآية ، فلما [ نزلت{[13922]} أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ]{[13923]} ثم أنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ } الآية .
وقال قتادة في هذه الآية : ذُكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفُكّ العاني ، ويوفي بالذمم ؛ أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه " . فأنزل الله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } حتى بلغ : { الْجَحِيمِ } ثم عذر الله تعالى إبراهيم ، فقال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } قال : وذُكر لنا أن نبي الله قال : " أوحى إليّ كلمات ، فدخلن في أذني ووقَرْن في قلبي : أمِرْتُ ألا أستغفرَ لمن مات مشركا ، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له ، ومن أمسك فهو شرٌ له ، ولا يلوم الله على كَفاف " .
وقال الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جُبير قال : مات رجل يهودي وله ابن{[13924]} مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكَّله إلى شأنه ثم قال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } لم يَدْعُ .
[ قلت ]{[13925]} وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره ، عن علي بن أبي طالب قال : لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله ، إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : " اذهب فَوَاره ولا تُحْدثَنَّ شيئا حتى تأتيني " . وذكر تمام الحديث . {[13926]} ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مَرّت به جنازة عمه أبي طالب قال : " وَصَلتكَ رَحِمٌ يا عم " . {[13927]}
وقال عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين ، يقول الله ، عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } .
وروى ابنُ جَرير ، عن ابن وَكِيع ، عن أبيه ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه . قلت : ولأبيه ؟ قال : لا . قال : إن أبي مات مشركا{[13928]} . وقوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وفي رواية : لما مات تبين له أنه عدو لله .
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، رحمهم الله .
وقال عُبَيْد بن عمير ، وسعيد بن جُبَيْر : إنه يتبرأ منه [ في ]{[13929]} يوم القيامة حين يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه الغُبرة والقُتْرة فيقول : يا إبراهيم ، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك . فيقول : أيْ رَبي ، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون ؟ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقال : انظر إلى ما وراءك ، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ ، أي : قد مسخ ضِبْعانًا ، ثم يسحب بقوائمه ، ويلقى في النار .
وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } قال سفيان الثوري وغير واحد ، عن عاصم بن بَهْدَلة ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الأواه : الدَّعَّاء . وكذا روي من غير وجه ، عن ابن مسعود .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى : حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام ، حدثنا شَهْر بن حَوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل : يا رسول الله ، ما الأوّاه ؟ قال : " المتضرع " ، قال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } {[13930]} ورواه{[13931]} ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، به ، قال : المتضرع : الدَّعَّاء .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين عن أبي العُبَيْديْن أنه سأل ابن مسعود عن الأواه ، فقال : هو الرحيم .
وبه قال مجاهد ، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل ، والحسن البصري ، وقتادة : أنه الرحيم ، أي : بعباد الله .
وقال ابن المبارك ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : الأوَّاه : الموقن بلسان الحبشة{[13932]} . وكذا قال العوفي ، عن ابن عباس : أنه الموقن . وكذا قال مجاهد ، والضحاك . وقال علي بن أبي طلحة ، ومجاهد ، عن ابن عباس : الأواه : المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه : المؤمن التواب . وقال العوفي عنه : هو المؤمن بلسان الحبشة . وكذا قال ابن جُرَيْج : هو المؤمن بلسان الحبشة .
وقال أحمد : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له " ذو البِجادين " : " إنه أواه " ، وذلك أنه رجل{[13933]} كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء .
ورواه ابن جرير . {[13934]} وقال سعيد بن جبير ، والشعبي : الأواه : المسبّح . وقال ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبَير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه . وقال شُفَى بن مانع ، عن أيوب : الأواه : الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها .
وعن مجاهد : الأواه : الحفيظ الوجل ، يذنب الذنب سرا ، ثم يتوب منه سرا .
ذكر ذلك كلَّه ابن أبي حاتم ، رحمه الله .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق : أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبّح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنه أواه " . {[13935]} وقال أيضا حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا المِنْهَال بن خليفة ، عن حَجّاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا ، فقال : " رحمك الله إن كنتَ لأواها " ! يعني : تَلاءً للقرآن{[13936]} وقال شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال : سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا ، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : " أوّه أوّه " ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أواه . قال : فخرجت ذات ليلة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .
هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه{[13937]} . وروي عن كعب الأحبار أنه قال :{[13938]} { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : كان إذا ذكر النار قال : " أوّه من النار " .
وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : فقيه .
قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير : وأولى الأقوال قول من قال : إنَّه الدعَّاء ، وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه{[13939]} في قوله : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [ مريم : 46 ، 47 ] ، فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } {[13940]}
{ مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاّ عَن مّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ما كان ينبغي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين إمنوا به أن يستغفروا ، يقول : أن يدعوا بالمغفرة للمشركين ، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم أولي قربى ، ذوي قرابة لهم . مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ يقول : من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان تبين لهم أنهم من أهل النار لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك ، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله .
فإن قالوا : فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك ، فلم يكن استغفار إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه فَلمّا تَبَيّنَ لَهُ وعلم أنه لله عدوّ خلاه وتركه وترك الاستغفار له ، وآثر الله وأمره عليه ، فتبرأ منه حين تبين له أمره .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه ، فقال بعضهم : نزلت في شأن أبي طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته ، فنهاه الله عن ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : «يا عَمّ قُلْ لا إلَهِ إلاّ اللّهُ كَلِمَةً أُحاجّ لَكَ بِها عِنْدَ اللّهِ » فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ » فنزلت ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ ، ونزلت : إنّكَ لا تَهْدي مَنْ أحْبَبْتَ .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عَمّ قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللّهِ » قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَاللّهِ لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ ما لَمْ أُنْهِ عَنْكَ » فأنْزَلَ اللّهُ : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ . . . الآية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ قال : يقول المؤمنون ألا نستغفر لاَبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرا ، فأنزل الله : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ . . . الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عمرو بن دينار : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اسْتَغْفَرَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ ، فَلا أزَالُ أسْتَغْفِرُ لأبي طالِبٍ حتى يَنْهانِي عَنْهُ رَبّي » فقال أصحابه : لنستغفرن لاَبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه فأنزل الله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ . . . إلى قوله : تَبَرّأَ مِنْهُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : لما حضر أبا طالب الوفاة أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيّ عَمّ إنّكَ أعْظَمُ النّاسِ عَليّ حَقّا وأحْسَنُهُمْ عِنْدِي يَدا ، ولأَنْتَ أعْظَمُ عَليّ حَقّا مِنْ وَالِدِي ، فَقُلْ كَلِمَةً تَجِيبُ لي بها الشّفاعَةُ يَوْمَ القِيامَةِ ، قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ » ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور .
وقال آخرون : بل نزلت في سبب أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها فمنع من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل ، عن عطية قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس ، رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها ، حتى نزلت : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولي قُرْبَى . . . إلى قوله : تَبَرّأَ مِنْهُ .
قال : ثناأبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رسما قال : وأكثر ظني أنه قال قبرا فجلس إليه ، فجعل يخاطب ، ثم قام مستعبرا ، فقلت : يا رسول الله ، إنا رأينا ما صنعت قال : «إنّي اسْتَأْذَنْتُ ربّي فِي زِيارَةِ قَبْرِ أُمّي فَأَذِنَ لي ، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الاسْتِغْفارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لي » فما رُؤي باكيا أكثر من يومئذ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا . . . إلى : أنهُمْ أصْحَابُ الجَحِيمِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه عن ذلك ، فقال : «وإنّ إبْرَاهِيمُ خَلِيلَ اللّهِ قَدِ اسْتَغْفَرَ لأَبِيهِ » فأنزل الله : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ . . . إلى : لأَوّاهٌ حَلِيمٌ .
وقال آخرون : بل نزلت من أجل أن قوما من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين ، فنهوا عن ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ . . . الآية ، فكانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية ، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا . ثم أنزل الله : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ . . . الآية ، ذكر لنا أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا نبيّ الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفكّ العاني ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بَلى وَاللّهِ لأسْتَغْفِرنّ كمَا اسْتَغْفَرَ إبْراهِيمُ لأبِيهِ » قال : فأنزل الله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ . . . حتى بلغ : الجَحِيمِ ثم عذر الله إبراهيم فقال : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ للّهِ تَبَرّأ مِنْهُ . قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله قال : «أُوحي إليّ كَلِمَاتٍ ، فَدَخَلْنَ في أُذُني وَوَقَرْنَ في قَلْبي ، أُمِرْتُ أنْ لا أسْتَغْفِرَ لمن مَاتَ مُشْرِكا ، ومَنْ أَعْطَى فَضْلُ ماله فهو خَيّرٌ له ، ومن أمْسَكَ فهو شَرّ له ، ولا يَلُومُ الله على كَفَافٍ » .
واختلف أهل العربية في معنى قوله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : ما كان لهم الاستغفار ، وكذلك معنى قوله : وَمَا كان لِنَفْس أن تُوءْمِن وما كان لنفس الإيمان إلاّ بإذْنِ اللّهِ . وقال بعض نحويي الكوفة : معناه : ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم . قال : وكذلك إذا جاءت «أن » مع «كان » ، فكلها بتأويل «ينبغي » ما كان لنبيّ أنْ يَغُلّ ما كان ينبغي له ليس هذا من أخلاقه ، قال : فلذلك إذا دخلت «أن » تدل على الاستقبال ، لأن «ينبغي » تطلب الاستقبال .
وأما قوله : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه ، فقال بعضهم : أنزل من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين ظَنّا منهم أن إبراهيم خليل الرحمن ، قد فعل ذلك حين أنزل الله قوله خبرا عن إبراهيم ، قال : سَلامٌ عَلَيْكَ سأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي أنه كان بي حَفِيّا وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره ، وسنذكره عمن لم نذكره .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن عليّ قال : سمعت رجلاً يستغفر لوالديه وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فأنزل الله : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ . . . إلى تَبَرّأَ مِنْهُ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن عليّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لأبويه وهما مشركان ، حتى نزلت : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلى قوله : تَبَرّأَ مِنْهُ .
وقيل : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ ، ومعناه : إلا من بعد موعدة ، كما يقال : ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا ، بمعنى : من بعد ذلك السبب أو من أجله ، فكذلك قوله : إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ : من أجل موعدة وبعدها .
وقد تأول قوم قول الله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى . . . الآية ، أن النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم ، لقوله : مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ وقالوا : ذلك لا يتبينه أحد إلا بأن يموت على كفره ، وأما هو حيّ فلا سبيل إلى علم ذلك ، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سليمان بن عمر الرقي ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جبير قال : مات رجل يهودي وله ابن مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس ، فقال : كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حيّا ، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرأَ مِنْهُ لم يدع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا فضيل ، عن ضرار بن مرّة ، عن سعيد بن جبير ، قال : مات رجل نصراني ، فوكله ابنه إلى أهل دينه ، فأتيت ابن عباس ، فذكرت ذلك له فقال : ما كان عليه لو مشى معه وأجَنّه واستغفر له ثم تلا : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ . . . الآية .
وتأوّل آخرون الاستغفار في هذا الموضع بمعنى الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني إسحاق ، قال : حدثنا كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، قال : حدثنا حبيب بن أبي مرزوق ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ، لأني لم أسمع الله يحجب الصلاة إلا عن المشركين ، يقول الله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ .
وتأوّله آخرون بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عصمة بن راشد ، عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه قلت : ولأبيه ؟ قال : لا إن أبي مات وهو مشرك .
قال أبو جعفر : وقد دللنا على أن معنى الاستغفار : مسألة العبد ربه غفر الذنوب وإذ كان ذلك كذلك ، وكانت مسألة العبد ربه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة ، لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدا ، لأن الله عمّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك بعدما تبين له أنه من أصحاب الجحيم ، ولم يخصص من ذلك حالاً أباح فيها الاستغفار له .
وأما قوله : مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ فإن معناه : ما قد بينت من أنه من بعد ما يعلمون بموته كافرا أنه من أهل النار . وقيل : أصْحَابُ الجَحِيمِ لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها ، كما يقال لسكان الدار : هؤلاء أصحاب هذه الدار ، بمعنى سكانها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ( ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ أنّهُمْ أصحابُ الجَحِيمِ قال : تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين مات أن التوبة قد انقطعت عنه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : تبين له حين مات ، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه ، يعني في قوله : مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَاب الجَحِيمِ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعتُ أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ . . . الآية ، يقول : إذا ماتوا مشركين ، يقول الله : وَمَنْ يُشْرِكُ باللّهِ فَقَدْ حَرّمَ الله عَلَيْهِ الجَنّةَ . . . الآية .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَلَمّا تَبَيّنَ لَه أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال بعضم : معناه : فلما تبين له بموته مشركا بالله تبرأ منه وترك الاستغفار له . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات لم يستغفر له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَه أنّهُ عَدُوّ لله تَبَرّأ مِنْهُ يعني استغفر له ما كان حيّا ، فلما مات أمسك عن الاستغفار له .
حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة ، قالا : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله : فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لله تَبَرأَ مِنْهُ قال : لما مات .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ قال : موته وهو كافر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا البراء بن عتبة ، عن أبيه ، عن الحكم : فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال : حين مات ولم يؤمن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عمرو بن دينار : فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ : موته وهو كافر .
قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال : لما مات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ لما مات على شركه تبرأ منه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأبِيهِ كانَ إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيّا فلما مات على شركه تبرأ منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال : موته وهو كافر .
حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله فلم يستغفر له .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو إسرائيل ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ قال : فلما مات .
وقال آخرون : معناه تبين له في الاَخرة وذلك أن أباه يتعلق به إذا أراد أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه ، حتى إذا كان يجاوزه حانت من إبراهيم التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة قرد أو ضبع ، فخَلّى عنه وتبرأ منه حينئذ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، قال : حدثنا عبد الله بن سليمان ، قال : سمعت سعيد ابن جبير يقول : إن إبراهيم يقول يوم القيامة : ربّ والدي ربّ والدي فإذا كان الثالثة أخذ بيده ، فيلتفت إليه وهو ضبعان فيتبرأ منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبيدة بن عمير ، قال : إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد يسمعكم الداعي وينفذكم البصر ، قال : فتزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا وقع لركبتيه ترعد فرائصه . قال : فحسبته يقول : نفسي نفسي قال : ويضرب الصراط على جسر جهنم كحدّ السيف ، وحضر من له وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السعدان . قال : فيمضون كالبرق وكالريح وكالطير ، وكأجاويد الركاب ، وكأجاويد الرجال ، والملائكة يقولون : ربّ سلّم سلّم فناج سالم ، ومخدوش ناج ، ومكدوس في النار . يقول إبراهيم لأبيه : إني آمرك في الدنيا فتعصيني ولست تاركك اليوم ، فخذ بحقويّ فيأخذ بضبعيه ، فيمسخ ضبعا ، فإذا رآه قد مسخ تبرأ منه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول الله ، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدو تبرأ منه ، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوّ وهو به مشرك ، وهو حال موته على شركه .
{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } روي : أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة : " قل كلمة أحتاج لك بها عند الله " فأبى فقال عليه الصلاة والسلام : " لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه " فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين " . { ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } بأن ماتوا على الكفر ، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقيض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه الكفار فقال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } .
وقوله تعالى { ما كان للنبي } الآية ، يقتضي التأنيب ومنع الاستغفار للمشركين مع اليأس عن إيمانهم إما بموافاتهم على الكفر وموتهم ، ومنه قول عمر بن الخطاب في العاصي بن وائل لا جزاه الله خيراً ، وإما بنص من الله تعالى على أحد كأبي لهب وغيره فيمتنع الاستغفار له وهو حي ، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية فقال الجمهور ومداره على ابن المسيب وعمرة بن دينار ، نزلت في شأن أبي طالب ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه حين احتضر ووعظه وقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى ، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أمية ، فقالا له : يا أبا طالب أترغب عن ملك عبد المطلب ، فقال أبو طالب : يا محمد والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ومات على ذلك ، إذ لم يسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله للعباس ، فنزلت :
{ إنك لا تهدي من أحببت }{[5934]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لأبي طالب{[5935]} ، وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك دخلوا في التأنيب والنهي .
والآية على هذا ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر وقال فضيل بن عطية وغيره : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه فوقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار لها ، فلم يؤذن له فأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها ، ومنع أن يستغفر لها ، فما رئي باكياً أكثر من يومئذ ، ونزلت الآية في ذلك{[5936]} وقالت فرقة : إنما نزلت بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين : والله لأزيدن على السبعين{[5937]} ، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : إنما نزلت بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه فنزلت الآية في ذلك{[5938]} ، وعلى كل حال ففي ورود النهي عن الاستغفار للمشركين موضع اعتراض بقصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه ، فنزل رفع ذلك الاعتراض في الآية التي بعدها ، وقوله { من بعد ما تبين } يريد من بعد الموت على الكفر فحينئذ تبين أنهم أصحاب الجحيم أي سكانها وعمرتها ، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنه رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قيل له ولأبيه قال : لا ، إن أبي مات كافراً ، وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار ها هنا يراد به الصلاة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به "أن يستغفروا"، يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم "أولي قربى": ذوي قرابة لهم. "مِن بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ "يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان تبين لهم أنهم من أهل النار لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله.
فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك، فلم يكن استغفار إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه "فَلمّا تَبَيّنَ لَهُ" وعلم أنه لله عدوّ خلاه وتركه وترك الاستغفار له، وآثر الله وأمره عليه، فتبرأ منه حين تبين له أمره.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه؛
فقال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله عن ذلك... عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عَمّ قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللّهِ» قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَاللّهِ لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ ما لَمْ أُنْهِ عَنْكَ» فأنْزَلَ اللّهُ: "ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ" وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله: "إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ..."...
عن مجاهد: "ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ" قال: يقول المؤمنون ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرا، فأنزل الله: "وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ"...
وقال آخرون: بل نزلت في سبب أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها فمُنِع من ذلك...
ثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رسما قال: وأكثر ظني أنه قال قبرا فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلت: يا رسول الله، إنا رأينا ما صنعت قال: «إنّي اسْتَأْذَنْتُ ربّي فِي زِيارَةِ قَبْرِ أُمّي فَأَذِنَ لي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الاسْتِغْفارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لي» فما رُؤي باكيا أكثر من يومئذ...
وقال آخرون: بل نزلت من أجل أن قوما من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين، فنهوا عن ذلك...
واختلف أهل العربية في معنى قوله: "ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ"؛ فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار، وكذلك معنى قوله: "وَمَا كان لِنَفْس أن تُؤمِن": وما كان لنفس الإيمان "إلاّ بإذْنِ اللّهِ". وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت «أن» مع «كان»، فكلها بتأويل ينبغي، "ما كان لنبيّ أنْ يَغُلّ": ما كان ينبغي له: ليس هذا من أخلاقه، قال: فلذلك إذا دخلت «أن» تدل على الاستقبال، لأن «ينبغي» تطلب الاستقبال.
وأما قوله: "وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ" فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه؛
فقال بعضهم: أنزل من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين ظَنّا منهم أن إبراهيم خليل الرحمن، قد فعل ذلك حين أنزل الله قوله خبرا عن إبراهيم، قال: "سَلامٌ عَلَيْكَ سأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي أنه كان بي حَفِيّا"...
وقيل: "وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ"، ومعناه: إلا من بعد موعدة، كما يقال: ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا، بمعنى: من بعد ذلك السبب أو من أجله، فكذلك قوله: "إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ": من أجل موعدة وبعدها.
وقد تأول قوم قول الله: "ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى"، أن النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم، لقوله: "مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ" وقالوا: ذلك لا يتبينه أحد إلا بأن يموت على كفره، وأما وهو حيّ فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم...
وتأوّل آخرون الاستغفار في هذا الموضع بمعنى الصلاة...
وتأوّله آخرون بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء...
وقد دللنا على أن معنى الاستغفار: مسألة العبد ربه غفر الذنوب، وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألة العبد ربه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة، لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدا، لأن الله عمّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك بعدما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص من ذلك حالاً أباح فيها الاستغفار له.
وأما قوله: "مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ" فإن معناه: ما قد بينت من أنه من بعد ما يعلمون بموته كافرا أنه من أهل النار. وقيل: "أصْحَابُ الجَحِيمِ" لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها، كما يقال لسكان الدار: هؤلاء أصحاب هذه الدار، بمعنى سكانها...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فَلَمّا تَبَيّنَ لَه أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ" قال بعضم: معناه: فلما تبين له بموته مشركا بالله تبرأ منه وترك الاستغفار له... وقال آخرون: معناه تبين له في الآخرة... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول الله، وهو خبره عن إبراهيم، أنه لما تبين له أن أباه لله عدو تبرأ منه، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوّ وهو به مشرك، وهو حال موته على شركه.
"إنّ إبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ": اختلف أهل التأويل في «الأوّاه»؛
وقال آخرون: هي كلمة بالحبشية معناها: المؤمن...
وقال آخرون: هو المسبّح الكثير الذكر لله...
وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن...
وقال آخرون: هو المتضرّع الخاشع...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب... أنه الدّعّاء.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله ذكر ذلك ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه، فقال: "وَما كانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدْوّ للّهِ تَبَرأَ مِنْهُ" وترك الدعاء والاستغفار له، ثم قال: إن إبراهيم لدّعاء لربه شاكٍ له حليم عمن سبه وناله بالمكروه، وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له، ودعاء الله له بالمغفرة عند وعيد أبيه إياه، وتهدده له بالشتم بعد ما ردّ عليه نصيحته في الله، وقوله: "أرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمّنَكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّا" فقال له صلوات الله عليه: "سَلامٌ عَلَيْكَ سأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبي إنّهُ كانَ بِي حَفِيّا وأعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وأدْعُو رَبّي عَسَى أنْ لا أكُونَ بِدُعاءِ رَبّي شَقِيّا" فوفى لأبيه بالاستغفار له حتى تبين له أنه عدوّ لله، فوصفه الله بأنه دَعَّاء لربه حليم عمن سفه عليه، وأصله من التأوّه وهو: التضرّع والمسألة بالحزن والإشفاق، كما روى عبد الله بن شدّاد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما روى عقبة بن عامر الخبر الذي:
حدثنيه يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: ثني الحرث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: إنه أوّاه وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء ويرفع صوته.
ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: لم تتأوّه؟...
ولأن معنى ذلك: توجع وتحزن وتضرّع، اختلف أهل التأويل فيه الاختلاف الذي ذكرت، فقال ما قال: معناه الرحمة، إن ذلك كان من إبراهيم على وجه الرقة على أبيه والرحمة له ولغيره من الناس.
وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه وحسن معرفته بعظمة الله وتواضعه له.
وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل الله الذي أنزل عليه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر ربه.
وكلّ ذلك عائد إلى ما قلت، وتقارب معنى بعض ذلك من بعض لأن الحزين المتضرّع إلى ربه الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربه ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وجه المفسرون إليها تأويل قول الله: "إنّ إبْرَاهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أصلُ الدين التَبَرِّي من الأعداء، والتولِّي للأولياء، والوليُّ لا قريبَ له ولا حميم، ولا نسيبَ له ولا صَديق؛ إنْ وَالَى فبأمر، وإنْ عادى فَلِزَجْر...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى {ما كان للنبي...}، يقتضي التأنيب ومنع الاستغفار للمشركين مع اليأس عن إيمانهم إما بموافاتهم على الكفر وموتهم، ومنه قول عمر بن الخطاب في العاصي بن وائل: لا جزاه الله خيراً، وإما بنص من الله تعالى على أحد كأبي لهب وغيره، فيمتنع الاستغفار له وهو حي...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
الْأُولَى: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: يَا عَمِّ؛ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك. فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا...} وَنَزَلَتْ: {إنَّك لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت}.
الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عمرو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: {اسْتَغْفَرَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ لِعَمِّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا...} إلَى: {تَبَرَّأَ مِنْهُ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ من طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَدَّرَ أَلَّا تَكُونَ؛ وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَسُؤَالِ مَا قَدَّرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ هُنَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ (قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حِينَ كَسَرُوا ربَاعِيَّتَهُ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). فَسَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ.
قُلْنَا: عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَجَاءَ النَّهْيُ بَعْدَهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُؤَالًا فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عِنْدَهُمْ، لَا لِسُؤَالِ إسْقَاطِ حُقُوقِ اللَّهِ، وَلِلْمَرْءِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، مَرْجُوٌّ إيمَانُهُمْ، يُمْكِنُ تَأَلُّفُهُمْ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ، وَتَرْغِيبُهُمْ فِي الدِّينِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ. فَأَمَّا مَنْ مَاتَ فَقَدْ انْقَطَعَ مِنْهُ الرَّجَاءُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ فِي الدُّنْيَا بِرَفْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ حَتَّى إلَى الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}:
بَيَانٌ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُوجِبَةَ لِلشَّفَقَةِ جِبِلَّةً، وَلِلصِّلَةِ مُرُوءَةً تَمْنَعُ من سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ من أَهْلِ النَّارِ...
اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم في الآية الثمانين من هذه السورة أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين لأنهم كفروا بالله ورسوله، فاستغفار الرسول لهم وعدمه سيان. وتقدم في سورة النساء {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء:38 و 116]، وقد شرع الله للمؤمنين في أوائل سورة الممتحنة التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه في البراءة من قومهم المشركين ومن معبوداتهم، واستثنى من هذه الأسوة استغفار إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه، فقال: {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك من الله من شيء} [الممتحنة: 4]، وقد تبين هنا حكم الاستغفار لمن ذكر، وقَفَّى عليه بقاعدة التشريع العامة التي يُبنَى عليها الجزاء، فقال عزّ وجلّ:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} هذا نفي بمعنى النهي، فهو أبلغ من النهي المجرد، وهذا التعبير فيه يسمى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الشيء نفسه، لأنه نفي معلل بالسبب المقتضي له. والمعنى: ما كان من شأن النبي ولا مما يصح أن يصدر عنه من حيث هو نبي، ولا من شأن المؤمنين ولا مما يجوز أن يقع منهم من حيث هم مؤمنون، أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين.
{ولو كانوا أولي قربى} لهم في الأصل حق البر وصلة الرحم وكانت عاطفة القرابة تقتضي الغيرة عليهم وحب المغفرة لهم، "ولو "هذه تفيد الغاية، المعطوف عليه يحذف حذفا مطردا للعلم به، والمراد أنه ليس مما تبيحه النبوة ولا الإيمان، ولا مما يصح وقعه من أهلهما الاستغفار للمشركين في حال من الأحوال، حتى لو كانوا أولي قربى، فإن لم يكونوا كذلك فعدم جوازه أولى.
ثم قيد الحكم بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أهل النار الخالدين فيها بأن ماتوا على شركهم وكفرهم ولو بحسب الظاهر، كاستصحاب حالة الكفر إلى الموت، أو نزل وحي يسجل عليهم ذلك، كإخباره تعالى عن أناس من الجاحدين المعاندين من أصحاب النار خالدين فيها، أو أنهم طبع قلوبهم وختم عليها. وقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6]، ومثله في المنافقين {سواء عليهم أستغفرت لهم} [المنافقون:6] الخ.
وقد ورد في الصحيحين وغيرهما أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، إذ دعاه صلى الله عليه وسلم عند ما حضره الموت إلى قول (لا إله إلا الله) فامتنع، وأبو طالب مات بمكة قبل الهجرة، فهل نزلت الآية عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها، أم نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له؟ وروي من طرق أنها نزلت حين زار صلى الله عليه وسلم قبر أمه واستغفر لها، والله أعلم، والآية نص في تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، وكذا وصفه بذلك، كقولهم: المغفور له، المرحوم فلان، كما يفعله بعض المسلمين الجغرافيين الآن، لعدم تحققهم بمقتضى الإيمان، وتقيدهم بأحكام الإسلام...
وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب. ويؤيده أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد بعد أن شج وجهه: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصا بالأحياء وليس البحث فيه، ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان: متقدم وهو أمر أبي طالب، ومتأخر وهو أمر آمنة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمؤمنون الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أمة وحدهم، العقيدة في اللّه بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة. وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة. وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشأه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه؛ وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها. والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها -ولو كانوا أولي قربى- بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة... إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية. فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها، فلا لقاء بعد ذلك في نسب، ولا لقاء بعد ذلك في صهر، ولا لقاء بعد ذلك في قوم. ولا لقاء بعد ذلك في أرض.. إما إيمان باللّه فالوشيجة الكبرى موصولة، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها، أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف نسخ به التخيير الواقع في قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [التوبة: 80] فإن في ذلك تسوية بين أن يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهم وبين أن لا يستغفر في انتفاء أهم الغرضين من الاستغفار، وهو حصول الغفران، فبقي للتخيير غَرض آخر وهو حُسن القَول لمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ أهل للملاطفة لذاته أو لبعض أهله، مثل قصة عبد الله بنِ عبد الله بنِ أبَي، فأراد الله نسخ ذلك بعد أن دَرَّج في تلقية على عادة التشريع في غالب الأحوال. ولعل الغرض الذي لأجله أبقي التخيير في الاستغفار لهم قد ضعف ما فيه من المصلحة ورجح ما فيه من المفسدة بانقراضِ من هم أهل لحسن القول وغلبةِ الدهماء من المنافقين الذين يحسبون أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يَغفر لهم ذنوبهم فيصبحوا فرحين بأنهم ربحوا الصفقتين وأرضوا الفريقين، فنهَى اللّهُ النبي صلى الله عليه وسلم ولعل المسلمين لما سمعوا تخيير النبي في الاستغفار للمشركين ذهبوا يستغفرون لأهليهم وأصحابهم من المشركين طمعاً في إيصال النفع إليهم في الآخرة فأصبح ذلك ذريعة إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة فينتفي التفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان، فنهى الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معاً عن الاستغفار للمشركين بعد أن رخصه للنبيء صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [التوبة: 80]...
وجاءت صيغة النهي بطريق نفي الكون مع لام الجحود مبالغة في التنزه عن هذا الاستغفار، كما تقدم عند قوله تعالى: {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} في آخر سورة العقود (116). ويدخل في المشركين المنافقون الذين علم النبي نفاقهم والذين علم المسلمون نفاقهم بتحقق الصفات التي أعلنت عليهم في هذه السورة وغيرها. وزيادة {ولو كانوا أولي قربى} للمبالغة في استقصاء أقرب الأحوال إلى المعذرة، كما هو مفاد (لو) الوصلية، أي فَأوْلى إن لم يكونوا أولي قربى. وهذه المبالغة لقطع المعذرة عن المخالف، وتمهيد لتعليم من اغتر بما حكاه القرآن من استغفار إبراهيم لأبيه في نحو قوله تعالى: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} [الشعراء: 86]. ولذلك عقَّبه بقوله: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} [التوبة: 114].