مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (113)

قوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم }

اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم ، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم ، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم ، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها . الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام «أي أبويه أحدث به عهدا » قيل أمك ، فذهب إلى قبرها ووقف دونه ، ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمه وقال : نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء ، ثم زرت وبكيت ، فقال : «قد أذن لي فيه ، فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وإني لا أغني عنها من الله شيئا بكيت رحمة لها » الثاني : روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : «يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله » فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام : «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك » فنزلت هذه الآية قوله : { إنك لا تهدي من أحببت } قال الواحدي : وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا ، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام ، وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد ، فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية ، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضا يفعل ذلك ، ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه ، فهذا غير مستبعد في الجملة . الثالث : يروى عن علي أنه سمع رجلا يستغفر لأبويه المشركين قال : فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . الرابع : يروى أن رجلا أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال : كان أبي في الجاهلية يصل الرحم ، ويقري الضيف ، ويمنح من ماله . وأين أبي ؟ فقال : «أمات مشركا ؟ » قال : نعم . قال : «في ضحضاح من النار » فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام ، فقال : «إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار ، إن أباك لم يقل يوما أعوذ بالله من النار » . المسألة الثانية : قوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف ، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي : فالأول : معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين . والثاني : معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان . وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله : { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } وأيضا قال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار . فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وأنه لا يجوز . وأيضا لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذبهم . فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين ، وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحط مرتبته ، وأيضا أنه قال : { ادعوني أستجب لكم } وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين ، وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئا بعدما أخبر الله عنه أنه لا يفعله ، واحتج عليه بقول أهل النار { ربنا أخرجنا منها } مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك ، وهذا في غاية البعد من وجوه : الأول : أن هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون ، وذلك ممنوع ، بل نص القرآن يبطله . وهو قوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } والثاني : أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم ، أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز ، لأنه يوجب نقصان منصبه . والثالث : أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه إما أن يكون عبثا أو معصية . وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام .

المسألة الثالثة : أنه تعالى لما بين أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار ، وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأقارب أو من الأباعد ، فلهذا السبب قال تعالى : { ولو كانوا أولي قربى } وكون سبب النزول ما حكينا ، يقوي هذا الذي قلناه .