الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (113)

قوله : { ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } ، إلى قوله : { حليم }[ 113-114 ] .

والمعنى : ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين : { أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } منهم ، { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } ، أي : من بعد ما ماتوا على شركهم بالله ، سبحانه ، وقد قضى{[30088]} القرآن ( أن ){[30089]} من مات على الشرك ، أنه من أهل النار{[30090]} .

وهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب ، أراد النبي عليه السلام ، أن يستغفر له بعد موته ، فنهاه الله ، عز وجل ، عن ذلك{[30091]} .

وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبيه ، أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أمية{[30092]} : يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أُحاج لك بها عند الله . فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب ، أترغب عن{[30093]} ملة عبد المطلب ؟ فلم يزالا يكلمانه ، حتى قال آخر شيء تكلم به : أنا على ملة عبد المطلب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم{[30094]} : لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك . فنزلت : { ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الآية ، ونزلت { إنك لا تهدي من أحببت }{[30095]} ، الآية{[30096]}-{[30097]} .

الزهري عن ابن المسيّب قال : لما احتضر أبو طالب أتاه النبي عليه السلام ، وعنده عبد الله بن أبي أمية ، وأبو جهل بن هشام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقا ، وأحسنهم يدا ، لأنت أعظم من والدي ، فقل كلمة تجب لي يوم القيامة بها الشفاعة لك ، قل : لا إله إلا الله ، فقالا{[30098]} له : أترغب عن ملة عبد المطلب{[30099]} ؟ فسكت ، فأعادها عليه رسول الله{[30100]} ، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ومات .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرن له ما{[30101]} لم أُنه عن ذلك ، فأنزل الله : { ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } ، الآية{[30102]} .

وقال مجاهد قال المؤمنون : ألا نستغفر لآبائنا ، وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرا ؟ فأنزل الله عز وجل : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } ، الآية{[30103]} .

وقال عمرو{[30104]} بن دينار : قال النبي عليه السلام ، استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني الله عنه .

فقال أصحابه{[30105]} : فلنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي عليه السلام ، لعمه ، فأنزل الله عز وجل : { ما كان للنبيء والذين آمنوا } ، إلى : { حليم }{[30106]} .

وقيل : نزلت في أم رسول الله عليه السلام أراد أن يستغفر لها ، فمنع من ذلك{[30107]} .

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما قدم مكة ، وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس ، رجاء أن يُؤذن له فيستغفر لها/ ، حتى نزلت : { ما كان للنبيء }{[30108]} ، الآية قال ذلك ابن عباس وغيره{[30109]} .

ولم يختلف أهل العلم في الدعاء للأبوين ما داما حيين ، على أيّ دين كانا ، يدعى لهما بالتوفيق والهداية ، فإذا ماتا على كفرهما لم يستغفر لهما{[30110]} .

روي أن الآية نزلت في أبوي النبي عليه السلام ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ، سأل جبريل عليه السلام ، عن قبر أبويه ، فأرشده إليهما ، فذهب إليهما ، فكان يدعو لهما ، وعلي رضي الله عنه ، يؤمّن ، فنهي عن ذلك ، وأُعلم أن إبراهيم ، صلوات الله عليه ، إنما استغفر لأبيه ؛ لأن أباه وعده أن يُسلم ، ويترك عبادة الأصنام ، فكان إبراهيم يستغفر له طمعا أن يُؤمن . فلما مات على كفره ، تبرأ منه{[30111]} .

و " الموعدة " التي وعد إبراهيم أبوه هو أنه وعده أن يؤمن{[30112]} .

وقيل : بل هي كانت من إبراهيم لأبيه ، وعده أن يستغفر له ، حكى الله عنه أنه قال : { سأستغفر لك ربي }{[30113]} ، فلزمه إتمام وعده{[30114]} .

وقوله : { فلما تبين له أنه عدو لله }[ 113 ] .

فنهى{[30115]} الله ، عز وجل ، عن الاستغفار له تبرؤا منه .

وقيل : لما مات على كفره تبرأ منه .

[ فدل قوله : { تبرأ منه }{[30116]} ] على هذا المعنى ، أنه ( إنما ){[30117]} استغفر له وهو حي لوعد وعده ، أنه يؤمن ، فلما رآه لا يؤمن ، وأنه متماد على الكفر تبرأ منه .

وقيل : لما مات على كفره ، ( ولم يؤمن ){[30118]} ، تبرأ منه ، وترك الاستغفار له ، قال ذلك ابن عباس{[30119]} ، وغيره{[30120]} .

وقال ابن جبير : إنما تبرأ منه في الآخرة ، وذلك أن إبراهيم عليه السلام يسأل في والده يوم القيامة ثلاث مرات ، فإذا كانت الثالثة ، أخذ بيده ، فيلتفت إليه ، فيتبرأ{[30121]} منه{[30122]} .

و " الأوّاه " الدَّعَّاءُ{[30123]} .

وقيل : الرحيم . قال ذلك قتادة ، والحسن ، وروي ذلك عن ابن مسعود{[30124]}

وعن ابن عباس : أنه : الموفق ، بلسان الحبشة ، ( وكذلك قال مجاهد وعطاء .

وعن ابن عباس أيضا : " الأواه " بلسان الحبشة{[30125]} ، المؤمن التواب{[30126]} .

وقال كعب : " الأواه " الذي إذا ذكر النار تأوه{[30127]} .

وعن ابن جبير : أنه المُسبح ، الكثير الذكر لله{[30128]} عز وجل .

وروي ذلك عن النبي عليه السلام{[30129]} .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال لرجل : " يرحمك الله إن كنت لأواها " يعني تلاء للقرآن{[30130]} .

وقال كعب " الأواه " الكثير التأوه{[30131]} .

وعن مجاهد أيضا : أنه الفقيه{[30132]} .

وروى شدّاد بن الهادي{[30133]} ، قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الأواه فقال : المتضرع{[30134]} .

وفي حديث آخر : الخاشع المتضرع{[30135]} .

ومعنى { حليم } ، أي : حليم عمن ظلمه{[30136]} .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، أيضا " الأواه " ، الدَّعّاء{[30137]} .

وقاله ابن مسعود{[30138]} .

وأصل " التأوه " : الترجُّع والتوجع{[30139]} بحزنه{[30140]} .


[30088]:في الأصل: قض، وهو سهو ناسخ.
[30089]:ما بين الهلالين ساقط من "ر".
[30090]:جامع البيان 14/509 بتصرف.
[30091]:جامع البيان 14/509.
[30092]:في "ر": مية.
[30093]:عن تحرفت في الأصل إلى: /من و"المطلب إلى: مطالب.
[30094]:في "ر": رمز: صم صلى الله عليه وسلم.
[30095]:القصص 56 وتمامها {ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}.
[30096]:ما بين الهلالين ساقط من "ر".
[30097]:أخرجه البخاري في التفسير باب {ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}، رقم: 4398، وأخرجه مسلم من طرق. انظر: هامش تحقيق الشيخ محمود شاكر لجامع البيان 14/510. والأثر أورده عبد الرزاق الصنعاني في التفسير 2/288، 289، وابن أبي حاتم في التفسير 6/1894، والواحدي في أسباب النزول 266، 267، وابن الجوزي في الزاد 3/507، وخرج فيه. وابن كثير في تفسيره 2/393، والسيوطي في الدر 4/299، 300، ولباب النقول 217، مع زيادة ونقص في بعض ألفاظه.
[30098]:في الأصل: فقال، وهو تحريف.
[30099]:في الأصل: المطالب، وهو تحريف.
[30100]:في "ر" عليه السلام.
[30101]:في الأصل: ماله، وهو تحريف.
[30102]:جامع البيان 14/511، والدر المنثور 4/301.
[30103]:جامع البيان 14/410، 411.
[30104]:هو: عمرو بن دينار المكي، أبو محمد الأثرم، ثقة ثبت، توفي سنة 126 هـ تقريب التهذيب 358.
[30105]:في الأصل: أصحابه عليهم السلام فلنستغفر، وفيه ما ترى من الاضطراب والسقط.
[30106]:جامع البيان 14/511، والدر المنثور 4/300.
[30107]:جامع البيان 14/511، باختصار يسير.
[30108]:جامع البيان 14/511، 512، وعزي فيه لعطية.
[30109]:كأبي هريرة، وابن مسعود وبريدة، انظر جامع البيان 14/512، وأسباب النزول للواحدي 268، وتفسير البغوي 4/101، وتفسير ابن كثير 2/393، والدر المنثور 4/302، 303، ولباب النقول 218.
[30110]:انظر: جامع البيان 14/515، وأحكام القرآن لابن العربي 2/1022، وتفسير القرطبي 8/174، والبحر المحيط 5/108.
[30111]:أخرجه الطبري في جامع البيان 14/515، عن علي، مختصرا.
[30112]:إعراب القرآن للنحاس 2/238، وتفسير الماوردي 2/410، والمحرر الوجيز 3/91، وزاد المسير 509، وتفسير القرطبي 8/174، وعزاه إلى ابن عباس، والبحر المحيط 5/108. فعلى هذا القول تعود هاء الكناية إلى إبراهيم عليه السلام.
[30113]:مريم آية 47، والآية بتمامها {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا}.
[30114]:المصادر نفسها السالفة في القول الأول. وعلى هذا القول تعود هاء الكناية في {إياه} إلى آزر، والد إبراهيم.
[30115]:في "ر": ينهى.
[30116]:زيادة من "ر".
[30117]:ما بين الهلالين ساقط من "ر".
[30118]:جامع البيان 14/519.
[30119]:كمجاهد والحكم والضحاك، وقتادة. انظر: جامع البيان 14/519، 520.
[30120]:في الأصل: فتبرأ.
[30121]:جامع البيان 14/521، بتصرف.
[30122]:هو قول عبد الله بن مسعود في جامع البيان 14/523، 524، وتفسير الماوردي 2/410، وفيه "الدعاء، أي الذي يكثر الدعاء" وزاد المسير 3/509، وزاد، وبه قال عبيد بن عمير، وتفسير ابن كثير 2/394، والدر المنثور 4/305.
[30123]:جامع البيان 14/524-527، وزاد المسير 3/509، وفيه: "رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة". وتفسير ابن كثير 2/395 بلفظ: "قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي الغدير أنه سأل ابن مسعود عن "الأواه" فقال: هو الحريم، وبه قال مجاهد، وأبو ميسرة عمر بن شرحبيل، والحسن البصري، وقتادة وغيرهما أنه الرحيم، أي: بعباد الله".
[30124]:جامع البيان 14/527، 528، وزاد المسير 3/509، والدر المنثور 4/306 بزيادة نسبته إلى عكرمة والضحاك وفيها: "الموقن" مكان "الموقف". قال الشيخ محمود شاكر في هامش تحقيقه جامع البيان 147/527: "في المخطوطة في هذا الموضع، وفي أكثر المواضع التالية: "الموفق"، وفي بعضها "الموقن"، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب، فتركته على حاله، حتى أجد ما يرجحه". وفي هامش محقق تفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/290: "في "أم": الموفق". ولم أجد، فيما لدي من مصادر، من عزاه إلى ابن عباس بهذا اللفظ. ولعله من تحريفات النساخ، وربك أعلم.
[30125]:ما بين الهلالين ساقط من "ر"، بسبب انتقال النظر.
[30126]:جامع البيان 14/528، 529، وتفسير ابن كثير 2/395، والدر المنثور 4/306.
[30127]:جامع البيان 14/350، 531، والدر المنثور 4/305، وفيه "وأخرج أبو الشيخ عن أبي الجوزاء مثله".
[30128]:جامع البيان 14/529، وزاد المسير 3/510، وزاد نسبته إلى ابن المسيب، وتفسير ابن كثير 2/395، وزاد نسبته إلى الشعبي، والدر المنثور 4/306، من غير قول: "الكثير الذكر لله"، فهو زيادة أبي جعفر الطبري، من لفظه.
[30129]:أخرجه ابن جرير في جامع البيان 14/529.
[30130]:أخرجه ابن جريج في جامع البيان 14/530، وأورده ابن كثير في التفسير 2/395، وينظر: الدر المنثور 4/305.
[30131]:مضى توثيقه قريبا.
[30132]:جامع البيان 14/531، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1896، بلفظ: فقيه موقن، والدر المنثور 4/306، بلفظ: الفقيه الموقن.
[30133]:هو شداد بن الهاد الليثي، صحابي شهد الخندق وما بعدها، انظر: الإصابة 3/262، وتقريب التهذيب 206.
[30134]:أخرجه ابن جرير في جامع البيان 14/531-532، وأورده ابن كثير في التفسير 2/394-395.
[30135]:أخرجه ابن جرير في جامع البيان 14/532، وابن أبي حاتم في التفسير 6/1895، 1896، عن عبد الله بن شداد بن الهاد. ولفظ ابن أبي حاتم، الخاشع المتضرع الدعاء، وباللفظ نفسه أورده ابن الجوزي في الزاد 3/509، عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[30136]:انظر: بيان ذلك في جامع البيان 14/532.
[30137]:ذكره الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 2/473، وقال عقبه: والأواه في أكثر الرواية: الدَّعّاء. وهو الاختيار عند ابن جرير جامع البيان 14/532، لأنه المتناغم مع السياق.
[30138]:انظر: توثيق ذلك فيما سلف قريبا، والمصادر هناك، وأضف إليها، المحرر الوجيز 3/91، وتفسير القرطبي 8/174، وفيه: وهو أصح إسنادا قاله النحاس.
[30139]:في "ر": الترجع، وهو مجرد سهو.
[30140]:انظر: اللسان/أوه، و: رجع.